الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

وعصفت الأهواء بمترجمٍ مُحَلَّف

المصدر: "النهار"
نجم الدين خلف الله
وعصفت الأهواء بمترجمٍ مُحَلَّف
وعصفت الأهواء بمترجمٍ مُحَلَّف
A+ A-

ما كنتُ أتوقع أنَّ تلك الجُمل المُقتضبة والعبارات المتناثرة التي تبادلناها، عبر الهاتف أو في مكتبي، ستقذف بنا في أغوار الهاوية، وترمينا إلى حيثُ لا قرار. كنت أعوِّل على صرامة مهنتي، وأحتمي ببُرود الترجمة الإدارية من ارتدادات لقاءاتنا. فشلت صلابة الوثائق. انتكس أسلوبها الرسمي. انفلتت مغامرة الوَجد، ولن يضمن أحدٌ، بعد بلوغها هذا الحد، عوْدَتنا منها سالميْن. لن تظل أشياؤنا البسيطة على حالها بعد أن تصدَّع الهيكل: قد تأمر المحكمة بغلق مكتبي، وقد تفارقين زوجَك، أو قد يثأر لشرف العائلة أخوك، العقيد المنشق.   

أعتقد أننا لم نُحسن تقدير المآلات، ولم نحسِب حسابَ كلماتنا العفوية: بدأت صيغَ مجاملةٍ، بيني وبينك: لاجئة تائهة في أرض باردة، ومترجم مُحَلَّف يناور وثائق الإدارة الفرنسية، ويتظاهر بإجادة لغتها، فينقل إليها ثرثرة الإدارات العربية وركاكة بنودها. وسرعان ما تحولت ضحكاتُنا الجَذْلى - حين كنت تأتين لترجمة وثائقك - إلى لغم موقوتٍ، قادرٍ أن ينسف، في أي لحظةٍ، سمعة، بطبيعتها هشة، وأن يكسر سمعة موظفٍ، تزاحِمه برامجُ الترجمة الآلية. عن آلام الهجرة القسرية، ووحشة اللجوء، ونظرات العداء، تحادثنا مرارًا في مكتبي، أمام بعض الحلوى التي كنت تحملينها معك كل مرة.

وانفلت مِنا زِمام الأمور، ولم تَعد جُملنا تسير حسَب قواعد اللعبة التي سطرناها، في صمتٍ، مثل تلك التي تُسَطَّر في بعض العقود، وأعاني في ترجمة بنائها المُلتبس، وتدفعني صعوبتها إلى التلاعب بها، وحتى حذف بعض كلماتها، وخيانة النصِّ وروحه، رغم اليمين الذي أدَّيته أمام المحكمة. نَويتُ يومَها صادقًا أن ألتزمَ به. ذهبت محادثاتنا، وظاهرها مِهَني صِرف، في كل الاتجاهات. ذات لقاءٍ، شرحتُ: "تفيد كلمة : « sens »، في لغة موليار، معانيَ كثيرة ومتضاربة: اتجاه، معنى، وجه، مغزى، عقل، حسِّ... وهي من أمكر كلمات الفرنسيين وأعظمها كَيدًا". وغدت محاوراتنا تنطوي أكثر فأكثر على مثل هذه المتشابهات، وصرتُ أكابد في تأويلها والجواب عنها، مثل ما أكابده في صيغ البنود الملتبسة التي تملأ وثائق الإدارة. في مهنتي الباردة، تخيف الصياغة الصريحة لهذا الضرب من البنود، وتُخانُ الوثيقةُ إن لم أنقل غموضَها على عِلاته، ولذلك أماري في ترجمتها أو أطمسها. وكذلك، كنت أقابل إشاراتك الغامضة، وأرجئُ تأويلها، وأعدد معانيها، أو أحذف بعضها حين كنتِ تتفننين في إجبار الكلام على قول أشياء، تُباين ما تواضعنا عليه. وكنا على وعيٍ أننا لا نقصد معنى أقوالنا الظاهرة.

في تلك العشية، ترافقنا في الطريق باتجاه محطَّة القطار، مُتَذَرِّعَيْن بمواصلة حوارٍ عن استحالة نقل مفردات الثقافة، وما تنطوي عليه من فِخاخٍ ومحاذير. رأيتكِ على وشك التداعي، في لحظات لذيذة تَسبق السقوط، توهمنا أنَّ شجاعتنا ستقينا، وأقنعتُ نفسي أننا مازلنا صامدَيْن، بينما بدأنا في التهاوي، مثل طائرة فَقَد رُبَّانها السيطرة. ساح الماء تحت أقدامنا، ينخر البِلاط المتصدع. قصصتِ عليَّ كيف فررتِ من فظاعة القصف، حاملةً معك وليدَكِ الذي لم يتجاوز السنة، والطائرات العمياء تقصف المدنيين دون رحمة. حاولتِ الاحتماء بأول بيتٍ اعترضك، فنهرتْكِ من داخله نسوةٌ جَزِعاتٌ، ولا ملامَ عليهن، فقد غرَق البلد كله في دوامة حربٍ مُرعبة. وأمام صياحكِ، أمًّا مَروعَةً، عاد إليهن شيءٌ من حياءٍ شرقي، ففتحن لكِ الباب، ودلفتِ في اللحظة الأخيرة، قبل أن يسقط صاروخ قاتلٌ، انفجر وسط الشارع: رأيت الموتَ بعينيك، ونجوت بمعجزة، فَضممت ابنَكِ مُنهارةً. وها أنت اليوم، تَمشين جَنبي، في اتجاه محطةٍ، فخمة عتيقة، تزين جسدَكِ الناعمَ أناقةُ ألوان زاهية ومتناسقة: حياةٌ في أصْفى معانيها.

لا يزال القناع مُثبتا على الوجوه. تكفي شعرةٌ واحدة ليسقط، فيجرحَ الخدود. نرقص على شفا المُواضعات وحدود النواميس، تتعقبنا أصداء الماضي، وتنقض علينا، تنهشنا كحياتٍ ضاريةٍ. تواصلين كلماتِك، وتلين نبراتُ صوتك الدافئة، مراوحةً بين دلالٍ ومرارةٍ وحياء. تكفي كلمةٌ يتيمة ليتداعى السقف المتصدعُ، وتتشقق أرضية البلاط النَّخرة. جدران مكتبي من خشبٍ فارغ، صمودُها كأيمانٍ كاذبة، ريثما تُحنثُ. "لا تقطعي شعرةَ معاوية".

في هذه اللحظة الحاسمة، لا أدري إن كنا قادريْن على التحكم أكثر في مسار الحكاية التي تِهنا في فصولها، رغمًا عنا. رأيتك وقد كادت الدفة تنفلتُ من يَديْك، وأوشكت عيوننا على ابتلاعنا، لولا تردد خفيٌّ لصيحات أخيك، العقيد المنشق، تدبُّ فجأة في أوصالك، فتُرَوِّعك وتسَكِّنُ في العروق اندفاعَ المغامرة. غالبتُ ابتسامتكِ وأنا أودِّعُك وتفارقنا بسلام...لأقل من ساعتيْن.

رأيتكُ بعدها مُشرقةَ المُحيا، تُطلين مثل نَوْرَسَةٍ بيضاء في خيالي. أدركت أنني انهزمت، وأنَّ لعبتنا اللذيذة انتهت: لا بد أن تستدعي الجملُ دلالاتها الحقيقية، لا أن تخاتِلنا في مكرٍ. بدد طيفك ساعات العَتَم الطويلة. ولا ملامَ عليك، فقد تعقد الوضعُ، وانفلت عقاله. أبعدتُ صورتكِ برفقٍ، فَأبَيْتِ، وتجنبتكِ بصدقٍ فثَبَتِّ، تحمَّلتُ وَجعي بكِ، وظلت ملامح دلالك تترصدني، واستعدتُ نصوصَكِ التي كنت ترسلينها إليَّ لأصححها، ولبساطتها، ما فهمتُ مغزاها، لأنه غير الظاهر منها. كنت أتخفى بدوري وراء ملاحظاتي لأقول لك غير ما أظْهِرُ.

قدَّمتِ لي شهادتكِ المهنية التي تثبت أنك كنت موظفة سامية في وزارة الإحصاء، وأنك تابعت دراساتك الجامعية في هذا الاختصاص لأربع سنواتٍ متتالية. إلا أنَّ وزارة العَمَل الفرنسية رفضَت معادلتها، لغياب الشهادات الثلاث التي تسبقها. أقسمتِ لي أنَّ كل وثائقك احترقت، تحت القصف، وضاعت في الدمار الهائل الذي لحق القرية. ناشدتني أن أتخيَّلَ فحوى الشهادات الثلاث الناقصة وأن أترجمها. "سيدتي، هذه جريمة يعاقب عليها القانون الفرنسي، وقد تجرُّ إلى غلق مَكتبي واتهامي بالتزوير، أو باستغلال الهشاشة النفسية للزبائن والاغتناء بغير وجه حق"، أجبتكِ بلباقة، رغم أني كنت أودُّ إعطاءك كل شيءٍ. كلَّ شيءٍ.

قبل أن أنال شهادتي المهنية، أديت يَمينَ المترجم وتعهدت بالوفاء أمام هيئة المحكمة بعدم التزوير، مع أنَّ هذا اليمين لا يلزم مسلمًا مثلي، لا يتعدى حِسُّه الجمهوري صفحات جواز سفره الفرنسي. كم تخالف ظواهرُ الخطاب بواطِنَه. وقعت الكارثة: أرسلتِ لي رسالةً نصية: "نال زوجي للتوِّ تأشيرَة اللجوء من السفارة الفرنسية، سيصل بعد أسبوعٍ". كانت زوجتي تحدثني عن التطورات المذهلة للترجمة الآلية. قالت: "قد تَضطرون إلى إغلاق مكاتبكم بسبب سرعتها ودقتها". توارَيتُ من تكهناتها، ولجأت في قرفٍ إلى غرفتي، أستعيد معاني كلمة: sens، ولم يثبت واحدٌ منها...

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم