السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

عودٌ إلى براءة السياسة وكلماتها

المصدر: "النهار"
نجم الدين خلف الله
عودٌ إلى براءة السياسة وكلماتها
عودٌ إلى براءة السياسة وكلماتها
A+ A-

من بداهات المشهد الإعلامي اليومي أن تطالعنا أعمدة الصحف والمواقع العربية، وقد صارت تعدٌّ بالعشرات، بمقالات في الشؤون السياسية، تتفاوت طولاً وعمقا وأصالة، وفيها تنتشر الكثير من مصطلحات هذا الفنِّ، وبعضها يحيل على معانٍ نظرية من الفكر السياسي، وبعضها الآخر يدلُّ على الممارسة Praxis في الفضاء العام، وجلها يُرتبط بالأحداث السياسية، وتصريحات القادة وتساجلهم اليومي، سواءً أكانوا عربًا أو غير عرب. ويفهم القراء المتابعون، بقطع النظر عن مستواهم الثقافي والاجتماعي، سائر الألفاظ المكونة لهذه الحقول الدلالية دون جهدٍ كبير، كما لا يترددون في استعمالها، أثناء الاستعادة العفوية أو التواصل مع أصدقاء الصفحة الفايسبوكية في التعليقات التلقائية على مجريات السياسة حول العالم، لا سيما بعد "الربيع" الذي أتاح نوعًا من الحرية في التعبير، وبعد أن ظلّت موضوعات السياسة من أعتى التابوات في العالم العربي.    

ولكن سرعان ما تتكسَّر بداهة هذه المصطلحات ويتلاشى عن الكلمات وضوحها حين نسائل بدايات التوليد المعجمي وظروف نشأة الخطاب السياسي طيلة القرن التاسع عشر، ويكفي أن نعود إلى الماضي القريب، في الحواضر العربيّة التي كانت خاضعة، في أغلبيتها، للسلطنة العثمانية، لنرى حجم الصعوبات التي كابدها الجيل الأول من رُواد النهضة والإصلاح ومدى تردُّدهم في إيجاد مقابلات عربية للمفاهيم الغربية. ولذلك ركزوا مجهوداتهم الذهنية واللغوية على تفعيل المخزون المعجمي الكلاسيكي واستكشاف الطاقات الاشتقاقية للغة الضاد، كما التجأوا إلى التعريب والترجمة والاقتراض من اللغات الأوروبية التي تعلموها أو احتكوا بها خلال سفراتهم أو إقامتهم بأوروبا. وهدفت هذه الأعمال إلى ابتكار مفردات دقيقة تساعد النخب العربية الفتية على فهم الواقع المتحول الذي تولَّد عن "صدمة الحداثة" وعن تغير أنظمة الحكم، من الملكية إلى الجمهورية، في الضفة الأخرى للمتوسط.

وهكذا سعى هؤلاء الرواد إلى إخراج الضاد من زجاجة التقليد، وإعادة تسمية العالم السياسي في حداثته البادية أمام الوعي الجديد، وأمام المؤسّسات الهشة التي أخذت تظهر في الأقطار العربية بعد أن تحدت الهيمنة العثمانية بثورة 1916 ودخلت مرحلة الاحتكاك بالحضور الغربي (الفرنسي والانكليزي عبر نظامَيْ الحماية والانتداب)، منذ 1830.

هكذا دعا الحضور المادي المتعاظم للغرب مفكري النهضة في الشام، ومصر والمغرب إلى استيعاب الحقائق المُستحدثَة، وفهم المتغيرات السياسية بمنهجٍ أكثر عقلانية، ثم إلى تسمية الظواهر فيها بشكلٍ مُؤَنْسنٍ، باعتماد نزعة تحرير الفكر من براثن الاستبداد. ومن مظاهر هذا التطور الحاصل في الاصطلاح السياسي العربيّ، ننقل هذه الوثيقة التاريخية النادرة التي خطها أحمد بن أبي الضِّياف (1802-1874) كاتب سرِّ الباي، والي #تونس في العصر العثماني، حين رافق المشير أحمد باشا باي إلى باريس في أول زيارة رسميَّة سنة 1846. فقد وصف البرلمان الفرنسي بهذه العبارات:

"وتوجَّه (الباي) إلى دار ندوتهِمْ، وهي بيت وكلاء المملَكة ولك أن تقول: بيت عُمْرانِ المملكة، وثروتِها ونجاحِها. وهي مِن المباني الضخمة المُحترمة. وبيتُ الاجتماع نصفُ دائرةٍ بها مدارج تجلس الوكلاء عليها صفًّا وراء صفٍّ، ويقابل تلك الدّائرة رَوْشَنٌ للسّلطان، يجلس فيه يوم فتحها [ويقفُ فيه خطيبًا بإلقاء ما يريد إلقاءهُ على المسامع لتفكّر فيه عقول الحريّة]، وتَحت الروشن كراسي للوزراء في الأرض، مُقابِلَة لأوّل درجة من درج الدّائرة، وفي الأرض شكل مِنبر يقابلُ الوُكلاء، لمن يريد الكلام من الوُزراءِ، بحيث أنَّ المُتكلّم يسمعه ويراه كلُّ واحد من الوُكلاء." (إتحاف أهل الزمان، ج. 4، ص. 106)

لم يكن في عربيَّة القرن التاسع عشر مصطلحات راسخةٌ تحيل على البرلمان وأشيائهِ، فأعوزت هذا الكاتب - رغم فصاحتِه وتمكنه- كلماتُ السياسة الحديثة بمعانيها المُعَلْمَنَة التي تدلُّ على جهود الإنسان الغربي، سَليلِ "الأنوار"، في سعْيه الدؤوب إلى الديمقراطيَّة والحرية، فأبْحر ابن أبي الضياف في نُصوص التراث، يَبْحث عن المقابل المعجمي وإنْ لم يكن دقيقًا ولا سليمًا لتلك المفاهيم، فيسمي: رئيسَ فرنسا "سُلطانًا"، ونائبَ الشعب "وكيلاً" والبرلمان "بيتَ الوكلاء"... وقد يَتَّكئ على المؤرخ ابن خلدون فيأخذ العبرة من التاريخ الإسلامي ويكرر أنَّ "الظلمَ مؤذنٌ بخراب العمران"، في مزاوجة بين السجل التقليدي والحضارة الفرنسية.

وهكذا، حين نكسر هذه البداهات ندرك مدى المجهود الذي أنجزه أوائلُ الرواد لتطويع اللُغة المتوارثة عن الأدبيات السلطانية لتصف ما أنتجته الجمهوريّة، فحملوا الفكر العربي على التجدد لِمسايرة وتائر التطور والقطيعة مع فظاعة الاستبداد كما أشار إليها عبد الرحمن الكواكبي في "طبائعه"- نشرًا لحرية هي أخصُّ ما به تتقوم إنسانيَّةُ الإنسان وكرامتُه.

نحن حين نُطالع اليوم أعمدة السياسة في مئات الصُّحف، لا نكاد نعجب من انسياب المُفردات السياسية بشكلٍ عفويٍّ لوصف دقائق ما يجري في الانتخابات والبرلمانات والمحافل الدوليّة والوقفات الاحتجاجية ومنعرجات المعارك والمداولات في البرلمانات العربية وخارجها. على أنَّ التحديث الحقيقي للسياسة لن يكمن في وفرة الكلمات وإحالتها الدقيقة على مراجعها، بل في تطابق الدوال والمدلولات وإشارتها دون لبسٍ إلى سلطة المؤسسات، لا إلى سلطان الأشخاص.

أستاذ مُحاضر، جامعة لوران- العلوم السياسية، باريس- فرنسا.    

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم