السبت - 11 أيار 2024

إعلان

رسالة إلى أنسي الحاج

أنطوان الدويهي
A+ A-

1
ليس من مناسبة لهذه الرسالة سوى أن الكلمات المكتوبة تُولى حرية تعبير لا يتيحها الكلام. يحرِّر المكتوب من المثول وجهاً لوجه، ومن ثنائية الناظر والمنظور إليه، ومن اعتبارات الظرف والمكان، فيكون المرء فيه مع نفسه، مخاطباً ذاته. ليس من مناسبة قطّ إلا تلك. لا رثاء ولا من يرثون، ولا عزاء ولا من يعزّون. فأنتَ الأعلم بأنّه لم يمت لنا أحد لنرثيه، وما غاب عنّا أحدٌ لنعزّي به. وكم قرأ ولداكَ جيداً مشاعري حين حضرتُ في اليوم الثاني، واعتذرتُ عن عدم تمكّني من المجيء في اليوم الأول لسبب قاهر، فأجابني لويس باسمهما: "لِمَ تعتذر؟ أنتَ موجود، وهو موجود".
كنا، هما وأنا، من دون أن نتكلّم عن الأمر، لا قبل ولا بعد، في رؤية واحدة لما حدث.

2
لستُ معتاداً إطلاع أحد على يومياتي. لكنّي، في لحظة بوح، أودّ أن أكشف لكَ ما دوّنته بعد لقائنا الأخير قبيل "عيد الميلاد" الماضي: "ألاحظ باندهاش، مرّةً أخرى، أنّه لم يتغيّر فيه شيءٌ منذ أن التقينا، المرّة الأولى، في مدينة السين قبل ستة وثلاثين عاماً. لا في نفسه ولا في شكله ولا في تصرّفه، ولا في علاقة أحدنا بالآخر. بينما كنتُ أفكّر في ذلك، فوجئتُ بدخول أحدهم القاعة ومعه صورة فوتوغرافية لأنسي في مطلع الأربعين من العمر، لإدراجها ربما في مقالة عنه. خلال الحديث القصير بينهما، قال له: "غريب، إنّكَ لم تتغيّر منذ ذلك الحين". استغربتُ، من جهتي، برضى وسرور، توارد الأفكار في اللحظة نفسها، بيني وبين هذا الرجل الذي لا أعرفه، ورأيتُ فيه تأكيداً موضوعيّاً لما أشعر به، وأنّي لست الوحيد الذي يرى ذلك. أثنيتُ على قوله وأضفت: "في هذه الصورة، كان هو الجدّ الأصغر". أكمل أنسي الكلام، مشيراً إلى الخبر الذي نُشر عنه تحت هذا العنوان في باريس، حين وُلِد حفيده الأول. تذكّرتُ تماماً صورته آنذاك في تلك المجلّة، وكم تكاد تكون هي نفسها صورته وهو الآن أمامي.
بعدما خرج الرجل، تحدّثنا كالعادة في أمور كثيرة، باهتمام ومحبة ومرح. قال لي إنّي أنا الذي لم أتغيّر. أشار مرّة أخرى إلى "الطفولة" التي تسكنني. كان يقول دوماً إنّه لا يصدّق أني تزوجتُ وصرتُ ربّ عائلة، ولا يكمل فكرته ليوضح لماذا. أعلم أنه لا يرى فيَّ إلا ذلك الشاب المقيم في ذاته، الهارب من التفاصيل، الملتزم عالمه الخاص وحريته ووحدته وحلمه لا غير، وهو لا يتخيّله في "القفص الذهبي". نظرة شبيهة إلى حدّ بعيد بنظرتي إلى نفسي. كنتُ أجيبه أنّي أنا أيضاً لا أصدّق أنّي تزوّجت. وأضيف أنّي، أثناء عرسي، كنتُ أشعر كأنّ أحداً سوايَ يتزوّج. كنّا نضحك ويضحك معنا الحاضرون من أصدقائنا. ضحك معنا أميل هذه المرّة.
تذكّرنا رحلتنا الشتوية إلى شاطئ النورماندي آخر السبعينات لمناسبة عودته إلى بيروت. كيف اجتزنا تلك البراري العميقة الاخضرار التي بهرته، في طريقنا إلى دوفيل، بسيارتي البيجو الصغيرة القديمة. كان فراقه باريس فراقاً مؤلماً. قلت له هذه المرّة أيضاً: "هذا شأنك على الدوام، تصعب عليكَ كثيراً مغادرة الأمكنة التي اعتدتها واعتدت نمط حياتكَ فيها. كان فراق باريس بالغ الصعوبة. كذلك مغادرة بيروت إلى باريس بالغة الصعوبة أيضاً". أجابني: "لا تعلم كم أنا مشتاق إلى العودة إلى باريس".
ثم استعدنا سهراتنا في تلك المقاهي. ومنها مقهى "لو ديبار" على رصيف السين قبالة بركة سان ميشال، الذي كان يفتح طوال الليل. كيف كنّا نبتسم حين يدخل رجلٌ بشع، يداً بيد مع امرأة لا تقلّ عنه بشاعة ويجلسان وجهاً لوجه جلسة العاشقين. ذكّرتُه كم كان يلفته ذلك، ويعلّق عليه بمرح ومودّة. استعدنا بعض تلك التعليقات المليئة بالظرف ورهافة الاحساس والحنو البشري وضحكنا من جديد.
سألته إذا اطّلع على المقالة الجميلة المنشورة عنه في "النهار" أخيراً ومعها بورتريه له. أجاب "أجل قرأتها". قلت له إنّي أحببتُ كثيراً هذا البورتريه الذي يذكّرني بالمرّة الأولى التي رأيته فيها، قبل سنين من تعرّفي إليه. كان ذلك في الحمراء أوائل السبعينات. كان مقهى "أكسبرس" قد فتح أبوابه قبل حين، وقد لفت انتباهي لأنه لم يكن مباشرة على الرصيف شأن سائر المقاهي، بل تفصله عنه باحة خارجية فسيحة. اعتدنا في "حركة الوعي" الالتقاء هناك بين وقت وآخر. ذات مساء مرّ أنسي الحاج على الرصيف المقابل، بقامته النحيلة، ومعطفه الطويل الأسود، ووجهه الرهيف، ولحيته الصغيرة الهوجاء تحت ذقنه، ونظره المثبت أمامه. كأنّه يسير في اللامكان داخل ذاته. بقيتْ تلك الصورة الأولى هي صورته في نفسي على الدوام. تذكّرنا ما كان قاله لي في باريس عن المرّة الأولى التي رآني فيها هو أيضاّ. كان ذلك أوائل السبعينات أيضاً. شاهد صورتي وأنا في مطلع العشرين من العمر، وسط صفحة كاملة نشرتها "النهار" آنذاك عن "حركة الوعي"، وبقيتْ تلك الصورة على الدوام هي صورتي في نفسه. قبل أن يلتقي أحدنا الآخر بسنين، كان شديد الاعجاب بـ"حركة الوعي" التي كتب عنها مقالته الشهيرة "اللامنتمون". ثم عدنا إلى موضوع البورتريه. قال أنسي إنّ بول غيراغوسيان أصرّ عليه لرسم البورتريه. جلس أمامه لفترة من الوقت، ثم ضجر وذهب ولم يعد. سألته إذا كنتُ أخبرتُه من قبل قصّة البورتريه الذي رغب صليبا الدويهي وضعه لي في باريس. أجابني بـ"لا". أخبرته حينئذ تلك القصة الغريبة - وهي غريبة بسببي وليس بسبب صليبا - بكل تفاصيلها. كان هو وأميل يصغيان باهتمام وشغف. علّق أنسي على الأمر قائلاً "أنتَ معك حقّ، وهو معه حقّ"، ثم غرقا في الضحك.
انتقل الحديث إلى تاريخ لبنان الذي كان أنسي دائم الاهتمام به، خصوصاً تاريخه الثقافي، ودور مجتمع جبل لبنان المبكر في الانفتاح على الغرب وعلى العصر منذ اوائل الأزمنة الحديثة آخر القرن السادس عشر، ثم مجتمع بيروت منذ مطلع ثلاثينات القرن التاسع عشر. كان يعلم أنّي وضعتُ مقدّمة طويلة بالفرنسية حول ذلك، للكتاب الجماعي "أربعة قرون من ثقافة الحرية في لبنان: القرن السادس عشر- القرن العشرون" الذي أشرفتُ على مضمونه وقد صدر قبل سنين. كنّا اتفقنا من قبل أن أُحضِر له نسخة عن هذه المقدّمة، كون الكتاب من الضخامة (جزءان كبيران يزنان نحو أربعة عشر كلغ) بحيث يصعب نقله. سألني: "أين هي المقدّمة؟". اعتذرتُ عن تأخّري في إحضار نسخة عنها لأن الكتاب في إهدن، ووعدته بإحضارها له على الأكيد في لقائنا المقبل.
أتينا، في الحديث، على موضوعات عديدة أخرى. ثم انتبه أنسي فجأةً أنه تأخّر على موعد له للعشاء. ودّعناه، وقبّلته على جبهته. كنتُ قبّلته على جبهته مودّعاً في المرّة السابقة أيضاً، ما لم أفعله ولا مرّة من قبل طوال معرفتي به.
عند نزولنا إلى باحة المبنى تحت، اقتربتْ منّا صبية جميلة، رزينة، وحسّاسة، وسألتْ أميل لماذا تأخّر أنسي، وإنها وصديقتها - التي كانت في السيارة - تنتظرانه منذ حين. أجابها أميل بأنّه سيحضر بعد قليل. لم يفقد أنسي ذرّة واحدة من تألّقه وسحره".


3
"ما كنتُ لأورد هذه التفاصيل قطّ إلا لأنها تقود إلى التساؤل الكبير الآتي: كيف لرجل يحمل في جسده ذلك الشيء، يمكنه أن يكون هو نفسه كاملاً بلا نقصان، بوهجه، وهدوئه، وغناه الداخلي، وقوّة حضوره، وعمق نظرته، وسرعة ملاحظته ودقّتها، ووسع أفقه، وكثرة اهتماماته الوجودية والثقافية، وإصغائه الأمثل، ونزقه، وظرفه، ومرحه، ومودّته، وشغفه؟ أمرٌ لا يُصدَّق. أكتفي الآن ببعض الملاحظات أدوّنها في هذه اليوميات، كي لا أفقد أيّاً منها، وكي أعود إليها وأتوقّف عندها مطوّلاً في ما بعد.
كيف لرجلٍ يحمل في جسده ذلك الشيء، أن يُعيد قراءة أعمال فيكتور هوغو الكاملة، كما فعل في الأشهر الأخيرة، لأنّه كان يعتقد أنّ الفرنسيين يقدّرون هوغو أكثر مما يستحقّ، ولأنّه يريد التأكّد من صحة رأيه. فوجد أنّه لم يكن مُحقّاً في ذلك، وأن هوغو يستحقّ فعلاً هذا التقدير؟ من تُرى يفعل ذلك، في أكثر الأوقات صفاءً وهناءً وراحةً في حياته؟ بل أيّ من الاختصاصيين في الأدب الرومنطيقي يفعل ذلك؟
في موقف أنسي من ذلك الشيء الذي في جسده حال من الانتصار البشري الهائل، الباهر: انتصار الانسان على الحيوان، وانتصار الروح على الجسد، وانتصار الوعي الرائي على عمى العناصر. وفي موقفه ما هو النقيض الأكمل للانسان الـ"إيبوكوندرياك"، الذي ما إن يُصيب جسده شيءٌ ما، وليس ذلك الشيء، حتى تنقطع علاقته بالعالم، وبالزمان والمكان، فيهرع إلى جسده مركّزاً في صورة كلّية عليه، ناسياً كل وجود آخر. هنا النقيض الأمثل: استعلاء أريستوقراطي رفيع، نبيل، مطلق، للروح، الحاوية في ثناياها الوعي والكون، على الجسد. كأنّ أنسي الحاج لم يكن في حاجة إلى صرخة بولس الرسول: "من يحرّرني من هذا الجسد الترابيّ؟". كان مّحرّراً في صورة تلقائية منه. ولم يكن في حاجة إلى صورة "القصبة التي تفكِّر" التي يجمع فيها بليز باسكال هشاشة الانسان وعظمته الرهيبتين، وأنّه حين تسحق الطبيعة الانسان، يكون الانسان أعظم منها بما لا يُقاس، لسببٍ واحد: هو يعرف أنه ينسحق، وهي لا تعرف شيئاً. يحمل موقف أنسي في صورة تلقائية عميقة، هذه المعرفة. هو يعلم، من دون أن يقول ذلك، أنّ هذا الجسد هو نقطة ضعفنا الكبرى، هو كاحل أشيل، الذي تأتي منه الاصابة. وهو يزدري في سرّه ذلك الشيء الذي في جسده، لأنّه يدرك أنّه يكفي ما هو أقلّ منه بكثير لإصابة تقتل: رصاصة صغيرة بائسة، شظيّة سخيفة هوجاء، ثانية من عدم الانتباه أو النعاس على طريق فرعي، زلّة قدم... فلمَ الاكتراث بذلك الشيء الأعمى؟ المشكلة هي في الجسد، وليست في ذلك الشيء قطّ.
في هذه السطوة الرائعة، سطوة الروح على الجسد، يكمن شباب أنسي الحاج الأبدي، ويرتسم سرّه وسحره".


4
لو سئلتُ: "من هو الشخص الأكثر تأثيراً في الذات اللبنانية في النصف الثاني من القرن العشرين؟"، لما اخترتُ البتّة أحداً من السياسيين أو العسكريين أو الاقتصاديين أو رجال الدين. أختار بلا تردّد إثنين، عائلة وفرداً. العائلة هي عاصي وفيروز رحباني. والفرد هو أنسي الحاج.
أختارُ أنسي الحاج بموضوعية تامّة، ليس لتراثه الشعري الكبير وريادته الشعر الحديث فحسب، ولعطائه الفكري الذي زادته غنىً مساهماته في السنين الأخيرة. بل أيضاً لتأثيره العميق في جيل كامل من الشعراء والفنانين اللبنانيين والعرب. بل أيضاً لإشعاعه، ولدوره الذي لا يُضاهى، عبر سنين طويلة من "الملحق"، ومن صفحة "أدب فكر فنّ" في "النهار"، في فتح أجيال متوالية من اللبنانيين على الثقافة المعاصرة والجمالية الحديثة، وفي روح التمرّد والحريّة والتجديد التي جسّدها. هو رجل لبنان في النصف الثاني من القرن العشرين.


5
أودّ أخيراً أن أعبّر لكَ عمّا لم أقله مرّةً من قبل. أعبّر لكَ عن شكري لمحبتكَ الكبيرة لي، التي لم تخبُ ولم تفتر يوماً منذ ستة وثلاثين عاماً، في الحضور كما في الغياب. باحتْ لي ندى بأنّكَ في تلك الأيام الأخيرة، حين تستعيد الوعي، كنتَ بين حينٍ وآخر تسأل: "أين هو أنطوان الدويهي؟"، وكنتَ تضيف أحياناً: "لماذا لم يُحضِر المقدمة؟". لم تكن ندى تدري ما هي "المقدّمة". محبتك الكبيرة عزاء جميل لي في هذه الحياة الدنيا، ووسام اعتزاز معلّق في ردهة ذاتي، على مقربة من صورة والدي ووالدتي. وهو النوع الوحيد من الأوسمة التي نرضى بها، أنتَ كما أنا. وما سواه من تكريم، لا رغبة فيه ولا حاجة إليه.

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم