السبت - 11 أيار 2024

إعلان

كتاب - "على شاطئ تشيسيل" لإيان ماكيوان: تثقيف الفشل في الحب

جينا سلطان
A+ A-

وصف النقاد رواية "على شاطئ تشيسيل" للكاتب الانكليزي إيان ماكيوان بالتحفة الرائعة لكونها تقتحم خصوصيات العالم الحسي الذي يتاخم عصف المشاعر المتقدة. اذ يكتفي بنشر مؤشرات دقيقة جدا تفضي الى هزيمة عاطفية نهائية، ما يجعلها أقرب إلى تثقيف الفشل في الحب.


يتحدث ماكيوان بأسلوب واضح مكثف، لا يتعمد الوصف ولا الادعاء، عن القلق والآراء المؤرقة التي كانت سائدة حتى منتصف القرن العشرين. فهو يجدل سرده من تلك الاوقات غير المحسوس بها، المجزأة لحظات وانفعالات ونظرات وافعالاً؛ أوقات نجتاز فيها حياة متقلبة، هشة، تودي بنا الى الفشل، ليتوضح لدينا في نهاية المطاف أنه كان في استطاعتنا تغيير مجرى الحياة بشكل جذري بعدم فعلنا شيئاً، وهو ببساطة شديدة، المغزى الذي تدور حوله الرواية.
يأخذنا ماكيوان مباشرة إلى خلوة العريسين العذريين إدوارد وفلورنس في ليلة زفافهما، مركّزاً على تواتر الاختلافات الصغيرة التي فصلتهما، أحدهما عن الآخر، من الأصول الاجتماعية، إلى الميول والفوارق في الثقافة الموسيقية، وصولاً إلى العلاقة الجنسية وتباين المتوقع وغموضه بينهما.
كانا شابين مثقفين، يعيشان في بداية ستينات القرن الماضي، حين استحال الكلام الصريح عن المشكلات الجنسية. فمشكلة فلورنس تجاوزت القرف الجسدي البسيط، إلى محاربة جسدها كله لفكرة التعري، التي كادت أن تغتصب طمأنينتها وسعادتها الجوهرية. وهذا العجز عن شرح المشكلة لنفسها تسبب بشرخ عميق إبان اتصالهما الأول.
أحبت فلورنس ادوارد، ليس بالشغف الجسدي الملتهب، انما بعمق وحنان يأخذان شكلا طفوليا. كانت معجبة جدا بفضوله الثقافي، بلكنته الريفية الخفيفة، بقوة ذراعيه التي لا تصدّق، بأجوبته غير المتوقعة، بلطافته. لم تكن تشك لحظة وهي في الثانية والعشرين برغبتها في قضاء ايامها الباقية كلها معه. فكيف بإمكانها المخاطرة بفقدانه وهي لا تملك انساناً آخر يمكن الوثوق به!
ظاهرياً كان كل شيء يبتسم لهما. فلديهما الكثير من المشاريع لمستقبل ضبابي، متشابكة بعضها مع البعض الآخر، من مكان الاقامة الذي يحقق لهما فرصة البدء بحياة مستقلة جديدة، إلى موقع ادوارد المضمون في شركة حميّه. ثم مهنة فلورنس الموسيقية وطريقة التصرف بالمال الذي تلقته من والديها، والأهمّ رفضهما العيش التقليدي كسائر الناس.
كان كلٌّ منهما يجهل الآخر جهلاً تاماً تقريبا، وها هما يصلان بفضل ارتباطهما الغريب الى احدى قمم وجودهما، مفتونين بموقعهما الجديد الذي في استطاعته ان يحملهما بعيداً من مرحلة الشباب التي لا نهاية لها. وقد شكل الحديث عن طفولتهما احد المواضيع المفضلة لديهما، واقل منه كان الحديث عن ملذاتها التي اظهرتها ضبابية، الاحكام المسبقة الهزلية او الاخطاء المختلفة لوالديها وممارساتهما التي تعود الى عصر آخر. في ذلك الوقت كان ادوارد وفلورنس يشعران انهما سجينا عصرهما، حتى وهما وحدهما. اذ استمرت ألوف من القواعد المضمرة في فرض نفسها عليهما.
كان ادوارد طموحاً للعمل على الدراسات التاريخية، فتاريخ الحميمية الاجتماعية والأسرة سوف يجعله يكتب تاريخه الخاص في انعكاس ساخر، ليغدو هو نفسه إحدى تلك المفارقات التي للرجال اللامعين والسريعي الزوال في التاريخ الذي كان يحلم به. ولأنه قرأ جداريات ضخمة بأشكال وألوان مختلفة للقمع، للبؤس والرجاء الخائب، وفهم كم في مقدور الحياة ان تكون جاحدة وشحيحة، جيلاً بعد جيل، أدرك أن السعادة التي كان يتشارك بها مع فلورنس هي في ذاتها حدث فريد. في المقابل كانت فلورنس على ثقة تامة بنفسها، بمجرد ان يتعلق الأمر بالموسيقى. فقد مثّلت بجدارة شهوة الانسانية للغموض الرائع للموسيقى، مضافةً اليها عبقرية الأصوات المتناغمة التي تعزف تحت شكل كرة من لهب أبدية. بأذواقها التقليدية المتقدة، وأصالتها المتفردة ملكت الكثير من المعرفة للطريق الذي يقود نحو المتعة، بينما اقتصرت ذائقة إدوارد الموسيقية على البلوز التي توحي بحياة جنسية متفجرة ومتحررة بعيدة عن الانظار، غنية بالمكافآت من الاشكال والانواع كافة.
في لحظة التأزم بين الزوجين، نتيجة الجهل بالعلاقة الحميمية، تنتاب فلورنس مشاعر العدائية والغضب، فتهرب إلى الشاطئ لتراجع سلوكها المعجون بمزيج من القرف والخجل والخوف، أملاً في التوصل إلى نوع من أشكال التسوية مع ادوارد. وباعتبار أن الرهان بينهما كان على ان يتبادلا الحب كما التحرر، عرضت عليه متابعة الحياة ضمن اطار العلاقة الجسدية مع أخريات لتجاوز برودتها الجنسية. أرادت فقط البقاء معه، الاعتناء به، ان تكون سعيدة معه، وأن تتابع التدريب مع فرقتها الرباعية، على أمل حدوث معجزة في يوم ما.
منعته الكبرياء من محاولة رؤيتها او حتى الكتابة اليها. في نهاية العقد الستيني الشهير، بدأت حياته تندفع مع التغيرات الفتانة والحريات والموضة الجديدة، الى جانب نجاحه الفوضوي في مغامرات عشقية. وعلى رغم امتلاكه كفاءة معقولة، كان غالبا ما يفكر بغرابة في عرض فلورنس، الى أن بدا تدريجيا مع مرور السنين اقل استهجاناً وغير مهين او جارح حتى انها ظهرت في السياق الجديد اكثر تحررا وسابقة لعصرها، ذات طيبة نفس ساذجة وتضحية لم يتوصل الى فهمها.
بدت نجاحاته ازاء نجاحها المهني الكبير، مادية بحتة محدودة، فقد ترك نفسه ينقاد وهو نصف نائم غير مبال، خال من الطموح، سطحي من دون اطفال، وفي مأمن تام من صعوبات العيش. بعد مضي ستين عاما اصبح رجلا طاعناً في السن. عندما يفكر فيها لم يكن يصدّق انه تركها، ففي الوقت الحالي أصبح يتفهم عرضها بالتراجع كحاجة للشعور بالأمان، والتأكد من محبته لها. غدا يسمعها تقول ان لا شيء مستعجل طالما ان الحياة بأكملها امامهما مع الحب والصبر. لو فقط استطاع امتلاك الاثنين لكانا تجاوزا هذه المحنة معا. هكذا يستطيع المرء تغيير مجرى حياته جذريا: وذلك بأن لا يفعل شيئا.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم