الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

في أنني لم "أربِّ" ولديَّ

غسان صليبي
في أنني لم "أربِّ" ولديَّ
في أنني لم "أربِّ" ولديَّ
A+ A-

(إلى ابنتي وابني) 

ازعم أنني لم "اطبق" على ولديَّ، وهما صغيران، تربية معينة، على رغم أنني في ممارستي المهنية تعاطيت بالتربية، بنظرياتها وأساليبها.

نادرا ما ناقشنا، زوجتي وانا، "سياسة تربوية" قررنا اتباعها، ولو اننا كنا كثيرا ما نتفق او نختلف امام مشكلات محددة واجهتنا مع الولدين.

لا اذكر اني وضعت يوما أهدافا لتربيتي، من مثل انني أريد من ولديَّ ان يتكلما او ان يتصرفا بهذا الشكل، او ان يصبحا بهذه الشخصية او تلك، او ان يمارسا هذه المهنة او تلك.

دربت الكثيرين على التخطيط الاستراتيجي، لكنني لم يخطر ببالي يوما ان اضع استراتيجيا للتعامل مع ولديَّ. بالكاد لجأت إلى مقاربات محددة في الحالات التي كانت تتطلب تدخلا ملحا.

أسأل نفسي اليوم عن السبب: هل هو انغماس كامل في حياتي المهنية؟ عدم مواجهة مشكلات صعبة مع الاولاد استدعت اعادة النظر في السلوك والتفتيش عن "تربية" ملائمة؟ ام ان السبب هو اقتناع عميق بأن "أولادكم ليسوا لكم"، كما علمنا "نبي" جبران وكما غنت لنا فيروز؟

لا ادعي انني اعرف السبب الاهم، ولربما كانت اسبابا متعددة ومتقاطعة. لكنني اعرف جيدا في المقابل انني كنت مطمئنا لهذه "التربية" التي لم امارسها ولم اشأ تحديدها.

اطمأننت مثلا، ان ابنتي تتربى تربية جيدة، عندما سألتني وهي صغيرة، "مين الشيف chef بالبيت؟"

لم اعرف من اين جاءت بفكرة "الشيف" هذه، من الأهل او من المدرسة او من الجيران. لكنها بدت كأنها تعيد النظر فيها في غياب "الشيف" في بيتها.

كذلك ابتسمت لها واذعنت، عندما طلبت مني الا ادخل إلى غرفتها، لأنها هي وابنة خالتها يعتزمان غلق الباب.

علمت ايضا ان ابني يتربى تربية جيدة، عندما تجرأ وسألني وهو صغير، "هل تشعر احيانا انك اثنان، الثاني هو انت ايضا، لكنه يقول ما لا تريد ان تقوله انت، من مثل ان يشتم يسوع مثلا؟".

وقد عاد ابني في اليوم التالي ليعلمني بأن الشتم هذا قد اختفى.

ربما لأنه فهم مني، ان يسوع هو نقيض الذي اخافوه منه.

او ربما لاني اوضحت له، ان هذا الشتم موجود في داخلنا جميعا، وهو يساعدنا على ان نفهم حقيقة ما نشعر به، وخاصة تلك المشاعر التي نخاف ان نعترف بها او ان نعبر عنها.

صحيح اني كنت متأثرا ولا أزال بفكرة "التربية الحرة" وبتجربة سمرهيل summerhill، المدرسة النموذجية في إنكلترا الذي أسسها الكسندر نايل الى ان الطفل هو طيب بطبيعته وهو يصبح فاضلا وعادلا بشكل طبيعي اذا ما سمح له بالنمو بدون ان يفرض عليه الكبار اخلاقياتهم. من الضروري ان نوفر للطفل فسحة ووقتا وقدرة على الاستكشاف الشخصي، بعيدا من الخوف من الكبار ومن عقوباتهم.

لكني الأحظ اليوم اني وإن كنت قد ذكرت هذه التجربة امام ولديَّ، الا اني لم "القنهما" دروسا نقلا عنها، كما اني لم ادخل كثيرا في التفاصيل ولا طلبت منهما قراءة الكتاب عندما كبرا.

اعتقد اني لم "اعلم" ولديَّ الحرية، لقد تركتهما ببساطة يعيشان الحرية. وقد كنت اصلا حريصا على تعليمهما في مدرسة علمانية، تحديدا من اجل هذه الحرية التي هي في اساس الفكر العلماني.

لكني في الواقع لم أطمئن الى "تربية" ولديَّ، فقط بسبب هذه الحرية التي رأيتها تتفتح وتزهر في اقوالهما وافعالهما.

الاهم من ذلك لي، هو ما لاحظته عندما كبرا، في ما يتعلق بـ"نزعتهما الانسانية": الموقف المبدئي الرافض للعنف والظلم والاستغلال والتمييز، والميل التلقائي للصدق والحب والتعاون.

اقول "المبدئي" و"التلقائي"، لان الموقف والميل لديهما، ليسا بدوافع إيديولوجية، ولا نتيجة التزامات سياسية او دينية.

هنا ايضا انا لم "القن" ولديَّ "مواقف"، لا اجتماعية ولا سياسية، ولو اني منذ ولادتهما اتخذت امامهما المواقف الاجتماعية والسياسية. وتراني اليوم اعاني بعض الشيء اذا ما حاولت تشجيعهما على الانخراط اكثر في قضايا مجتمعهما.

لعلني تعاملت معهما اكثر بصفة "الصديق الراشد" وليس بصفة "الاب". ربما مزجت بين الاثنين، ولا سيما تلبية لرغبة زوجتي المتكررة في ان ألعب اكثر دور "الاب".

لا اعرف تماما ملامح "صورة الاب" التي نتجت من هذا المزج، وكيف أثرت هذه الصورة في تكوين شخصية ولديَّ. وارجو ان يكون الأثر قد جاء لصالح استقلاليتهما وقدرتهما على الحب في آن واحد.

نعم انا لم "أربِّ" ولديَّ، لكني اعتقد اني احببتهما وشجعتهما ووقفت إلى جانبهما. ولم ألجأ الى تخويفهما، ولو اني ضعفت و"عاقبتهما" في حالات نادرة، طالبا منهما "التفكير" في ما فعلاه.

فأنا لم اشأ ان أُدخل المدرسة الى البيت، حتى لو كانت علمانية.

واتمنى ان اكون قد استطعت، بالتعاون مع زوجتي، وهدفنا كان سعادة ولدينا، ان نقطع حلقة او اكثر من هذا المسار والمصير البائس، الذي يجعل من البيت تحضيرا كئيبا للمدرسة والمدرسة اعدادا مضنيا للعمل بـ"اقتناع" في الشركة، والشركة تأهيلا مكثفا للاندماج بـ"سلاسة" في التركيبة السياسية.


الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم