الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

مهرجان الجونة دورةً ثانية: أفلام معارِضة وواقع موالٍ

المصدر: "النهار"
مهرجان الجونة دورةً ثانية: أفلام معارِضة وواقع موالٍ
مهرجان الجونة دورةً ثانية: أفلام معارِضة وواقع موالٍ
A+ A-


الدورة الثانية بمنزلة امتحان، وهذا ما يخوضه #مهرجان_الجونة (20 - 28 أيلول) هذه الأيام. النسخة التأسيسية نجحت، بحسب شهادات كثيرة. ولكن ما هو النجاح، وكيف يُحتسب وهل من معاير يجب الالتزام بها لتقييمه؟ يصعب الحسم من دون الرجوع إلى مطامع أصحاب المشروع وتطلعاتهم. ماذا يريدون من هذا الحدث الذي يجري وسط الصحراء، بعيداً من كلّ مظاهر الحياة الثقافية والفنية؟

ما تبدى جلياً إلى الآن هو أن الجونة يقوم على مزيج من أشياء عدّة لا تتناقض في طبيعتها واحدها مع الآخر. هذه خلطة أثبتت فعاليتها في الكثير من الدول. من ضمن هذا المزيج: الترويج لقرية سياحية بهدف وضعها على خريطة الأماكن التي ينبغي زيارتها… فمِن بين كلّ الذين أعرفهم، لم يكن أحد قد سمع عن الجونة قبل مهرجانه. ولكن، كأي تظاهرة سينمائية، هناك القليل من كلّ شيء. فهاوي السباحة والسهر واللقاءات الاجتماعية والبرستيج والبهرجة وعرض الفساتين، لن يخيّب ظنّه (منشفة بحر تُوزَّع مع شنطة المهرجان تحمل شعار "أفلام خلال العطلة")، تماماً مثل ظنّ الطامح لمشاهدة تشكيلة من أحدث الأفلام التي عُرضت حديثاً في أهم المهرجانات السينمائية.

هناك في مصر هوسٌ بما يسمى حفلي الافتتاح والختام اللذين تميل الصحافة الصفراء التي لا تشاهد الأفلام ولا تهتم بها (لحسن الحظ؟) إلى تقييم كلّ شيء انطلاقاً منهما. صحيح أن الافتتاح في مسرح المارينا الذي قدّمته ريّا أبي راشد كان أقل تألقاً من حفل السنة الماضية، الا انه لا يُمكن اعطاؤه قيمة أكثر من كونه مناسبة لوضع الأمور في نصابها بعد دورة أولى، والتأكيد أن السينما ليست مجرد اكسسوار (خطاب مدير المهرجان انتشال التميمي). استطراداً، غامرت ريّا أبي راشد على أرضية لا تملك السيطرة عليها: الطرافة وخفّة الدمّ بـ"مدرستها" الأميركية الحديثة، أي التودد للـ"نجوم" والحضور، فأثبتت بالدليل الدامغ أن إضحاك المصريين مهمّة غير سهلة. لحسن الحظ، جرى تبادل ظريف بين سميح ساويرس (مؤسس المهرجان) ومحافظ المدينة. فالأول شكر الثاني بتوفير طقس جيد لأمسية الافتتاح، كـ"انتقام" لتصريح الثاني الذي قال إن ساويرس يفرض رأيه دائماً. شهد الحفل أيضاً منح الممثّل البريطاني كلايف أوون (مرّ سريعاً بعد كلمات شكر مقتضبة) جائزة "عمر الشريف"، وتكريم كلٍّ من المخرج المصري داود عبد السيد والمنتجة التونسية درة بوشوشة. لا يزال المهرجان يلتزم بسياسته في تكريم ثلاثة أشخاص في الافتتاح: أجنبي، مصري وعربي.

السجّادة الحمراء ليلة الافتتاح مدّت الصحافة بعناوين سطحية براقة ستشغل هواة النميمة، من مثل: "أكثر فساتين صدمت السوشل ميديا"، "هل يسخر هنيدي بهذه الصورة بسبب عدم دعوته لحضور مهرجان الجونة؟". أو: "هكذا رد عمرو سعد على السخرية من إطلالته" أو "فستان غادة عادل يُحرجها... تعثّرت مرتين"، و"اختلال توازن عادل إمام في حفل افتتاح الجونة".



خضعت الدورة الحالية لبعض الـ"ليفتينغ"، على سبيل التحسين، كتغيير موقع الشاشة في مسرح المارينا (مسرح مفتوح) ونصبها مع اتجاه الهواء، كي لا تتكرر تجربة العام الماضي، عندما صارت الرياح تلعب في الشاشة. عدد الضيوف تقلّص، ربما الرهان مع الوقت هو الحدّ من الضيوف واستقطاب جمهور محبّ للسينما يتنقّل من مدن أخرى قاصداً الجونة لمشاهدة الأفلام على نفقته الخاصة، وهذا النوع من المشاهدين مرشّح أن يكون أكبر عدداً في المستقبل.

الجونة جمع في هذه الدورة أفلاماً من المهرجانات الدولية الأهم. بعضها من برلين، وبعضها من كانّ، والعدد الأكثر من فينيسيا الذي اختُتِمت دورته الأخيرة قبل نحو اسبوعين. الفترة الزمنية القليلة بين العرض العالمي الأول للفيلم وعرضه في الجونة تضمن للمهرجان مكانة بارزة وسط المهرجانات الأخرى المنافسة، وتجذب الصحافة، وإن من المفترض أن هذا الحدث يتوجّه أولاً وأخيراً إلى جمهور محلي لم يشاهد أيّاً من هذه الأفلام بعد.

يتضمّن البرنامج: "سارقو المتاجر" للياباني هيروكازو كوريه إيدا الفائز بـ"سعفة" كانّ هذا العام، و"حرب باردة" للبولوني بافيل بافليكوفسكي الفائز بجائزة الإخراج (كانّ)، وتحفة التركي نوري بيلغي جيلان، "شجرة الإجاص البرية" الذي استُبعد من جوائز كانّ، و"لازارو فيليتشه" للإيطالية أليتشه رورفاكر (جائزة السيناريو - كانّ). لإيطالي آخر هو ماتيو غاروني يُعرض "دوغمان". ممثّله مارتشيللو فونتيه نال جائزة التمثيل، دائماً وأيضاً في كانّ. وقد حضر الأخير إلى الجونة لتقديم الفيلم. دائماً من كانّ ودائماً من إيطاليا، هناك فيلم ستيفانو سافونا، "طريق سمونا"، الذي شاهدناه في قسم "أسبوعا المخرجين". من برلين، فيلمان مهمّان: "وجه" للبولونية مالغورزاتا زوموفكسا (جائزة لجنة التحكيم الكبرى) و "الوريثات" للباراغوياني مارسيلو مارتينيسّي (جائزة التمثيل لآنا برون).

كما ذكرنا، الحصّة الأكبر للأفلام التي عُرضت في البندقية. هناك ما لا يقلّ عن عشرة أفلام شاهدناها في جزيرة الليدو مطلع هذا الشهر، وسيكتشفها رواد الجونة في الأيام المقبلة. من هذه الأفلام، الباكورة الروائية للمخرجة السورية سؤدد كعدان، "يوم أضعتُ ظلي"، الفائز بـ"أسد المستقبل" في فينيسيا. إلا أن كعدان وفريقها رُفضت تأشيراتهم فتعذّر حضورهم. ولكن الفيلم شق طريقه إلى الشاشة. حادثة مماثلة طالت أيضاً الممثّل الفلسطيني علي سليمان (من عرب ٤٨)، عضو لجنة التحكيم، الذي تم ترحيله على الطائرة نفسها التي وصل بها من إسطنبول إلى القاهرة، من دون أن يعطيه الضابط حتى الحق بالسؤال عن سبب منعه من دخول مصر. المهرجان في خطوة رمزية لم يستبدله بعضو آخر.

لا بدّ أن يحملنا هذا إلى نهج معين في مقاربة السينما عند النقّاد بات مكرّساً في مهرجانات هذه المنطقة: القراءة المتهافتة للأفلام العربية من وجهة نظر سياسية ضيقة، بعيداً من أي موضوعية. كلّ ناقد يُسقِط على الفيلم استيهاماته ويقاربه نقدياً انطلاقاً من قناعاته الإيديولوجية ومواقفه السياسية بلا أي اعتبار للخطاب الذي أراد صاحب الفيلم قوله. لا شيء يغيّر اصطفاف البعض.

فبعضهم، على سبيل المثال، دعم نقده لـ"يوم أضعتُ ظلي" بحجج فنية، وهذا حقٌ مشروع، ولكن بعضهم الآخر أراده تصفية حساب بين الموالاة والمعارضة، فاعتبر الفيلم نصيراً للمنظّمات الإرهابية وعملية تلميع لصورتها، وهذا كلام مثير للسخرية. في أي حال، لا يمكن الخروج بأفضل من هذا مع المناخ السياسي الشائع اليوم في مصر والكثير من بلدان المغرب العربي. وهذا الشيء كان واضحاً منذ الافتتاح، عندما ذُكر ما يحصل في سوريا وكم أن هذا انعدامٌ للإنسانية (المهرجان يرفع شعار "سينما من أجل الإنسانية")، فلا أحد تفاعل، في حين أُغرقت الصالة في التصفيق ما إن سمعنا اسم فلسطين. في مخيلة بعضهم، هناك هرمية في المآسي: فلسطين في القمّة، والباقي تفاصيل.

السجال لم يوفّر كذلك "عن الآباء والأبناء" للمخرج السوري طلال ديركي، هذا الفيلم الذي لفّ على ما لا يقلّ عن ٧٠ مهرجاناً، وفاز بعدد من الجوائز. يدخل ديركي البيئة التي تسيطر عليها السلفية في قرية سورية، عبر التعريف عن نفسه بصفته المصوّر الصحافي المتحمس لتلك الأفكار، مدركاً انه لا حل آخر لضمان نيل ثقة هؤلاء، سوى أن يكون منهم ويتظاهر بأنه يفكّر مثلهم ويعيش وإياهم لفترة من الزمن. فهكذا نتعرف إلى السلفي أبو أسامة الذي يحارب في احدى الفصائل المسلحة التابعة لـ"جبهة النصرة". بعد عرض الفيلم، حصل نقاشٌ، شارك فيه الممثّل السوري جمال سليمان، الذي نعت مقاربة الفيلم بالـ"مضللة"، وعاتب المخرج لعدم احاطة المُشاهد بكلّ المعلومات ليفهم الشأن السوري، ففي رأيه، قد يظنّ البعض أن النظام السوري يحارب هؤلاء الأشخاص. هو مقتنع أن هذا الفيلم يمنح ذريعة لأنصار النظام للقول أن النظام أرحم من الإرهابيين.

عرض "يوم الدين" للمصري أبو بكر شوقي في الهواء الطلق كان ذروة اليوم التالي للافتتاح. الفيلم دخل مسابقة كانّ في أيار الماضي، ورُشِّح قبل أيام ليمثّل مصر في حفل الـ"أوسكار"، فئة أفضل فيلم أجنبي. بطل الفيلم، راضي جمال، الرجل الأربعيني المصاب بمرض الجذام، كان حاضراً وقد اعتلى المسرح. يضطلع الأخير بدور بشاي الذي يقوم برحلة تدريبية بعد خروجه من مستعمرة أبو زعبل للمرة الأولى في حياته، بهدف البحث عن عائلته. كانت لحظة انفعال صفّق لها الجمهور لدقائق. فاز الفيلم بترحيب الحضور. حتى نجيب ساويرس غرّد على تويتر ناصحاً بمشاهدة هذا العمل الذي يصوِّر مصرٍ لا نعرفها في السينما، مصرٍ مرشّحة أن تبقى على الهامش لفترة من الزمن.

يوسف شاهين كان الغائب الحاضر في الجونة. في ذكرى مرور عشر سنوات على رحيله، خُصِّصت له أمسية موسيقية: عزف أوركسترالي لألحان من أفلامه. مقطوعات من "المصير" و"المهاجر" وغيرهما، بقيادة المايسترو هشام جبر، مع مَشاهد بُثَّت على شاشة مسرح المارينا المفتوح. رغم طابعها الاحتفالي والتكريمي والوجداني الذي نفهمه وندركه، فالأمسية كانت مناسبة لنلحظ أن الموسيقى لم تكن أعظم ما في أفلام المعلّم، أو على الأقل لا تتجزأ عن حركة الكاميرا ولا تنسلخ من الحوار ووجوه الممثلين. تم استخدام مقاطع مصوّرة لشاهين يعترض فيها على كلام صحافي يصفه كشخص ينتمي إلى العالم الثالث. في محلات كثيرة، كان شاهين معارضاً، عارض "أغبياء الرقابة" والقضاة المسيسين ودبليو بوش وغيرهم. للأسف، لن نعرف رأيه بالواقع العربي، الآن وهنا.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم