الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

الملعب البديل

المصدر: "النهار"
يوسف طراد
الملعب البديل
الملعب البديل
A+ A-

في مطلع السبعينيّات من القرن الماضي، جلس مراهقون تعصف بهم الملذّات والأهواء، وترتعش شهوات هاربة من أقفاص أجسادهم، صِبية يعيشون الحرية صلاةً وذوبانًا خارج الفصول الأربعة، جلسوا يتابعون الدَّوْري الألماني على شاشة صغيرة بالأبيض والأسود. ولكنّ شغفهم بالمباراة حضّهم على ترجمتها واقعًا على الأرض. وكان اكتشافُ أحدهم لبقعةٍ من الأرض تقع في قرية (بلّا) المجاورة وتشكّل مستنقعًا في الشتاء، بمثابة اكتشاف كريستوف كولومبوس للقارّة الأميركية؛ فانتظر بفارغ الصبر جفافَ مياهه. وكم كانت دهشته عظيمة عندما وجد المستنقع في نهاية شهر أيار ملعبًا خياليًّا يضاهي ملاعب أوروبا، مكسوًّا بفِراش متناسق من الحشائش، تطغى على جوّه رائحة النعناع البرّيّ المنعش.

بقيَ تأمين الكرة. لكن من أين وكيف؟ لا أحد يعلم كيف يحقّق الرب الأماني المترامية على حدود أحلام الصغار الزاهية. شاءت الظروف أنّ أحد (الدكنجية) قد جلب معه علبة سحوبات من طرابلس، كل سحبة ملفوفة بورقة ملزّقة من كل الجوانب ثمنها خمسة قروش. ولمحاسن الصدف، كان بين الجوائز كرة بلاستيكية متوسطة الحجم، بنصف حجم الكرة العادية، وكُتب عليها باللغة الأجنبية اسم صنف من الحليب. خصّصنا (خرجيّتنا) البسيطة لتحقيق حلمنا، وتناوبنا على السحب. وبعد جهد جهيد ووقت طويل استغرق أسبوعًا كاملًا كأنّه دهر، ظفر سائدُنا بالطابة.

تجمّعنا في الساحة عند السادسة صباحًا، فتيَةٌ تضج فيهم الحياة. حلمُهم ملعبٌ يتهادى أنشودة أمكنة وأمنيات على حدود الشفق البعيد. الهدف يبعد مسافة سير ساعتين تقريبًا، مع ذلك قطعنا المسافة ركضًا خلال ربع ساعة، كأنّنا ذاهبون إلى دالية غفلنا عن عناقيدها. عند وصولنا دُهش الجميع لما رأوه، المنظر الجميل أيقظ الهلوسات الغافية لتصبح كحلم سرب سنونو على ندى الفجر. فالملعب أخضر يضجّ بالحياة، لا بالأبيض والأسود كما على الشاشة الصغيرة؛ يتوسط حدائق التفّاح، وعلى جانبه الشرقي صخرة نافرة رائعة من صنع الطبيعة الربّانية.

كانت صَفرة البداية من دون حَكَم أو صفّارة، إنّما اقتصرت على ركل الكرة، بعدما وضعنا من كل جهة حجرين لتحديد المرمى، وقسمنا عددنا إلى قسمين كل فريق من خمسة فتيان، وكان لباسُنا الموحَّد في المباراة مؤلّف من ثيابنا الممزّقة الملوّنة بألوان الفقر والشقاوة الجميلة، إذ لم يكن لدينا ثيابٌ غير التي نرتديهأ.

ذقنا الأمرّين من اللطمات التي كانت تصيب سيقاننا النضرة، بسبب المسامير المثبتة في نعال أحذيتنا، إذ لم يتوفّر لدى أحد منّا حذاء رياضي. المحظوظ كان ينتعل (إسبدرين بو طبعة)، ذا رائحة كريهة، تنبعث منه عند خلعه (كوكتيل) روائح هي مزيج من نتن الجوارب وتعرُّق القدمين ورائحة الكاوتشوك. زاد الطين بلّة جهلنا لقوانين اللعبة، والعطش والجوع... كلّ هذه فتكت بنا، وقد غفلنا عنها لشدّة شغفنا باللّعب.

عدنا مساء إلى القرية كأنّ أحدًا لم يغادرها، كالعادة كنّا لا نعود إلى المنازل إلّا عند اصطباغ البحر بلون الشمس القاني التي حوّلت بياض بشراتنا خلال النهارات الطويلة إلى سواد شبيه بفحم المشاحر لأنّه (لا أم تنهر ولا بيّ يقهر).

عام 1975 أقلعت عاصفة الحرب الأهلية من بيروت، واجتاحت جميع المناطق بفيروس لا شفاء منه. كالعادة صعدنا صبحيّة صيف، ومعنا الطابة، إلى المستنقع الجاف، لنمارسَ هوايتنا الجديدة. ولكن ما لبث أن سيطر علينا الحزن والأسى، ليس من مشقّة الصعود، بل تحسّرًا لحرماننا من اللعب: فقد طالعتنا على أرضه أفواجٌ من الشباب بزيّ عسكري يتدرّبون على مختلف أنواع القتال. إنّهم ينتمون إلى أحد الأحزاب الذي سيدافع عن لبنان والمسيحيّين، في وجه أحزاب ستدافع عن لبنان والمسلمين.

طوينا شغفنا للّعب، وضعناه بحسرة في قرارة نفوسنا، وأفلنا عائدين خائبين. حلّت اللوعة في النفوس، وظلّلت العتمة شهدَ الجنى بانتظار تسرُّب حلم آخر لمكان مشابه... ووجدنا ضالّتنا! إنّه (الكوكب)، سهل أخضر في منطقة (بنهران) العقارية، إحدى القرى الشيعيّة المجاورة لقريتنا (برحليون)، ويقع على الحدود الجنوبية الغربية أسفل خراج القرية. يمكن رؤيته من أعلى التلال المتباهية في الشموخ، لكنَّ أحدًا من الصغار لم يزره. هذا (الكوكب) كأنّه في فضاء أسطوري خارج مجال اللهو، في مجرّة عاصية لا تصل إليها صواريخ أمانينا الصغيرة. هل يمكن أن يكون ملعبًا بديلًا؟ عُرضَت الفكرة على جمعية عمومية سريّة لصغار القرية، فكانت الموافقة الفورية بالإجماع.

في الصباح الباكر قبل ضجّة "أبو بليق"، اجتمع شملُنا في الساحة من دون دعوة مسبقة، منتظرين الطابة وحاملها. انحدرنا ركضًا حتى حدود قريتنا، لأنَّ سُبُلَها طُبعت في مخيّلتنا "كباقي الوشم في ظاهر اليد"، كيف لا ونحن مَن أحصى حجارتها حجرًا حجرًا، وأشجارها شجرة شجرة، والصخور والصقور والمفارق والجلال والتلال، حتى النسمات والرياح ونقاط المطر! عند تخوم (بنهران) مشينا الهوينى على سليل يسلكه الصغار للمرة الأولى، شاهدنا الملعب عن بُعد وبداخله فتية يركلون كرة.

تقدُّمُنا كان حذِرًا، ووصولُنا خجولًا، "تخرسن" الكلام في حناجرنا، نطقَ حاملُ الطابة: "بتسمحولنا نلعب معكن"؟ فوافقوا! وكانت الفرحة، فالمباراة. اختلط شغف مارون وطوني للّعب بلهفة حسين وعلي. إنّهم من الإخوان الشيعة من أبناء جارتنا الحبيبة بنهران. كان المشترَك بيننا رثاثة الثياب، تناسق الأجسام، اسوداد البشرة، قوّة العضلات، الأحذية البالية، وعشق اللعب المستوطن كياننا، في ملعب اختبأت الأشواك بين حشائشه.

عندما اكتشف كبار قريتنا سرَّنا في نهاية الصيف، منعونا من النزول مجدّدًا إلى ملعبنا! "بحرب الكبار شو ذنب الطفولة؟!" لكنّنا نحن الصغار، كنّا ننزل خلسة، جاهلين ما يحدث بين الكبار.. إلى أن مُنعنا نهائيًّا عن تحقيق مرادنا، فكبر المنفى في قلوبنا داخل قريتنا، واختطفـت هيجاءُ الوطن أحلامَنا.

دار الزمان، وحطّت الحرب رحالها، فتقابلنا من جديد مع رفاق ملعب الطفولة. وتجدّدت الصداقات. حفرنا قشرة الطين الطرية من فوق مآسينا المستوردة، كي لا تندثر أحلامنا تحت عجلات المصالح المتشابكة. لكن رغم كل شيء تمنينا رحلة عمر إلى خلود الوطن، هاربين من صقيع هياكلنا المذهبيّة.

واستمر السؤال الذي لا جواب له: هل كان من لزوم لتلك الحرب البشعة؟!

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم