الثلاثاء - 14 أيار 2024

إعلان

"ثورات" لجان ماري لوكليزيو: سيرة ذاتية مطعّمة بالبعد الملحمي واختلاجات المنسيين

جينا سلطان
A+ A-

لنفحات الحرية مذاق مختلف في جنبات الكاتب الفرنسي جان ماري لوكليزيو؛ فالشغف بالعدالة والمساواة يتحرر من ازدواجية المعايير الغربية، ومن سطوة الأساطير والخرافات الاستعمارية، ليلج عالم الهامش حيث يلغى الزمن بمفهومه المستقيم، فتتعايش قسوة الحياة مع رقة المشاعر والعواطف، مما يطبع سيرته الذاتية، "ثورات"، بالبعد الملحمي، المنفتح على خلجات المنسيين وأحلامهم المسكونة بعصف التاريخ.


يحتوي لوكليزيو ازمنة في زمن واحد، فتتشعب ماهية الثورة وتستطيل لتغطي أمكنة غير متوقعة، من الثورة الفرنسية إلى الجزائرية، فثورة المذلولين والمهانين في المستعمرات الفرنسية. تتداخل ذاكرة العنف والفوضى ببهاء الحب وتذبذب المشاعر في أحضان القلق الوجودي. ويتكفل الحضور الانثوي نقل ارث التلاقح بين الأجيال، ممثلا في شكل أساسي بالعمة كاترين، الذاكرة المتبقية من روزيليس، وهو الوطن الصغير الذي حفظ جوهر الثورة الفرنسية، فكان أيقونة الماضي المشع.
في عمر الثانية عشرة بدأت زيارات جان تتوالى لمنزل كاترين مأخوذا بحياة أبيها جان شارل، الذي ترك كل شيء ليستقر في موريس. ثم عاد من جديد ليحتل ذاكرة وارثه البعيد جان ويملأ مخيلته بمزيج من احلام وصور، ضجيج وصراخ واوهام، وبآمال الغير ويأسه. بهذه الطريقة ينجح في تناسي الصخب والعنف في شوارع الستينات من القرن الماضي، بدءاً بالثورة الجزائرية وانتهاءً بربيع باريس. وفي حين انضم جان شارل إلى الجيش للدفاع عن مكتسبات الثورة الفرنسية، رفض جان مسبقا مهنة السلاح وأهوالها التي خبرها سلفه أثناء مواجهة الجيش الامبراطوري المدافع عن الملكية الفرنسية. المفارقة المحزنة أن الثورة التي جاءت لتحرر شعوب الارض قاطبةاستبسلت في عهد الجمهورية لتقيد هذه الحرية، رافضةً حق كل فرد في ممارسة اقتناعاته وعاداته. كان لا بدّ من الرحيل إلى العالم الآخر بعيدا من عقوبة حديثي النعمة السياسيين ومحبي الوطن الزائفين. ومثلما طرد جان شارل من أحلامه في روزيليس، طرد حفيده رايموند مارو من سنغافورة، إثر مواجهته القائد الأعلى كي يساعد الثائرة الصينية اليافعة. وهي نفحة إنسانية تتواصل مع ولده جان في صيغة تعاطف رائع مع الصبية البكماء والصماء أورو، ابنة الجنرال سوميرفيل من عشيقة مجهولة في ماليزيا، سمّاها الأميرة الصامتة، وحلم دوما باصطحابها إلى موطنها.
في السادسة عشرة من عمره، استولى عليه الضيق المتأتي من مغادرة الطفولة واقتحام عالم البالغين المجبول بالحروب، فشرع في التجوال اليومي في شوارع المدينة الخاوية المذعورة بعد صدمة وداع صديقه المقرب سانتوس المولع بالفلسفة الذي أجبر على الالتحاق بفوج مشاة متجه نحو الجزائر. آنذاك ساد عنف استثنائي، وبقي المكان الوحيد الهانئ هو حديقة اوليفيه، حيث واظب سانتوس على ملاقاة اوديل قبل ان تبتلعه الحرب. هناك التقى جان بزميله كيرنس العائد من الجزائر في اجازة مرضية، فنقل إليه صورة الموت المهدد لسانتوس خلف كل شيء، فاستغرقه شعور يؤكد احتضار الفن والحكمة وغلبة الافكار المعاصرة. وهي تداعيات مؤرقة اختزلها جان بمفهوم التقابل بين الجمال الهادئ للحديقة والموت الذي شاهده كيرنيس، فكأنهما وجهان لواقع واحد. وهي فكرة تتوافق مع عنصرية عشيقته ريتا وكراهيتها مع أقرانها لأبناء المستعمرات.
كان أكثر ما فاجأ جان ميشال، بعد وصوله إلى المستعمرة الفرنسية، الفرق بين الفرنسيين في فرنسا ومواطنيهم في الجزر الاستوائية، اذ لم يفكر هؤلاء الناس سوى في التسلية والانغماس بالملذات من دون ان يلتفتوا للبائسين الذين يعيشون في جوارهم. ملهاة تصل إلى ذروتها مع قصة المواطن لويس وزوجته الخلاسية لور دو باسان، حين يصوت المجلس الاستعماري بنفيه لسوء تصرفه ويبطل زواجه من لور بعد شهرين، فيحاول اصطحابها إلى فرنسا للترافع أمام حكومة المديرين، على رغم أنها نبذت تعاليم الثورة وأعادت تجارة العبيد لتنال رضى المستعمرين.
أمضى جان خمس سنوات في لندن لدراسة الطب وكانت أليسون هي الواقع الوحيد في حياته، إذ تعلق بجسدها الدافئ ليلا حتى لا ينتشله العدم، بعدما انتزعت المدينة منه كل خيوط الانسانية. لكنه احب تلك اللحظات التي راوده فيها الشعور بأنه لامس جذور عوالم عدة. وبعدما أمضى زمنا طويلا باحثا عن الواقع عثر عليه في محاضرات الطب، حيث تنعدم التسلية بين الطلاب والحوارات حول السياسة والحرب والعنصرية، فتنعّم طويلا بشعور معايشة الحياة الموقتة في راهنيتها الحتمية. وحين دخل في خدمة العجزة ليرافق المرضى الميؤوس منهم، اقترب من الترف الاخير الذي يحظى به من يترقب الموت. تلك الخبرات العميقة جعلت كل إحساس مترافقا بالألم، ليغدو جان كائنا مفرط الحساسية تجاه إلغاء الكرامة الإنسانية، الأمر الذي يفسر سبب الصدمة الكبيرة التي أعقبت اكتشافه للمكسيك، فمنذ تلك اللحظة التي لامس فيها هذا العالم لم يعد كائنا عقليا. وهذا ما أهّله ليغدو صوت الذين لا صوت لهم، كصوت تلاميذ البوليتكنيك الفقراء، الذين واجهوا عنف الشرطة والجيش بسلاح الحجارة فقط، معبّرين عن سخطهم البطيء والثقيل الرافض للعالم الفاسد القائم على التهريب والنهب. وهو أيضا صوت كيامبي ابنة المحارب الذي قتله قطاع الطرق قبل سبي ابنته وبيعها لتجار العبيد. فيضم نشيجها إلى أنين أقرانها من عبيد السخرة في الجزر الاستوائية، حيث فشل جان ميشال في الدفاع عنهم، فاكتفى بتحرير روزيليس من لوثة الرق والعنصرية.
يقدم لوكليزيو معبرا لانهائيا من الحيوات، ضمن نسيج سردي يزداد كثافة مع تواتر القص، فالشخصيات تتوقف برهة عن تخبطها في متاهتها، لتسجل ترنحاتها وآمالها بإيقاف الزمن عند لحظة سعادة مشتهاة. ونفي الزمن يتيح إمكان توسيع شبكة الحوارات، وإعطاء بعد ملحمي للماضي على حساب حاضر غارق في الخزي التاريخي.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم