السبت - 11 أيار 2024

إعلان

"البندقية 70": سقوط كوارون رغم الجاذبية!\r\n

المصدر: البندقية - "النهار"
A+ A-

منذ "رعاة بقر الفضاء" (2000) لكلينت ايستوود، لم يرفع "معرض الفنّ السينماتوغرافي" المعروف باسم "موسترا" البندقية، الستارة عن مهرجانه السنوي، بفيلم ينتمي الى علم الخيال. 13 سنة مرت منذ ذلك الحين، ولا أحد لاحظ ان المهرجان بات في فخّ الواقعية المفرطة.


أمس، وبحجة فيلم "جاذبية" لألفونسو كوارون (خارج المسابقة) اجتاحت المركبات الفضائية والتعابير الملغز والانفصال التامّ عن الواقع، شاشات "الليدو"، في ثلاثة عروض بالأبعاد الثلاثة. مرتين للصحافة ومرة للجمهور الواسع، الجمهور الرسمي من اصحاب المكانة في المجتمع الايطالي. بين هذه العروض الثلاثة، عقد جورج كلوني وساندرا بولوك ومخرجهما كوارون مؤتمراً صحافياً، لم يتسنّ للكل حضوره، بسبب الزحمة التي شهدها، فتسمّر الصحافيون امام الشاشات الموزعة في أرجاء القصر المتهالك، ليتابعوا تفاصيل اللقاء. جرياً على العادة في مثل هذه المناسبات، طغت الأسئلة السطحية والمملة، وتكاثرت، فنسفت الجوهر. وكما كان متوقعاً، لم يبقَ كلوني، في منأى من حشرية الصحافة الصفراء، هو الذي - يا للدهشة! - شوهد قبل ساعات يمشي في الشارع وسط الجموع، مرتدياً كنزة بيضاء مدموغة بلوغو احدى ماركات التيكيلا. بلى، مروّج قهوة "نسبريسو" يحبّ التيكيلا أيضاً.
أما "جاذبية"، هذا الفيلم الذي جاء بالثلاثي كوارون/ كلوني/ بولوك الى جزيرة السينما، فمسألة تحتاج الى كلام آخر. اولاً، نال الشريط ما يستحقه من استقبال فاتر جداً من النقاد في عرضه الثاني، صباح أمس. عندما صعد جنريك النهاية، كان التعب قد مزّق الوجوه، حدّ انه لم يعد هناك من يقوى على التصفيق. انه من اللحظات السينمائية التي تتبخر ما ان يضع المرء رجله خارج الصالة. ثانياً، بدا الفيلم برمته فاقداً للروح، اذ اغرق كوارون نصه الهزيل في كوكتيل من المؤثرات البصرية والصوتية (على الرغم من الاشتغال اللافت على الصوت) التي لن ترتاح الا مع نهاية الفيلم ووصوله الى شاطئ الصفاء (حرفياً).
الحكاية؟ بسيطة جداً: رائد فضاء مخضرم (كلوني) يصبح أسيراً للفضاء غير المحدود. سيتراقص جسده في الأجواء مع زميلة له متخصصة في الهندسة الطبية (بولوك). هذا كله بعد كارثة يتعرض لها طاقم المهمة تؤدي الى تحطم المركبات واحدة تلو الاخرى، وصولاً الى المصيبة الكبرى المتمثلة في انفصال الشخصيتين، الواحدة عن الاخرى. طبعاً، لا نصدق لدقيقة واحدة حكاية القمر الاصطناعي الروسي، ليس لأننا لا نشاهده، بل لأن الحكاية تبدو مقحمة في النصّ. في الخلاصة، ما كان من المتوقع ان يكون مهمة روتينية، يتحول الى أبوكاليبس فضائي، بحيث ان الهمّ الوحيد يصبح الصمود في وسط اللامكان والخراب، وايضاً التغلب على الظروف الطبيعية، كنقصان الاوكسيجين او انعدام الجاذبية.
والحقّ ان كوارون ليس لديه ما يقوله. على الأقل لا يصل فحوى خطابه، لانشغاله بالجانب الشكلاني. حتى هذا، أي الشكل الجذاب والمشغول بأناقة، يمر أمام العينين على نحو متسلسل ومتعاقب من دون أن يخاطب لا الطفل ولا الحالم ولا المثقف الذي داخل المشاهد. هذا فيلم، خطيئته الأصلية انه يريد ان يرفع رأسه أكثر مما يتيح له السقف.
خلافاً لستانلي كوبريك، معلم سينما علم الخيال الذي انتشل هذا النوع من سياقه المحض ترفيهي، نحن هنا امام نموذج هوليوودي باهت لتيمة الصمود في وجه الاعاصير، ومجاراة وضع مستجد كي يستحق البطل الولادة الثانية. لكن هذا كله يواجه هنا مطبات كثيرة بالمعنى الحرفي للكلمة ويقع في فخّ التسطيح، لا سيما مع الكلام عن امور جانبية وشخصية بين البطلين. ففي حين يقدم كوبريك على صناعة فضاء مشرع على الغموض والأسئلة الوجودية والقلق والمجهول، طارحاً نفسه معلماً تنويرياً، فان ما يفعله كوارون هو السير في الاتجاه المعاكس، اتجاه يفضي الى جعل المساحة غير المحدودة الأطراف سجناً لشذرات فلسفية متهافتة. انجز كوارون واحداً من اكثر الأفلام "كلوستروفوبية" وانغلاقاً، على الرغم من انه كان لديه كل المساحة، ولا شيء غير المساحة. هنا فكرة الفيلم غير المتبلورة وهنا حدوده. هذا الانغلاق هو شعورٌ يسود جراء احتجاز البطلين داخل الخوذة، واحتجازنا نحن داخلهما. بالتأكيد، هناك لقطات بديعة ولحظات صمت تحلق عالياً (المشهد الذي تأخذ فيه بولوك وضعية الجنين في بطن الأم)، لا سيما تلك التي ترينا البطلين معلقين في الخيط الفاصل بين الواقع والخيال، بين قلب يريد الهبوط على الارض وعقل يطمح الى الارتقاء الى فوق. ربما في هذه المعضلة (الصراع بين القلب والعقل)، تكمن تراجيديا الانسان برمتها.
(•) المزيد عن مهرجان البندقية في صفحة "أدب فكر فنّ - سينما".


 


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم