السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

مرعبٌ كيف دَمّرت حرب تموز منازلنا وعُدنا إليها نضحك!

المصدر: "النهار"
فاطمة عبدالله
مرعبٌ كيف دَمّرت حرب تموز منازلنا وعُدنا إليها نضحك!
مرعبٌ كيف دَمّرت حرب تموز منازلنا وعُدنا إليها نضحك!
A+ A-

كانت شرفة المنزل مليئة بالأوساخ عندما عدنا. لم ندرك أنّ البقاء أحياء قد تحقّق بعد 33 يوماً من التشرّد والعراء. قال أبي بعد أيامٍ من بداية الحرب: فلنذهب في اتجاه الأشرفية لربما هدأ القصف، فنوضّب أمتعتنا ونرحل. ذهبنا ولم نعد. مُحالٌ أن نعود بعد سقوط جسر المطار أرضاً، فاتجهنا صوب البقاع من دون حقائب. لا ملابس ولا طعام ولا أفق. عدنا في 14 آب، لنجد أنّ العصفور الذي تركناه في القفص مات. أضناه حرّ الصيف والباب المقفل.


كان يكفي أن نعود لنشعر، ككلّ العائدين، بأنّ الحياة منحتنا فرصة نجاة أخرى. لِمَ الانتظار حتى التأكّد بأنّ الحرب انتهت وإسرائيل لن تُباغت وتُخادع؟ حسم أبي قراره: فلنعد الآن إلى منزلنا! زحمةٌ خانقة طوال الطريق إلى الضاحية المُدمَّرة والبيوت المُهدَّمة. "عائدون" هو الشعار، عقائديٌّ في طبعه، لكنّه في تلك اللحظات كان حُلماً. تنفّسنا المنزل. بأوساخه وغباره ورائحة الثياب العفنة في الغسّالة. تُبقي أمي على الغسّالة تعمل كلّ يوم تقريباً وكلّ الوقت. في اليوم الرابع ربما، ذهبنا نمضي ساعات في مرسيدس أبي الحمراء، لعلّ الصواريخ تلطف وتتمهَّل. اتجهنا بحثاً عن أمان في شوارع بيروت الخائفة. ظلّت الغسّالة تعمل إلى أن تعفّن الماء وفاحت من الملابس رائحة التحلُّل. لكننا، نحن العائدين من دون موت، لم نتذمّر من الرائحة. حتى إننا لم نشعر بها تملأ المنزل وزواياه والفوضى التي تراكمت. اتجهنا نحو العصفور نحاول انقاذه: ماذا دهاك يا كوكو؟ لماذا مُتَّ؟ لم يُجب كوكو. القفص لم يتحرّك.


مرعبٌ كيف هُدِّمت الجسور ودُمِّرت الضاحية، فيما الذين عادوا استقبلوا الخراب ببسمة. لم تأبه أمي لطبقات من الكِلْس الأسود غطّت جوانب الغسّالة الجديدة، ولا ربما لكوكو الذي لم ينتظرنا. عدنا من دون ضحايا، نحن مَن أمضينا الليالي ننام على الأرض، بفراشٍ لا تساوي سماكته خمسة سنتيمترات، منذ أن أصبح البقاع خطراً، فتركناه في اتجاه إحدى المدارس البيروتية. لم نأبه إلا للعودة من دون جثث. كنا لنشارك جارتنا خسارة أمها وأخواتها الأربع في ضربة جوّية واحدة، لكنّنا- ولعلّها أنانية- أبقينا في أعماقنا على شعور بأنّنا عائلة سعيدة أنهت الحرب بضحكة.
راحت أمي تجول في المنزل، كأنها تبحث عن أشياء أضاعتها، أو كأنها تلاحق وجودنا لتتأكّد بأنّ الجميع هنا. فجأة امتلأ الحيّ. كنا آخر الراحلين عنه لاصرار أخوتي على البقاء مهما حصل، ثم عَدَلوا من أجلنا: أنا وأمي وشقيقتي اللواتي كنا نرتجف مثل الزهرات أمام العاصفة مع كلّ صاروخ يسقط أو حجر يُدمَّر. شهدنا الحيّ يفرغ، وفي 14 آب شهدناه يستعيد نبضاته نبضاً نبضاً. أصبحت منازلنا واحدة: الجميع ساعد في التنظيف، الجميع في حراك لا يهدأ، والجميع سَرَد الحكايا كأنه آتٍ من نزهة. لمحت الأحزان في عينيّ جارتي العائدة إلى منزلها من دون أمّ وأخوات. هو حزننا وهي خسارتنا، نحن الناجين أيضاً.
حلَّ بعد الظهر فكانت منازلنا التي لم تُقصَف قد استحالت قصراً. الذين فقدوا المنزل وما فيه مدّوا فوق بقاياه الحصائر وأعدّوا القهوة. أحدٌ لن يؤكد لنا أنّ الحرب انتهت. هذا الوجود مهدَّدٌ بمعارك عدّة بأشكال عدّة ووجع واحد. تهديد من جهة إسرائيل والظلام ومكوّنات أخرى. نستذكر مَن رحلوا وهم في الطريق من هَرَبٍ إلى هرب. مَن قضوا لأنّهم لم يغادروا منزلاً وقرروا مواجهة الطائرة. نستذكر مَن هم اليوم في الجنوب يزورون الأضرحة ويتركون عليها ذكريات ووردة. كان ليل الصمت الرهيب قضيناه من البقاع إلى بيروت. صمتٌ بحجم كوكب. عطّل أبي أضواء المرسيدس، فلا تلمحنا طائرة الموت من أعلى. كنا ثمانية أفراد في سيارة من حُسن الحظّ أنّها لم تتعطّل. أحدنا لم ينطق بكلمة. نجونا. عشرة أيام أمضيناها في مدرسة ثم عدنا. منازلنا هي الجنّة.
[email protected]
Twitter: @abdallah_fatima

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم