الجمعة - 10 أيار 2024

إعلان

"صراعات الجيل الخامس"، لإميل خوري: التمرّد ممكن ضدّ امبراطورية تحكم العالم

المصدر: "النهار"
امين قمورية
"صراعات الجيل الخامس"، لإميل خوري: التمرّد ممكن ضدّ امبراطورية تحكم العالم
"صراعات الجيل الخامس"، لإميل خوري: التمرّد ممكن ضدّ امبراطورية تحكم العالم
A+ A-

"صراعات الجيل الخامس"، كتاب لاميل نعمة خوري، صادر عن شركة المطبوعات للتوزيع والنشر. قد يوحي عنوانه "صراعات الجيل الخامس" والغلاف، اننا امام كتاب ممل يعالج شؤونا عسكرية او يعرض نظريات مجترّة في العلوم السياسية والجيوبوليتيك، وما أكثر هذه الكتب في الاسواق ودور النشر، وما اكثر المحللين العسكريين والاستراتيجيين الذين يملاؤن فضائياتنا او مكتباتنا بكلام فارغ او اوراق بلا اي مضمون او فائدة.
لكن سرعان ما يفاجىء هذا الكتاب قارئه بعمق معالجته ودقة مواضيعه وتسلسله العميق. تنتقل الافكار في الكتاب من التاريخ الى السياسة، من الشؤون العسكرية المحضة الى الاستراتيجيا والتكتيك، من الاسس العلمية والمسلمات الى احدث التقنيات المكتشفة وانواع التكنولوجيا، من علوم الاقتصاد الى عالم المال واسراره وخباياه وتأثيراته وفاعليته، من العلوم الاجتماعية وفي مقدمها علم الاجتماع السياسي الى العلوم المعرفية وفي مقدمها اقتصاد المعرفة. من الجغرافيا الطبيعية الى الجغرافيا السياسية. والاهم توظيفها كلها في سبيل قضية واحدة هي قضية العدالة والتحرر والتخلص من الظلم والهيمنة، كأن العلوم كلها التي تمر امامنا روافد لتصب في نهر الحرية المنشود والتخلّص من الاحتلالات بكل أنواعها ولا سيما اخطرها المرتكز على العقل ومصادرة العقول.
مثلي مثل ابناء جيلي الذي صدمته الحروب في بلدنا ومنطقتنا، قرأنا الكثير من نظريات الحرب والثورات وحرب العصابات وحكايات حركات التحرر في فيتنام والجزائر وكوبا وقصص أبطالها، واعتبرنا بعضها مسلمات يجب الاخذ بها كما هي من دون تعديل أو تحديث او اضافات. لكنها كانت تصلح لزمن آخر ولظروف اخرى. هذا الكتاب يحفّز ابناء الجيل الجديد ليس فقط على الاطلاع عما سبق والافادة منه، بل على التعمق في المعرفة والبحث العلمي والمنهجي لمواجهة خصمنا بسلاحه نفسه، وهو امر متاح اذا درسنا نقاط ضعف الخصم وهي كثيرة واذا أحسَنّا توظيف العلوم والمعرفة والنضال الصادق في المكان الصحيح وبالأسلوب الصحيح .
هنا في هذا الكتاب يعرض الاستاذ اميل نعمة خوري بشرح دقيق، مختصر وعميق لطبيعة الصراع وحروب البشر على مر الزمن وخصوصا في القرون الخمسة الاخيرة، والتي اصطلح العلماء على فصلها الى اربعة اجيال نظرا الى خصوصية كل منها، ويتوقف خصوصا عند حروب الجيل الرابع التي تتناول خصوصا صراعات زمننا المعاصر، ويستفيض في شرحها وتعليلها والتعمق في تفاصيلها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والفكرية، ليخلص الى اننا بتنا في خضمّ صراعات الجيل الخامس وان على ذوي المسؤولية الاستعداد لها، خصوصا ان انظمة الحكم تغيّرت ومعها التكنولوجيات التي تسارع وقع التقدم فيها، وصار في امكان مجموعات صغيرة ان تتحدى دولا اكبر منها، بكلفة زهيدة وفاعلية مذهلة، والاهم من ذلك كما يقول الكاتب، ان البشر انفسهم قد تغيّروا، فصارت قدراتهم اوسع ومعارفهم اعمق ومطالبهم اكبر، ولم يعد ظلم الناس ممكنا مثلما كانت عليه الاوضاع حتى اليوم.
واذا كانت حروب الجيل الاول (1648-1860) تميّزت خصوصا بالتفريق بين ما هو مدني وما هو عسكري والفصل الكامل بينهما، بمعنى ثقافة الانتظام العسكري والانضباط، فإن حروب الجيل الثاني (1860-1918) تميزت بالسرعة والطاقة النارية والتنسيق الشديد بين الاسلحة حتى صارت الحرب اشبه بمسرحية معدة سلفا. اما حروب الجيل الثالث (1920-1945) فتميزت بتفادي المواجهة المباشرة واللجؤ الى الهجوم غير المباشر وعنصر المفاجاة. ولكل من هذه التميّزات اسباب ترتبط بالافادة من دروس التجارب السابقة والتطورات الصناعية. وبالانتقال الى حروب الجيل الرابع التي تلت انتهاء الحرب العالمية الثانية فان ابرز خصوصياتها هي المواجهة بين دولة شرعية او اكثر وتنظيم لا يحمل تصنيف الدولة، وغير شرعي اي انه لا يتمتع بشرعية الدولة، اي الدولة المعترف بها دوليا، مع الاخذ في الاعتبار معنى الشرعية، بالتفريق بين ارهاب لا قضية له وكفاح شعبي من اجل اعادة اكتساب شرعية نزعتها عنه عملية سياسية او عسكرية ظالمة، ككفاح الشعب الفلسطيني من اجل استرجاع حقه في ارضه، وقبل ذلك كفاح جبهة التحرير الوطني الجزائرية لطرد المحتل الفرنسي عن الارض الجزائرية. ولحروب الجيل الرابع ميزات اخرى منها انها عابرة للحدود ومستمرة ومعولمة ويدخل في نطاقها الاعلام والتكنولوجيا.
ولعل اهم ما يميّز هذه المرحلة الرابعة هو الحرب الباردة ثم الفترة الانتقالية التي استمرت حتى اعلان الحرب الاميركية على الارهاب بعد تفجيرات 11 ايلول. وهنا حضرت الامبراطورية بكامل ثقلها على العالم لتسيطر على سياساته واقتصاده وانفاسه وتطورت لتصبح مخلوقا لا نهاية لسلطته. وهنا ايضا بيت القصيد الاول في الكتاب. من هي هذه الامبراطورية؟ وكيف تعمل؟ من الذي يديرها؟ ماهي ادواتها؟ وماهو دورها وتأثيرها في صراعات الجيل الخامس حيث لايمكن فهم هذه الصراعات من دون فهم الامبراطورية ودراستها؟
هي لم تأت من فراغ، هي خلاصة تطورات الفكر السياسي الاميركي، وبنت مدرسة الحرب الباردة، هي خلاصة تطورات الفكر الاستراتيجي، ومدرسة شيكاغو والفكر الاقتصادي الاميركي، هي ربيبة التحدي التقني.
هل هذه الامبراطورية هي اميركا وحدها؟ حتما لا؟ ففي رأي الكاتب هي كل رموز السلطة على الساحة الدولية وفي القلب منها واشنطن، هي تتجسد في شبكة من المصالح والعلاقات المتراصة المتناسقة، واضحة في اهدافها، دقيقة في توزيع ادوارها، متفانية في تنفيذ مهماتها، فالامبراطورية شبكة فيها تنوع شديد يشمل البشر، الشركات، والقواعد العسكرية، والجنود والسفارات والمستشارين والمحاسبين والخبراء والفنيّين، وعددا يكاد لا يحصى من الاختصاصات والتكنولوجيات، ولا يمكن ذكر وجه من أوجه حياة المجتمع على الارض لا نجد في هذه الشبكة من يعمل فيه وينظمه ويديره ويستفيد من مصادره ونهاياته على حد سواء. بمعنى آخر لديها عضلات وشرايين وشبكة اعصاب ودماغ بعضها واضح وبعضها غير واضح. هي تتمدد على نطاق واسع تتحكم بشبكة المواصلات، بمصادر الطاقة، وبمنابع المواد الاولية، وبشبكة التجارة العالمية، وبالشبكات المالية والمصرفية، وبأرقى الجامعات ومعاهد البحث واللوبيات الفكرية، وبأكبر قوة عسكرية على وجه الارض مدعومة بألف قاعدة في 110 دول، والاهم ان لديها دماغًا مفكرًا غامضًا ومتسعًا وكثير الروافد، فاللجنة الثلاثية التي تأسست عام 1973 وضمت اهم الشخصيات السياسية والاقتصادية والمالية في العالم لم تنشأ عبثا. كذلك مجلس العلاقات الخارجية الاميركي ونظيره البريطاني المعهد الملكي للعلاقات الخارجية، طبعا لا يمكن تجاهل اهمية الحركة الصهيونية ودوره. هذه المؤسسات المفكرة والفاعلة والمؤثرة جدا، تركيبها هرمي وضيق القاعدة تدعمها في التنفيذ مجموعات عالية التخصص والثقافة وموازنات مفتوحة للانتاج المعرفي واعداد السياسات تبعا لمصالح الامبراطورية. (يبين البحث بالتفصيل عمل هذه المؤسسات والشرايين والاعصاب).
هذا المخلوق الجبار الذي صار يتباهى بقدراته غير المحدودة، ويتصرف كأن لا نهاية لسلطته ولا منافس لرغباته، صار هناك حاجة ماسة لوقفه عند حدود معينة وتذكيره بحقوق الآخرين، ولأنه يستمد سلطته وجبروته ليس فقط من قدراته انما من ضعف غرمائه والأنداد، لذا بات التمرد على سلطانه ضرورة .
وهنا يكمن بيت القصيد الثاني والاهم في الكتاب.
هل التمرد ممكن؟ ومن هو المتمرِّد الذي يستطيع مواجهته وتحديه ليس لكسره او إغضابه انما لإرغامه على التفاوض واخذ مصالح الآخرين في الاعتبار.
باريس لم يكن بقوة اخيل، لكنه اصابه بمقتل عند مكمن الضعف في عقبه.
وفي رأي الكاتب ان الامبرطورية التي تمد شبكاتها التجارية والتكنولوجية والعسكرية والاقتصادية وخطوط امدادها على امتداد الكرة الارضية هي نفسها عقب أخيلها. وكل نقطة قوة في مفاصلها نقاط ضعف تصاحبها، وكلما طالت وتشعبت هذه القدرات كثرت نقاط الضعف. ويفيد البحث ان الامبراطورية تهب غريمها بلا مقابل، بنكًا من الاهداف التي لا يمكن ان تدافع عنها، فكل شرايينها واعصابها، بامتداداتها على ملايين الكيلومترات معرضة للوخز والتجريح او ربما التعطيل وحتى الالغاء.
لكن بأي وسيلة واستراتيجية يمكن فعل ذلك؟ وهل من باريس جديد قادر على توجيه سهم نحو كعب اخيل، كعب امبراطورية القرن الحادي والعشرين؟ هل لديه القدرة الكافية ام تنقصه العزيمة؟
ببساطة ان التكنولوجيا هي احدى ادوات الامبراطورية، الا انها متاحة ايضا للمتمرد وهي التي تنجح امكانات مواجهة العملاق او تفشلها. ويعرض الكتاب لكل التكنولوجيات الحديثة المتوافرة اليوم في السوق التجارية والتي يمكن تجييرها لمصلحة التمرد ولا سيما الطائرات والسفن الصغيرة التي تسير من دون ربان ويمكن التحكم فيها عن بعد. لكن التمرد ليس عملية عشوائية او سهلة لا سيما مع عملاق من نوع الامبراطورية الحالية فالتمرد صار اليوم علما وعقلا واعصابًا فولاذية وصار نشاطا سريا على رغم ضعفه وقلة موارده، فان على المتمرد ان ينتصر في مبارزاته مع الامبراطورية وان يتفوق عليها ليكسب احترامها ويُجبرها على الاعتراف بصدقيته. ايضا هو بحاجة الى الصدقية السياسية واصدقاء وحلفاء. مع التفريق الواضح بين الارهاب للارهاب والتمرد من اجل قضية تحظى بالتعاطف. هنا يكمن سر صراعات الجيل الخامس، وهنا مكمن التفوق في التنظيم المتمرد.
طبعا للمنطقة العربية ولفلسطين خصوصا حيّز خاص في قلب الكاتب الذي ينتمي قلبا وقالبا روحا وعقلا الى فلسطين التي تحتلها اسرائيل وهي جزء من الامبراطورية وتتغذى من غذائها. لذا يخلص الى ان منطقتنا رهن برجل، رهن بتنظيم بتجمع، يكشف نقاط ضعف العملاق وإزعاجه بما لا يطيق واستراجه ثم إكراهه على ما يريد، عندئذ يبدأ الاحترام ثم التفاوض. هكذا يبدأ المسار نحو نيل الحقوق.
هذا الكتاب يحاول ان يثبت ان العين قادرة على مقاومة المخرز اذا تسلحت بالعلم والمعرفة والقيادة والمثابرة والتخلي عن اليأس العين تقاوم المخرز. هذا الكتاب يتعين ان يكون دليلا سياسيا ومعرفيا لكل سياسي ومناضل لم يمت في داخله امل التغيير.


 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم