الجمعة - 10 أيار 2024

إعلان

كائنية اللامعنى في مجموعة "نمش على مائي الثجاج" لمصطفى غلمان: بحثاً عن حرية مسجونة

أحمد الشيخاوي
كائنية اللامعنى في مجموعة "نمش على مائي الثجاج" لمصطفى غلمان: بحثاً عن حرية مسجونة
كائنية اللامعنى في مجموعة "نمش على مائي الثجاج" لمصطفى غلمان: بحثاً عن حرية مسجونة
A+ A-

إن الكتابة والشعر بشكل خاص عند مصطفى غلمان، يرتقيان ليصبحا فلسفة حياتية وطقوسيات للتصوف تهذب جملة المفاهيم تجاه الذات والغيرية والوجود.

ينطلق مما هو محلي تسربله الخصوصيات نحو أفق أشمل وأعمّ يستوعب التلاقحات الثقافية ويذوب في الحضور الإنساني المتسامي الممجد للروح كهوية ذات ملامح عالمية تميّز الكائن وتبصم إكرامية النوع.

يحضرني هذا البيت الشعري لطرفة بن العبد، تدليلاً على أسلوب معارضة لطيفة، اجترحها الشاعر المغربي مصطفى غلمان، في ديوانه الذي بين أيدينا، الموسوم "نمش على مائي الثجاج"، الصادر حديثا عن "دار فضاءات الأردنية للنشر والتوزيع":

وتقصير يوم الدجن والدجن معجب

ببهكنة تحت الطراف المعمد

على اعتبار هذا الحس النزوي، أقل من أن يلبس ذاتا متصوفة، ليس تنطلي عليها تلاوين الإيروتيكية، بسهولة.

أقلّه حين تربط الأنثوي بهواجس وهموم الوطن ورهاناته، عازلة منظومة المنغصات المحرّفة والمزيفة الأخرى، من أنانيات إيديولوجية وشعوذة عقائدية وغيرها من العلل الذاهبة بنورانية ما يغذي الروحي وتجلياته في الكائن.

يقول غلمان: [الحبُّ ليس كَلامًا في أنساجِ المعنى

أو عمودَ خباءٍ لنزوةٍ عابرةٍ

...

الحبُّ وَطَنٌ كبيرٌ

حشْرَجَةُ الكائنِ وهو يثورُ في العَرَاء

منشطرًا بين الصُّراخِ والاعتذار

بين الأملِ والضَّيَاع] (1).

من هنا سلطة حياة المابين، أو البرزخية المفتية بأبجديات كائنية اللامعنى، إذ ترخي بظلالها على عبور الكائن.

إن الشعر فن خلق لترع ثغرا ت كهذه مسافة، والحفاظ على ما يشبه التوازنات ضمن حدود ثالوث: العقل / الروح / الجسد، وفي غمرة التجاذبات الضدية، نور مقابل ظلام، واقع مقابل حلم، حياة مقابل موت، وهكذا...

يقول:

[الفراغاتُ بين أصابعِي خُلِقت لتملَها

أصابعُك..

وأصابعي فناراتُك التي تؤبدُ صوغَ الحتوفِ

إلى غيلانِها..

ما عدا الموج الذي يبكرُ بارتواءِ ملحِ أغنياتي] (2).

لغة المجموعة تشرّبت من نبع الكريستالية والصفاء، أقساطا أليق بعوالم التصوف، والتسامي الروحي.

فمن باب المسلّم به أن الحضارة الإنسانية، لم ولن يبنيها عدا تعاقب ملاحم الحب، والتمكين لثقافة القلوب دونما تعارض مع التأويلات والجهود العقلية، بكل تأكيد.

وهو ما يدفع بنا في صلب معادلة الشعر أو الإبداع إجمالا، وحضورنا الإنساني، بصرف النظر عن الغائية الإبداعية، لأننا حين نضع الشعر فوق الحياة ،نكون قد سجلنا جنونا المعقول الذي يخول لنا رؤية ذواتنا والعالم من حولنا كما نشتهيه، لا كما تخطّه في أرض الواقع ، الأنانيات السياسية والأطماع وفوبيا السباق الاقتصادي.

لقد قدم الديوان، الأديب والباحث الأردني، يحيى القيسي، بقوله: يحضر الحب بقوة في هذا الديوان روحا وحالة، ومفردة ودلالة، "الحب وطن كبير" وهو امرأة أيضا تفوق الحوريات، وهو "ذائقة الشاعر"، أما الوطن فهو يتجلى في هذه القصائد بشكل مباشر أو موارب، وهو هنا المغرب أو فلسطين كقضية، برغم أنّ غلمان لا يتورط في الجانب الظاهري لهذه الأوطان، بل يعترف بأنه ليس "قومجيا ولا مشعوذا سياسيا ولا فقيها كهنوتيا"، بل قضية تتجاوز الهويات والتيارات والعلاقات الإنسانية العابرة، كما يقول بشكل مباشر في قصيدته "طلل سدوم"، كما أنه يحاول أن يواري موقفه السياسي بإضافات تبدو غير شعرية من أجل الرقيب، لهذا يتسلل الإحباط واضحا في بعض قصائده حيث لا يستطيع المرء الصمت ولا الاحتجاج ولا الانتقاد في ظل "ممنوعات" لا تنتهي، وبحثا عن حرية مسجونة ينتظرها "الشعب المكافح".

نقتبس من المجموعة، أيضاً:

[الواقفُون كالجالسين سَواء

على الجمرِ يرعَوْن سيقَان الزمَن

ويطوُون الأعاجيبَ

مثلَ نياقٍ شريدةٍ

أمَّا أنَا..

أيُّهَا الشعبُ الذي يسرُّ آلامَهُ

وينقادُ مكرهَا تحت سوْطِ الحقيقَةِ

فمعذورٌ مغرب ( من الغربة)

مكلَّلٌ بالهزائِمِ

منثور خفاياي

بينَ الحقولِ العجفَاءِ

متداعٍ

في اغتداءِ واعتداءٍ

ما أكونُ أيُّها الشعْبُ

في عراءِ الميتافيزيقيا

لولا الريحُ التي حجبَتْ طريقي إلى النَّصْرِ] (3).

ويقول كذلك:

[ونافذةٍ مطلَّةٍ علَى آخرِ منعرجٍ في حياةٍ منذورَةٍ

للضَّياع

أيُّها العالم..

كمْ أخْشاكَ،..

لأيّامٍ تتشاكَل لوقود ٍ مستجيرٍ

برمضائِكَ تعزِلُنَا عَنْ آمالٍ لا تذهلُ منْ

فرائِسِ الوُجُومِ] (4).

إذاً، هي الحيرة الوجودية، مثلما ترسم ملامحها هذه الشعرية، متوسلة بصور عبور الكائن، في منطقة المابين الملغومة بقلق الذات وتشكيكاتها وغزارة وعمق أسئلتها.

كذلك حين تتعرّى اختلالات الراهن للهشاشة الشعرية، ويصهل سوط التابوات، كي يزرع جيلا كاملا في نظير هذه الحيرة، التي يقتبس لها الديوان أطيافا، كي تظل المكابرة والنضال والصمود، برغم كامل هذه القهرية، عناوين عريضة إزاء مقامرة تحسس فوقية للخلاص والحرية والانتصار، قد يثمرها الشعر بوصفه فنّا ضاربا بجذوره في الذاكرة الإنسانية، كما أنه ممتدّ في الأزمنة، وعابر لبياضات اللانهائي واللامحدود.

ختاما نجد الشاعر المغربي مصطفى غلمان، وقد أقنع بصوفيته التي حاول من خلالها وعبرها سدّ هذا الفراغ الروحي المولّد لمشهدية وجودية قاتمة.

هامش:

(1)مقتطف من نص "تنصب طلقها في شرانق الحرير" ، صفحة 17.

(2)مقتطف من نص "بين خيطين سرب حمام" ، صفحة 38.

(3)مقتطف من نص "كُلُّ شيْءٍ بعْدَ أَيِّ شيءٍ هَبَاءْ"، صفحة 77/78.

(4)مقتطف من نص "مرثيَّة الزَّمان"، صفحة 126.

*نمش على مائي الثجاج (شعر)، مصطفى غلمان، إصدارات دار فضاءات للنشر والتوزيع ، طبعة 2020، الأردن.

*شاعر وناقد مغربي

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم