الجمعة - 10 أيار 2024

إعلان

النبيذة

المصدر: "النهار"
إنعام كجه جي
النبيذة
النبيذة
A+ A-

(من رواية تصدر قريباً لدى "دار الجديد") 

هي لـحظةٌ من الـحياة لـم تـجرّبـها من قبل. ولا تظنُّ أنّـها ستعرفها في ما بعد. كانت جالسة في القطار، قرب النافذة، ثمّ رأت ماضيـها يأتي ويرمي نفسه في الـمقعد الـمقابل. نظر، شامتًا، في عيـنـيـها وانتشلـها من الرتابة ووهن السنـيـن. هل تتـجاهلـه أم تغيّـر مكانـها؟ حدّثتـها نفسها أن تقوم وتتّـجه صوب جرس الطوارئ وتسحب لسانـه الأحمر. ستسمع صراخ العجلات وهي تـحتكّ بحديد السكّة وتطلق شرارًا. تفتـح الباب وتنزل وتـجري على الرصيف، لكنّ عيـنـيـه كانتا تقبضان عليـها وتقيّدان يديـها. أرختْ جفنـيـها وسلّـمت نفسها لنديف قطن أبيض. كان كابوسًا سببـه سؤال عاديّ وجواب يبدو عاديًا. لـم تستوعب، في البداية، ما قالـه لـها الشرطيُّ الواقف عند ذلك الباب. لكنّ عبارتـه أذكت جمرة خامدة مدفونة في صدرها. أثار فضولـها أنّـه يـحرس غرفة بعيـنـها من دون باقي الغرف في الـممرّ الطويل. سألتـه عن الـمريض الراقد في الداخل، من عساه يكون وراء الباب؟

أحيانًا يـحدث لنزلاء هذا الـمستشفى العسكريّ في باريس أن يكونوا من ضبّاط الجيش. لكنّ الـمرضى لا يـحتاجون لشرطيّ يقف وقفة استعداد بالبزّة الزرقاء على أبوابـهم. لعلّه رتبة رفيعة أو شخصية لـها وزنـها من دولة صديقة. سبق أن جاء للعلاج هنا ملوك ورؤساء وزعماء أحزاب. بعضهم مات على سريره هنا. أعلنوا أنّـه توفِّـي في بلده وخرجت جنازتـه من بيتـه. عمليّات جراحيّة وعلاجات تـجري وراء أستار، تؤدّي فيـها فرنسا واجب الضيافة والـمصالـح لأصدقائها... أحيانًا لأعدائها. من الـمريض في تلك الغرفة؟ لعلّه مجرم خطير أصيب في مطاردة، أو عند استـجواب فظّ، يعالجونـه قبل عرضه على القاضي. يقتضي الـحذر ألّا يردّ الشرطيّ على فضولـها. لكـنّـه مهذّب لـم يتـجاهل السؤال. رفع يمناه إلى قبّعتـه يُـحيّيـها، كما هي العادة قبل أيّ حديث مع مواطن. مال على قامتـها الضئيلة وهمس بالاسم. لا سبب لأنّ يتوجّس منـها أو يشكّ فيـها. سيّدة مُسنّة تغضّن وجُهها وانحنى ظهرها، تقيم في الـمستشفى نفسه وتتـحرّك في الـممرّ متعكّزة على عصا. سيُفضي لـها بما أرادت معرفتـه ولن يعنـي لـها الأمر شيئًا. إنّ نزيل الغرفة مريض يـحتضر، كان معروفًا ثمّ ما عاد يُذكر. مضى زمانـه ودخل اسمه موسوعات الأعلام. هو نفسه لـم يكن يعرفه قبل أن يقولوا لـه إنّـه رئيس جزائريّ سابق. الشرطيّ شرطيّ لا معلّم تاريخ.

هاجت خفافيش ماضيـها وهي تسمع الاسم. وخزها قلبـها وتسارعت دقّاتـه. لـم تُصدّق أنّ نزيل الغرفة التي تقع في الطابق الخامس، على مبعدة أمتار من غرفتـها في مستشفى فال دو غراس، هو بن بلّة. كأنّ ريـحًا هبّت على روزنامة عمرها فتطايرت صفحاتـها وتقلّبت عودًا على بدء. هذه ليست مُصادفة سعيدة بل جيرة شرّيرة. همس لـها حارس الغرفة باللقب فتذكّرت الاسم الأول: أحمد. لا تنسى ضحاياها ولا أحبابـها ومن حلّت عليـهم بَرَكَتـها. أعطوها صورة لـه وحدّدوا لـها اسمه الـحقيقيّ ولقبـه الـحركي، مزيانـي مسعود. قامة يصعب نسيانـها، نحيلة طويلة مثل سَروة. رأتـه في الـمكان الذي وصفوه لـها. يشرب القهوة، حسب عادتـه، في ساعة مُـحدّدة على النـيل. وكان عليـها أنّ تتـمشّى وتتـمهّل بالقرب منـه. يقف ويردّ على تـحيّتـها وسؤالـها العفويّ. تتفرّس في وجهه وتبتسم. تنصرف مثلـما جاءت، عابرةً بسؤال عابر. كم كانت سنّه يومذاك؟

تاج الـملوك تعرف نفسها. عاشت ثلاثة أعمار في عمر واحد، ما عادت تتوقّع مزيدًا من الأقدار والـمُصادفات. لكنّ مـجاورته ليست قدرًا ولا مصادفة. إنّـها حساب ما فات.

عندما يُثقل الـملل على الساعات والأشهر يروح يـنبش في الزبالة بحثًا عن حَبّ البطّيخ. تستطيل الـحياة وتتـمطّى أكثر من اللازم. ثمّ تبدأ بمخالفة خطّ سيرها وتلعب بصاحبـها شاطي باطي. لا أحد يعرف بالضبط ما هو الشاطي ولا ما هو الباطي. شيء يشبـه العامي شامي. وهي قد غادرت سريرها لتـخطوَ خطوات قلائل وتـحرّك ساقيـها، حسب نصيـحة الطبيب، حيـن رأت قريـن القَدَر يـنتظرها في مـمرّ الـمستشفى. بديل يؤدي الـمشاهد البـهلوانـيّة نـيابة عن بطل الفيلـم. لعلّـها مُمثلة من دون أن تعرف. بطلة بالغصب منـها. وقد حضر نائبُ القَدَر ليشمت بـها شماتتـه الأمرَّ من السخرية.

ــــ هل تسمح لي بالدخول دقيقة للسلام عليـه؟

ــــ مـمنوع يا سيدتي. إنـه في شبـه غيبوبة.

تـحاول أنّ تتـخيّل ردة فعل شرطي الـحراسة لو قالت لـه إنـها حاولت اغتيال الـمريض القابع وراء هذا الباب. كان ذلك قبل أكثر من نصف قرن. جرّبت ولـم يطاوعها قلبـها. يراها الشرطيّ تبتسم في سرحانـها فيبتسم لـها. عادت إلى غرفتـها تطرق بعصاها أرض الـممرّ. نجا الـهدف من الـموت. عاش حتّى استقلّت بلاده. صار رئيسًا للجزائر. تتذكّره بأسى ولا تـحبّه. لا تـحبّ حلفاء عبد الناصر. من السجن والـمُلاحقات وأحكام الإعدام إلى الرئاسة. ومن الرئاسة إلى السجن. تقاليد عاديّة في تلك البقاع من الأرض. تـجاوز التسعيـن وجاء يتعالج عند مستعمريـه، أعداء الأمس. السياسة بنت كلب. غرفتـه قريبة من غرفتـها. رئيس سابق وجاسوسة سابقة يتـجاوران بسلام تـحت لعنة الشيخوخة. ستـجد وسيلة لزيارتـه. يجب أن تدخل عليـه لتقول لـه إنـه ما زال يتنفّس بفضلـها. ليذهب بعد ذلك وليَمُتْ كما يـحلو لـه.

لا أحد في هذا الـمستشفى يعرف حقيقتـها. لكنـها تعرف نفسها. ذاكرتـها ما زالت سليمة لا تتلعثم. "ميمونة تعرف ربّي وربّي يعرف ميمونة". حكمة شعبيّة سمعتـها من بورقيبة حيـن زار بغداد. قدّمها لـه الباشا. كانت صحافية فذهبت إليـه وأجرت مقابلة معه. محام تونسيّ ثائر. جاء يطلب دعمًا لشعبـه من حكومة نوري السعيد. لكلّ بلد عربيّ قضيّتـه ورموزه. تـحقّق مُراده ونالت بلاده استقلالـها. كبر الـمناضل الشابّ وصار الـمجاهد الأكبر. ليت هذا الرأس يتوقّـف عن ضخّ الأسماء والسحنات. إنّ أوجاع ركبتيـها تكفيـها. تدور الـممرّضات حولـها يطلبن رضاها. زوجها كان ضابطًا ذا شنشنة. بطلًا من أبطال الـحرب الثانـية. يكفي أن تقول إنـها أرملة سيريل شامبيون حتّى تُرفع على كفوف الراحة. يدرس الطلّاب مؤلّفاتـه في معاهد تـخريج الجواسيس. مهنة دنـيئة يفضّلون عليـها تسمية الأجهزة الخاصّة. لكن هذه حكاية أخرى.

تـمدّدت وقربّت مذياعها الصغير من أُذنـها. تغطّي عيـنـيـها بنظّارتـها الشمسية لـمزيد من التركيز. تدير مِجسّاتـها في اتـجاه الربيع العربي. تتابع أخبار ثورة الياسميـن. يعجبـها الوصف ويشرح صدرها. مزاجها في الأوج. وهي لن تردّ على الطبيب حيـن يـناديـها مدام شامبيون. ستبتسم بمكر وتقول لـه إنّ اسمها تاج الـملوك. إيرانـية من بغداد. وقد يصدّقُها لأنّ سُمرتـها تشفع لـها. تقلّب الـمحطات وتتابع النشرات. الشارع يغلي في تونس. اللافتات مرفوعة في شارع الـحبيب بورقيبة. طواه الـموت الجبّار القادر على أكبر الكبار وظل اسمه مكتوبًا على جادّة. تراه ببدلتة الصيفيّة البيضاء وحذائه ذي اللونـيـن. أبيض وأسود. تقاطعت خطواتـها معه في بغداد مثلـما تقاطعت خطواتـه مع بن بلّة. رفض نقل شحنات السلاح من القاهرة إلى الجزائر عبر موانئ تونس. خزعبلات مجاهديـن في زمنٍ فوّار. تـمدّ قدميـها من تـحت اللـحاف وتتأمّلـهما. صغيرتان بأصابع قصيرة لكـنّـهما قطعتا جبالًا وعبرتا قارات.

جاءتـها الـممرضة بصيـنـيّة العشاء وأقراص الـمساء. تطلب حبّة إضافية للنوم. تعرف أن عقلـها لن يغفو. ستكون ليلتـها طويلة لأنّ خفّاشًا انفلت من ماضيـها يرقد على مبعدة ثلاث غرف من غرفتـها. "وعقدنا العزم أن تـحيا الجزائر... تن تتام تن تتام تن تتام". تـحفظ اللـحن وتنسى بقية الكلام. تظهر على وجه زوجها بثور حمر وصفر حالـما يسمع النشيد. حساسيّة مـخصوصة بضابط استـخبارات خسر الـمعركة. سمّوها قلاقل ولـم يمنحوها شرف الـحرب. حاربت فرقة الكومندان سيريل شامبيون بالبنادق والـمدافع والـمدرّعات، والعدوّ قاتل بأجساد رجالـه ونسائه. مليون شهيد. يُسمّيـهم زوجها مليون كلب. يتعمّد أن يكون لئيمًا في شتائمه ضد العرب. كأنّـه يشتـمها ويـنتقم من نفورها منـه. ظلَّ استقلال الجزائر يفقأ عيـنـيـه حتّى شخر شخرة الـموت.

لا تعرف مارتيـن شامبيون كيف انقضت تلك الليلة. تابعت الأخبار ونامت نومًا مُتقطّعًا. حلُـمت بأنّ ساقيـها عادتا قويّتيـن وظهرها مستقيمًا. سارت حتّى جادّة الـحبيب بورقيبة في تونس ووصلت ميدان التـحرير في القاهرة. لـم تكن تـحلُـمُ بل تعزم عزمًا شديدًا. هتفت مع الـمحتـجّيـن وعلا صوتـها. تـمنّت نفسها مرفوعة على الأكتاف. تـمامًا مثل وثبة كانون في بغداد. إستيقظت مُتعبة وكأنّـها عائدة من سَفَر. ظلت راقدة تغالب ألـمًا في مكان تعجَزُ عن تـحديده. توجعها ذاكرتـها. جاءت الـممرضة بالفطور مع حَـفْنَة أدوية الصباح. لن يُصلـح العطار...


***

يوم غائم آخر. فكّرت أنّ على صائدي الفراشات الـخروج لاستدعاء الربيع إلى باريس. مديـنة تتأخّر في النوم وفي الصحو. وهي مثلـها ما زالت تفرك أجفانـها. ستنـهض وتغتسل وتسجّل في دفترها فكرة صائدي الفراشات. لكلّ صباح فكرة جديدة. لكلّ نـهار حكمتـه. تُحرّك الـملعقة في وعاء عقلـها لكي لا تركد الذكريات فيـه وتتكلّس. قال لـها الطبيب إنـها ما زالت تـملك رأسها. من الـمفيد لـمن كان في سنّها أن يـحلّ الكلـمات الـمتقاطعة. كم أنت ساذج يا دكتور. ليتـه يدع عقلـها وشأنـه. إنّ البشر لا يصابون بالعَتَه من تراكم السنوات. بل تـختلط عليـهم التـجارب الدفيـنة التي تُثقل دفاتر العمر.

الـحكمة بنت التـجربة. والتـجربة تُخطئ وتُصيب. وقد أزهر الربيع في تونس ثمّ سرى إلى القاهرة ودرعا وبنغازي. مضى حتّى الـمنامة وصنعاء. وصلت حرارتـه ركبتيـها تـحت الضِماد. مظاهرات مليونـيّة. هتافات ومواويل وكش رئيس وكش وزير وكش ملك. لا أحد يملك تثبيت البوصلة. وهي تـهجس بأيام سود وتُكذّب هواجسها. وقد يمدّ خالقها في أجلـها حتّى تبصر ما يأتي بـه الغد. فَرَجًا أم ضبابًا مُدْلَـهِمًّا. لكـنّـها لن تبالغ في الطلب. تـخجل من ربّ ترك النفس في صدرها حتّى عبرت التسعيـن.

تفتـح الـمدام كرّاستـها وتكتب بخطٍّ ديوانـيّ مهتزّ أنّ على صائدي الفراشات أن يخرجوا للبحث عن الربيع التائه. تضع القلـم وترافق خيالـها الشفوي. منذ تربّت على أشعار سعدي وهي متّـهمة بالرومانسيّة. جاء سعدي الشيرازي مثلـها من بلاد فارس إلى بغداد. كان يتيمًا ولـم تكن يتيمة. لكنـها وصلتْ بدون أب. درس على يد السهروردي، ومسّتـه الروحانـيات. سمع شيخه يتـمتـم في الـمنام: "هل يكون مسموحًا لـي بأن أشغل جَهنَّم وحدي فلا يعود يكتوي بنارها بقيّة الـملعونـيـن؟". طاف تلـميذ الـحكمة في مصر والـهند ولـم يجد ما تنشده روحه. يشبـهها في قلق الترحال. ثمّ عاد إلى شيراز لأنّـه لـم يجد مكانًا يضاهي ما فيـها من قلوب دافئة. تـحاول أن تستعيد أبياتًا لـه. ذاكرتـها لا تـخونـها. لكـنّـها لا ترى حولـها شيئًا مـمّا أوصى بـه: "لو تناول الـملك تفّاحة من شجرة أحد رعاياه فإنّ حاشيتـه ستتـخاطف الشجرة كلّـها. ولأجل خمس بيضات يستلّها السلطان بخفّة فإن جنوده سيذبحون ألف دجاجة". لا أحد في الـمستشفى يعرف الشيرازي، حاضن القلوب. وليس ذنبـها أنّ ذيل الشتاء طويل، في هذه البلاد، وأنّ الربيع يتأخّر ويـنسى الـمواعيد. تصبر عليـه وهو يضيع في الغابات البعيدة. سيـحتاج لـمن يـنادي عليـه ويستعجلـه. يستدرجه بقصائد الـحبّ وعذب الكلام. تَفَضّلْ وشرّف يا أغاتي. يأتي مُتكبّرًا يمشي الـهويـنا. يقلّد هريرة الوارد ذكرها في الـمعلّقات. الغرّاء الفرعاء الـمصقول عوارضها.

من بيتـهم الأول بالكاظميّة، يأتيـها الصوت العريض لزوج أمّها وهو يقرأ معلّقة الأعشى. في كلّ مرّة يصل إلى ثالث أبياتـها يتوقّف. يتلفّت ليتأكّد أنّ أمّها في الـمطبخ. يتطلّع إليـها ويضع العِمامة جانبًا. يـهمس:

ــــ لو لـم يكن الشاعر أعشى، لـما قارن مشية هريرة بمرّ السحابة. من أيـن للغيوم هذه الفتنة؟

ــــ عيب يا سيّد.

تزجره وتكره تـحرّشاتـه لكـنّـها تـحبّ انتباهاتـه لقصائد الشعراء. منـه أخذت عربيّتـها التي ستفقد الكثير منـها بعد إقامتـها الـمديدة في باريس. يوم قرأت نجمة لكاتب ياسيـن، شعرت بالغيرة. لن تعرف كيف تأتي بمثلـها. عتبوا عليـه لأنّـه يكتب بالفرنسية. هذي غنـيمتـه من الـمُستعمِر. جرّبت أن تكتب بالانكليزيّة رواية ذات أجواء عربيّة. لكنـها صرفت نظرًا. حياتـها فصول من روايات متلاحقة. تلـهث وراء وقائعها فلا يبقى وقت للتدويـن.

يتدلّل ربيع باريس قبل أن يرمي مشمشه إلى الوجنات. ذَبُلت وجنتاها وتقعّرتا. ترقد على سريرها في الـمستشفى كما ولدتـها أُمّها. لا يستر جسدها الضئيل سوى شرشف سماويّ. تدفئة الغرفة تزيد عمّا تـحتاجه الـمريضة الساهية عن نفسها، الـمشغولة بما يـحدث خارج نافذتـها. تُزيـح الغطاء وتترك للجرائد أن تستر ما انكشف من صدرها. تُقرّب الترانزيستور من أُذنـها ثمّ تُبعده وتـحملق فيـه. معقولة؟ تضغط على الجرس بجانب السرير، ترجو الـممرضة أن تعدّل لـها اتـجاه التلفزيون. تتفرّج على الـمسيرات في قناة الأخبار وتدمع عيـناها. كلّ بقعة في جلدها العاري الـمتغضّن تنتفض لكي تقبِضَ على الـمشهد الطالع من الشاشة. تشدّه من شعره، تسحبـه إليـها وتعانقه.

ــــ أنا هنا، هل تسمعوننـي هناك؟

تضحك الـممرّضة الـمولودة في الـمارتيـنـيك وتتلوّى من الضحك. تعجبـها هستيريا الـمريضة العجوز وهي تتفرّج على الـمظاهرات. هل هي إيرانـيّة حقًا كما تقول؟ تبدو لـمن يرى ذراعيـها العاريتيـن وشعرها الـمكشوف أنّـها من هنا. لـها لكنة خفيفة مثل فرنسيّيـن من أصول شتّى. لكنّ مدام شامبيون لا تثرثر ولا تشفي الغليل. كلـمةٌ وردّ غطاها. درس تعلّـمتـه من أيام عملـها مع زوجها. ومن تتزوّج جاسوسًا تـخرس وتغلق فمها. من يصدّقها لو حرّرت هذا اللسان ورَوَتْ؟ سيقولون أصابـها الخَرَف. ليست خرفانة. كلّ ما في الأمر أنّـها امرأة ذات ماضٍ طويل هو، على علّاتـه، وسام شرفها. ليس كحاضرها الكسيـح الذي يتـحكّم فيـه الأطباء والـممرّضات. يعطونـها الأدوية والوجبات في الأوقات ويـهتـمّون بنظافتـها وهي في السرير. يخافون أن تتزحلق في الـحمّام. يَفْرِشون تـحت مؤخّرتـها مربعًا من النايلون السميك ويدعكون ما بيـن ساقيـها بإسفنجة منقوعة بسائل مُطهّر. يقلبونـها مثل خرقة بالية ويمسحون ظهرها بالكحول. يرشّون جلدها ببودرة تـحفظها من التعفّن. حتّى ساعات الفرجة على التلفزيون مُحدّدة بمواعيد. صوتـه يزعج الـمرضى في الغرف الـمجاورة. ترى الجموع تسير وتـهتف فيـنبعث تيّار كهربائيّ يدغدغ ما تبقّى من عضلات ساقيـها. سيسخرون منـها لو قالت إنـها قادت، في زمانـها، الـمظاهرات.

حملـها طلبة الـحقوق على أكتافهم الفقيرة الصلدة. هتفت بأعلى صوت. يلقّنونـها وتردّد وراءهم. ليست ببّغاء بل شابّة حُرّة. لكنّ لسانـها انعقد حيـن صاحوا: "نوري السعيد القندرة...". سكتت ولـم تـهتف. لا يمكن أن تشتـم الباشا. "وصالـح جبر قيطانـه". حاولت زجر رفاقها وضاع صوتـها ضرطة في سوق الصفافير. كانوا متـحمّسِيـن وكانت صغيرة. لا تـحتاج لـمن يشجّعها. "على دقّ الطبل خفّي يا رجليّ".

إرتدت تاج الـملوك أسماء كثيرة. رقصت بـها ثمّ خلعتـها. رمتـها في صناديق الكرتون تـحت تـختـها. لـم تعد تتذكّر كم سريرًا احتواها في البلاد. فراش للولادة وللغواية وللضجر وللأحلام وللنعاس. ومنام للشيخوخة والـمرض. لو كان هناك منطق في كلّ هذه الـمتاهة لكانت الآن تلـملـم قُصاصاتـها الصفراء. تربط شعث شعرها وراء رأسها وتـمضي بدون أن تتلفّت. لن تلقيَ نظرة أخيرة على فوضى دنـياها. حياة مثل قلائد السحرة والـمشعوذيـن. ملضومة من بقايا خشب وخزف وعاج وريش وجلود. أغانٍ بلغات شرقيّة وغربيّة. خرز ملوّن وقطرات دموع تـحمل أسماء عشّاق يائسيـن. جواسيس وأُمراء وقوّاديـن. توليفة قديمة من القرن الـماضي. لـم تعد متوافرة إلّا في صور الأسود والأبيض.

مرّت عليـها كاسحات ثلوج لكنّـها لـم تنجرف من على وجه الأرض. غيرها من الـمسنّيـن يرجو ربّه أن يستعيد أمَانتـه. وهي تبتسم في الفيلـم. وما زال الـمخرج يطمع بمشاهد إضافية. لا يريد لـملاك الـموت أن يأتـي على غفلة، مثل "شمعون غمّاض العيون". لن يقطع عنـها النَفَس قبل أن يستنفدها ويتركها قشرة بيض خاوية. تعال يا شمعون نعقِدِ اتفاقًا. هبْنـي مِيْتة مرسومة بريشة فنّان انطباعيّ وسأستسلـم لك متى ما شئت. رسّام يتأنّى في تلويـن لوحاتـه. يضع لطخات الزيت طبقة فوق طبقة. يُـخفّف الوطء وهو يمرّ فوق مـحطّات العمر. لا تـحبّ الـمونتاج الـمتوتّر واللقطات السريعة. هذا عُمْرُك يا تاج الـملوك، عيشيـه حتّى الثمالة. وإذا مسّتك نسمة ببردها فلا بأس من أن تطلبي دثارًا من الـممرضة. أو أن تنتظري مجيء صديقتك الصغيرة لزيارتك. لـماذا تأخرتْ؟

تأتي وديان ماشية في الـممر الطويل على رؤوس أصابعها. لا تودّ إقلاق راحة الراقديـن في الغرف. أبواب عريضة تـتّسع لـمرور أسرّة الـمرضى وكراسي الـمقعديـن. تدخل وتقبّل الرأس الأشيب بفتور وتـجلس على طرف السرير. تـخلع حذاءها وتباعد ما بيـن أصابع قدميـها وتـحكي عن أيّ شيء. الطقس، الـمترو، سمفونـيّة شهرزاد، طير الوروار. عن الجزائريّ الذي تـحرّش بـها في الـمقهى فسكتت ولـم تنـهره. تبتسم مدام شامبيون وتغمز لوديان بعيـنـها وهي تأخذ يدها في كـفّها الـمُتـخشّبة. تضغط عليـها وكأنّـها تشجّعها على الـمغامرة. تريدها أن تغادر شرنقتـها وتتقرّب من الرجال. هذا هو ما يـنقصها. أن تكون مُحبّة ومحبوبة وعال العال. مثلـها عندما كانت في عمرها. فرس جامحة صهّالة تـحرن ويستعصي ترويضها. لا تفهم العجوز كيف يمكن لشابة أن تـمضي لياليَها بدون دفّاية في السرير. رجل يفوح عرقه في الـمكان، حتّى لو ترك رائحتـه تـحت الـمخدّة ومضى، آخر الليل.

لكنّ وديان لا تـجد في نفسها رغبة لـمضاهاة تاجي. تعيش كلّ منـهما شخصيتـها قانعة بـها. والدنـيا صيـنـيّة بقلاوة بالدهن الـحر. أقبلت إحداهما عليـها بشهيّة واكتفت الأخرى بأن تكشّ عنـها الذباب. صديقتان تفصل بيـنـهما عقود من التفاوت. عمر الأولى ضعف عمر الثانـية. تتعايشان على الـحافة ما بيـن التفاهم والتنافر. كأنّـهما ضَرّتان لشبح واحد، جمعهما مصير أخرق. نبتتان من تربتيـن مختلفتيـن وطقسيـن متعاكسيـن. فإذا هطلت الأمطار تقارب الرأسان تـحت مظلّة واحدة.

تدخل الـممرضة وهي تدفع عربة قياس الضغط. تتطلّع إلى وديان وتنـهرها:

ــــ هذا الفراش للـمرضى فحسب يا مدموازيل. هل تعرفيـن كم أنفق مستشفانا لشرائه؟

لا تـحب وديان لقب مدموازيل. تسمح التعليمات الرسميّة في فرنسا أن تُنادى مدام كلّ شابة بلغت الثامنة عشرة. لكنّ عمرها مُخاتل. فلا هي في ميوعة الأوانس ولا في نضج السيدات. تـمدّ ساقيـها بتثاقل وتنزلق واقفة. سرير متطوّر يتـحرك ذاتيًا. يرتفع ويـهبط ويـنثنـي ويستقيم. يبدو مُصمّمًا لشخص واحد متوسّط الوزن. لا لجلوس الزوّار ولا لعناق عاشقيـن في غفلة عن رائحة الديتول. حتّى ملائكة الرحمة تـمارس الوشاية والتأنيب. ووديان تتابع جهاز الضغط وتشيـح بوجهها عن الـممرّضة الصارمة. كأنّ كلّ من يـهبّ ويدبّ على هذه الأرض من بشر وزواحف وبنات آوى يريد تذكيرها بأنّ لـها سريرها الذي تنام عليـه وحيدة ملساء مثل عصا الأعمى. مساحة محدّدة سلفًا لنَفَر لا غير، عرضها تسعون سنتـمترًا وطولـها مئة وتسعون. تذهب إلى دكّان البياضات وتـجد الشرشف الصغير ذا الزوايا الـمطّاطيّة يـنتظرها. لا تـمدّ يدها إلى شراشف النَفَريـن. تلك ليست من نصيبـها. لـم تُصنع للـمهجورات من مثيلاتـها.

تشير مدام شامبيون إلى الجرائد وتقول شيئًا عن الأحداث في تونس. لا تفهم وديان قصدها. منذ أن تعرّفت عليـها وهي عاجزة عن احتواء كلّ أطوارها. عجوز تقفز بيـن الأزمان مثل لاعبة الـحبال في السيرك. تنطّ بخفّة وبدون شبكة أمان. قردة بيضاء نادرة من فصيلة البابون، تسكن في ماضيـها فتـختار ما يروقـها منـه وتطيل قفزتـها. تُرابط عند الصبا وتنكر شيخوختـها. لعلّـها أعراض الآلزهايمر. تتـحدّث عن أسماء كبيرة لـم تعد حاضرة إلّا في كتب التاريخ. تستـحضر أرواحًا تـحلّلت هياكلُ أصحابـها تـحت التراب. كأنّ قبورهم مؤرشفة في جارورها، طوع بنانـها. تؤشّر بيدها إلى الـممرّ وتـهمس:

ــــ بن بلّة... في الغرفة التي يقف عندها شرطي.

ــــ من؟

ــــ أحمد بن بلّة الذي كان رئيسًا للجزائر.

ــــ وما دخلك بـه؟

ــــ شلون ما دخلي؟ أنقذتـه من الـموت في شبابـه!

تَـتّسع عيـنا وديان عجبًا. تـخنس في حضرة مومياء عرفت بن بلّة شابًا!

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم