الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

بعضُ باريس من صُنْع آبائي

المصدر: "النهار"
نجم الدين خلف الله
بعضُ باريس من صُنْع آبائي
بعضُ باريس من صُنْع آبائي
A+ A-

ساعةُ الذُّروة لا تَرحم. كان مترو الأنفاق مُزدحِمًا بالرُّكاب. انشغل كلُّ واحدٍ منهم بهواجسه. غاب بعضُهم في ذكرياتِهِ وهمومِهِ، وغَرق الآخرون في مطالعة كتاب أو تصفُّح جريدة. تتراقص العناوين فوق هامات الركاب وتتداخل أحرفُها.  

 تَوقَّف المترو في محطة بئر حَكيْم Bir–Hakeim، تلك التي تُشرف على بُرج إيفل. ومن رصيف المحطة الرصاصي، دلف رجلٌ "ذو ملامح مغاربية"، كما يطيب للشرطة أن تقول كلما حصلت جريمة وفرَّ مُرتكبُها. كأني أعرف هذا الرجل : قصيرُ القامة، نحيف البِنيَة، تميل بَشرته إلى السمرة. وأما شعره فامتزج شيبُهُ ببقية سَوادٍ. وبصعوبةٍ وتململٍ، استوى في الممر الذي يتوسط المقاعد الخضراء. أطلق عقيرَتَه بالغناء:

يا الرَايح وين مَسافِر، تَروح تَعْيَى وتُوَلِّي

شَحال (كم) نِدموا العباد الغافلين، قَبلَك وقَبلي

شحال شُفت البُلدان العامرين والبرّ الخالي...

  وما إن أتمَّ المقطع الحزين حتى انبرى يسرد أسماءَ محطات المترو الواحدة تلوَ الأخرى: بدءًا من تلك الممتدة على طول الخط (1)، الواصل بين قَصر فَنسان وناطحات سحاب La Défense. أخذ بعدها يعدد مَحطات الخط (2) بالتفصيل، ثم الخط (3)، والذي يَليه حتى وصل إلى الخط (14)، أحدثِ الخطوط بناءً. كان يسرد أسماء المحطات بتسلسلٍ نسقي، لا يتردد فيه ولا يتعثر، كأنما يراها ماثلةً أمامه.

 في البداية، بدا على وجوه الركاب شيءٌ من التبرم:

- ما أكثرَ المتسولين في قطارات باريس!

- ما أمكرَ حِيلهم لجمع المال!

- متسول يَحفظ معالم باريس يسردها بعد موشحٍ عربي؟

    وسرعان ما أصغوا إليه باهتمامٍ وانبهارٍ. ولكن بقي في نفوسهم شيءٌ من سوء النية، دفع بَعضهم إلى التحقق من صحة تعاقب الأسماء في خارطة باريس، المُلصقة على واجهة القاطرة.

- كأنِّي أعرف هذا الرجل. أين رأيته؟ كيف أستدرجه للحديث بدلاً من هذا السرد الآلي لأكثر من ثلاثمائة اسمٍ؟ كيف أنزع عنه سيماء الجنون التي تلفُّهُ؟

       نزلت معه في المحطة الموالية. دَعَوته بإلحاحٍ إلى قهوةٍ. أشاح بوجهه يتصنَّعُ الهَبَل. دسست يدي في محفظتي أبحث عن ورقة نقدية، فظهر فيها كتابُ: "تاريخ المعالم الباريسية"، كان معي صدفةً. صاح:

- باريس يا جنتي ويا ناري.

       كانت تلك العبارة كافيةً لإعادتي سبعًا وعشرين سنة إلى الوراء. هل هو زَميل الدراسة ...؟ نَسيت اسمَه. منذ ما يقرب من ثلاثة عقود، قَدمنا معًا من الجزائر لمواصلة الدراسات العليا في قسم التاريخ.

- أنا جزائري، من سوق أهراس. كنا أربعةَ طلابٍ. وَفَدنا على باريس بمنحة جامعية لمواصلة الدكتوراه تحت إشراف مؤرخ فرنسي شهير. عند وصولنا، رفض تسجيلَنا معه مختلقًا أعذارًا واهيةً. لم يقبل منا إلا طالبًا واحدًا، نسيت اسمَه ولم نفهم سبب قبوله ولا رفضه. ظللنا أشهرًا طويلةً مُعلَّقين بين إدارة الجامعة ومصالح الهجرة سعيًا لتسوية "وضعنا القانوني". كانت نظرات الموظفة قاسية حين تقلِّبُ وثائقنا بازدراء:

- لا بد من وثيقة التسجيل. من دونها لا أستطيع لكم شيئا.

- أصرَّ المؤرخ على رفضه الغادر. وتعقَّدت بلا نهاية الإجراءات الإدارية للحصول على إقامة. وبين عشية وضحاها، صِرنا "مهاجرين غير شرعيين"، بسبب انقضاء آجال التسجيل. وأما الطالب الرابع فلم نَرَهُ من وقتها. باريس يا جنتي ويا ناري.

- وكيف سُويت المسألة بعد؟

- قرر الزميل الأول الالتحاق بأحد مساجد الضواحي الباريسية وأصبح إمامًا خطيبًا هناك، يؤم المصلين ويدرِّس أبناءهم اللغة العربية وأشياء أخرى. وأظنهُ انتهى في السجن بتهمة الإرهاب. وقرر الثاني أن يضاجعَ أربعين امرأة باريسية للانتقام من شرفه. وقتها، كاد أن يحفظ "موسم الهجرة" عن ظهر قلبٍ. سمعت أنه صار من أغنى أصحاب الحانات بباريس. أما أنا فراهنت على حفظ كل أسماء محطات المترو بالترتيب ومعرفة التواريخ الخاصة بكل اسمٍ.

- ولم اخترتَ هذا الرهان الغريب؟

- لأثبتَ للمؤرخ أنَّ بعض باريس من صنع آبائي وأجدادي وأذكِّرَه أنَّ أحجار محطات المترو شُيِّدَت من لَحمهم، واختلط ترابها بعَرقهم، بعد أن راحت أنفاسهم في ظلماتها الرطبة وغارت جهودُهم بين الأقبية الباردة والدواميس اللزجة.

- هل قابلته؟ هل أثبتَ له أنَّ بعض باريس من صنع آبائك؟

- طبعًا. كان ذلك جزءًا من الرهان: مكافحة المؤرخ في مَكتبه. تحديته أن يسألني عن تاريخ خمس معارك ممن خُلدت أسماؤها في محطات المترو.

- هل قَبِلَ اللعبة؟

- بل قَلَب قواعِدها بِغَدره المعهود. طلبَ مني أن أسأَلَه أنا عن خمسة أحداث مغمورة من تاريخ الجزائر.

- عمَّ سألته؟

- عن ترتيب معارك الكفاح الجزائري المسلح حسب عدد الضحايا. كانت إجابته دقيقة. وبمكره، ذَكَر عدد الضحايا من الجانِبَيْن، مشددا أنه استقى إحصاءاته من أرشيفات المستشفيات والمصانع والمعاهد هناك. ختم قائلاً:

- بعضُ الجزائر من صنع آبائي وأجدادي.

عدت إلى المترو. رأيت أسماءَ المحطات تتراقص فوق هامات الركاب وتتداخل حروفها، ثم تتجسد وجوهًا مغاربية، كالحةً مغبرَّة. كأنَّ قطرات عرقٍ تسيل على تعاريج الكلمات وقد يميل لونها إلى حُمرة الدم.

كنتُ ذلكَ الطالبَ الرابع.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم