الأربعاء - 24 نيسان 2024

إعلان

أكلّما طَمَى بحرُ الضاد؟

المصدر: "النهار"
نجم الدين خلف الله
أكلّما طَمَى بحرُ الضاد؟
أكلّما طَمَى بحرُ الضاد؟
A+ A-

في أحَد صَبَاحات الخريف، تَبَعْثرَت حروفُ الضاد بين طاولات الفَصل وكَراسِيهِ. ومن تَعاريج رُسومِها، اندلعت شَراراتٌ لامَسَتْ أطْرَافَ الهَياكِل ونِقاطَها ثم تَطايَرَت على رؤوس الطُلاّب. تَتَفَحّم الأحْرُفُ وتَتَهاوى مُفَتَّتَةً فوقَها، كَكُرَيّاتٍ مُلوَّنة تتبارى في أراضٍ مُغتَصَبَة. وكأنَّ تلك الحروفَ اكتسبت خواصَّ السحر حين سقوطِها. حاول الطُلابُ، الجالسون حَيْرى أمامي، تجنّبَ الشرارات دون جَدوى. ها هم يَتَدحرجون بين الطاولات، كأنَّ بهم مَسًّا من الجِنِّ أو نَفْثًا من الوسواس. يَنهضون من جديد وهم يرددّون صِيغَ الأفْعال ويَهتفون بأوزانها: فَعَّل، فَاعَل، أفعل... استمرَّ هُتافُهُم وكأنهم جَوقَةٌ تُرتِّل نشيدَ الأقداس، بل كأنها، حين أصَخْتُ السمعَ، أهازيجُ الفلاحين في مغارس الزَّيتون المُبارَكِ. تَنساب أصواتُهم خارجَ الفصل ويَرتدُّ صداها في سَاحة المدرسة.

فَزعَ المديرُ فأسرع نحو مَصْدَر الأصوات. وتَبِعَه طلبَةُ الفصول الأخرى مُرتاعين. حاولَ تَهدئةَ روعهم. ذكَّرَهم قيمَ الجمهورية وطَالَبَني بإخفاء أيّة سمةٍ دينيّة ظاهرة. تساءلتُ واجمًا: ما علاقة الجمهوريّة بتصاريف العربية؟ كنتُ مَأخوذًا بامتزاج الأرضِ وأوزان البَيان. كأنَّ صَدَى الأفعال هرولةُ عَساكِر مُدَجَّجينَ يستبيحون حُرماتِ البيوت. فَجأةً، أصابتني شرارةٌ. صرتُ أرَدِّد مَعهم: فَعَّلَ، فَاعَل، أفْعَلَ... بحماس أقوى من حَماسِهم. تمتدّ، أمام ناظري، أراضٍ تميدُ فيها أغصانُ الزيتون، وتتشابك مع عرائسَ نُسجَت فساتينُها من خُيوط السحاب.

استدعاني رئيس الجَامعة إلى مكتَبِهِ. كان يَنتظر هذه الفرصة الثمينة. اقترح عليَّ إجازةً طويلة المدى. وهَمَسَ إلى كاتبه يُملي قرارَ إقالتي. رأى بِحقده الدفين أنْ لا خلاصَ منِّي إلا بتسريحٍ "قانوني"، يَتوافقُ مع قيم الجمهورية. يريد أن يُفتّت فيَّ صخرَ الصمود. كتبَ القرارَ وأمضاهُ: عليَّ لزوم البَيْت مع منعي مطلقًا من تَدريس العربية، تحت طائلة الترحيل. التُّهَم دائمًا جاهزة ومعها الإجراءات تُتْلى بلا تأتأة. لا ثغرةَ فيها: الذوبان أو المغادرة. لكنه أومأ إليَّ باسمًا في شماتة: "اعتَبِرْها إجازةً، طالع خِلالها تاريخ البايات. سِيَرهُم مُمتِعة. كان جدي قنصلاً في بَلَدِكَ وكانوا يعظِّمونَه".

أصرَّ يوسف وإيناس، طالبَاي الـمُفَضَّلان، على متابعة دروسي في أيّ مكان، مُتَحَدِّيَيْنَ قَرارَ الإدارة. في قوانين هذه المدينة ثغراتٌ وتأويلاتٌ يُمكن اللعب عليها. وافقتُ بحماسي الصادق: الضاد لا تؤخذُ إلا غِلابًا. ولكنْ ظلَّ جُرحي يَنزفُ. أتُهينُ الضادُ أهلَهَا ومُحبِّيها إلى هذا الحدّ؟

صَبَرنا أيامًا حتى أحْسَسنا بِشيءٍ من التعافي. فذهب ثلاثتُنا إلى جمعية ثقافيّة، تقع في الدائرة الحاديةَ عشرةَ بباريس، تقدّم دروسًا في العربية للناطقين بغيرها. التَمَسنا من رئيسها استخدامَ قاعتها، مُجرَّدُ أمتار من الأرض نَبتَغيها موئِلاً لأهازيج الأوزان في انتِظامِها. كان المقرُّ بَيْنَ حانةٍ ومَسجدٍ. تفاءلت بهذا التجاور الـسخيف.

على قلقٍ، جلسنا في غُرفَة الجمعيّة الضيّقة. ومنذ الدقائق الأولى، رأيتُ الكلماتِ، المنبعثةَ من فمي، تَتَحَوَّل إلى كريّاتٍ بلورية مُلوَّنَة، تحيطها بها ضَفائرُ شَعر صَفراءَ. تسحر كلَّ مَن تَلمَسه. كصاعِقَةٍ جارفة، تقضي على من يَعترض سَبيلَها. أصاب الهلعُ كافةَ المُرتادين. غَرَقتِ الغرفةُ بهذه الكريَّات التي بدأت تتعاظم وتضرب الوجوه. طلبَ مني رئيسُ الجمعيّة المغادرةَ فورًا. "أنتَ تسيءُ إلى حوار الثَّقافات وتَعايُشها السلمي". اللعنة ! أكلّما طَمَى بحرُ الضاد، تذكّروا قيمَ الجمهوريّة؟

لزم ثلاثَتُنا البيتَ. يَندبُ يوسف حَظَّه التعيس: لا تنقادُ إليه قواعِد النحو ولا صيغُ الكلمات. يصارعها كأنّها وحشٌ من وحوش الخَيال العلمي. ينقضُّ عليها ثمَّ يَتراجع، كمُلاكِمٍ على ظهر حَلبةٍ. تتراءى له العباراتُ مثل امرأة حسناء. هو أعزبُ. يَعمل شرطيًّا. كانَ، أيام احتجاجات السترات الصفر، يَصبُّ جامَ غَضبه على المتظاهرين. لا ينظر إلى السماء، يغوص فيهم مثل انغماسيٍّ. المهم أنْ يُوقع في "العدو" أكبر عددٍ من الضحايا. يريد والدُه العجوز أن يُزوّجه عاجلاً. "يُوسُفُ، أعرِضْ عن هذا". لن تَلينَ لكَ العربية ولن يَستسلم المتظاهرون. ستَعرفُ معنى "العدو" حين تَضرب في الأرض، في البقعة التي ارتحل منها أجدادُكَ ذاتَ خريفٍ ليقاتلوا مع عساكر فرنسا إبّانَ الحرب الكبرى. قال لي مرة: "أنا أدرسُ العربيّة لأنّ لويس أرمسترونغ سمعَ الآذانَ حين كانَ يتمشَّى على سَطح القَمَر".

وأما إيناس فيُغري اسمُها بعروبتها. ولكنّها فرنسيّة أبًا عن جدٍّ. عريقةٌ، تنحدر من جياد العائلات، عدا لَوثَة يونانية بعيدة. كانت جدَّتُها لأمها فقيرةً، تعيش في قَريَةٍ نائية على الحدود مع تركيا. قَدِمتْ إلى باريس أيام الحرب الكبرى وفيها تزوّجتْ من أحد سُراة القَوم. تكابد إيناس اليومَ أمام الكلمات المرصوفة على الوَرق. لا تَثبت الجُملُ أمام ناظرَيْها، تتالى وحداتُها وتتحوّل إلى زوارق مطاطية تَسيل على الماء. تصطدم ببعضها البعض. تَشتَغل في المخابرات الفرنسيّة. تمقُتُ عَمَلَها. "عَلَقت بِشُغلنا الكثير من الأساطير البالية. أدرسُ العربيَّة لأفْهَم الفرنسيين الذين يَعتَنقون الإسلام حين يبلغون سنَّ الخَمسين. فيتَحولون إما إلى إرهابيين يهاجرون إلى سوريا، أو إلى متصوفة يُنشدون قصائدَ الشُّهود". همستْ لي يومًا. تُغالبُ الكلماتِ وتَغلبُها. تَطغى على خيالها تواريخ معانيها وتتأبَّى على الحِفظ. كأنما تحطُّ على ساحلٍ صخريّ وتتهشّم. الكلمات لا ترسو. ترتطم وتعود على أدبارها كأنها ريسور متمرّدٌ. إيناس! "استغفري لِذنْبِكِ". ماءُ العربية رَونقٌ وكَلِمُها رُواءٌ. إن تِهتِ في مَحاسِنِ الحَرْفِ، لا تَنجَذبي ولا تُقَطِّعي يَدَيْكِ. ولكنْ غَلِّقي الأبواب.

بالنسبة إليَّ، أنا أنتحل وظيفة "أستاذ عربيّة". ليست لي أي شهادة في هذا الاختصاص. ولم أدرس العربيّة في الجامعة أصلاً. كنتُ مُجرَّدَ "كاتِب مَحاضِر" في مركز تجميعٍ لمريدي الهجرة السرّية الذين يتسللون عبر القوارب نحو الشواطئ الإيطالية. أسجّل مُلخصاتٍ عن سِيَر الموقوفين وأسباب مُحاولتهم الهجرة. في كل يوم، أحَرّر عشرات المحاضر أستَقيها من شهاداتهم. مركزُ الإيقاف يغصُّ بهم وبصراخهم. قِصصهُم تؤلمني ويُوجعني تفضيلهم الموت في البحر على البَقاء في أرضهم. يواجهون الهلاكَ غَرَقًا للتسلل إلى أوروبا. قد يصبحون فيها متصوّفة أو يتركونها للحرب في سوريا. وقد يَسكرون أمام حانات باريس. صرت أتلذذ بكتابة مَحاضرهم. وقتها عَشقتُ العربية. "إنْ تَمَكَّنتُ من الإبحار مثلَهم، عبر القوارب المطاطيّة، سأدرِّس العربية لأبناء مَن سَبَقَهم إلى فرنسا. سَأعدّل الكفَّةَ مع مبادئ جمهوريتها". كان جدّي لأبي مديرًا للقهوة في مضافة الباي حين كان يَستَقبل قناصلَ فرنسا وإيطاليا.

رضي ثلاثَتُنا بسحر الضاد. قُلنا: "ندرسُها تحتَ ظلال بُرج إيفل نِكايَةً في المعرض الاستعماري الذي أقيم سنة 1889". صارَ كلّ درسٍ من دروسنا مثل رُقيَةٍ ساحرة أو صحيفة طلاسمَ ألقيها عَليهما. يُطلقان صَيحات اللذة وينظران إلى الصفيح الهائل وأطنان الحديد التي قُدَّ منها هذا البرْج. يصيبُ بَهرجُ الضاد أعاليَ البرج فيضيءُ أشكالَه الحديديَّة. يعلو حرفُ القاف، مثل إعصار يتخلَّق في رَحم الصحراء، فيلتفُّ على مسارب البرج وطبقاته. يَنظران إلى البرج وقد التفعَ حرفَ السّين، كشال ملوَّن يطوق غادةً سمراءَ، مثل كنداكة، أيقونة السودان. ينظران في الجُمَل ويبحثان عن مَحلات الإعراب. يُغمغمان: "البرجُ هشٌّ والحُروف قد تَخنقه". تراءت دالٌ ضَخمة أسْبِلَت كَستار عليه. لا تزال الأخذةُ إذن فاعلةً ساريةً. تَمَكَّن السحر من ثلاثتنا. أصابت لعنةُ لغتي كلَّ مَن عَركها بسوء نية ولم يتطهّر من أصوله.

آخرُ محاولات الاستشفاء: صَنَعنا تماثيلَ من الحلوى على شكل الأحرف العربية. امتَطينا الحافلةَ رقم 89 وطُفنا بأرجاء باريس. أهديْناها إلى المسافرين. فَهِم "المارابو"، (حَكيم روحاني) القصةَ على الفور. دون أن يبرح مقعَدَه، تَمتَم بما تَيَسَّر من الحواميم. وتَرك لنا بطاقة زيارته ونَصَحنا باللقاء في حانوته الصغير بالدائرة الحاديةَ عشرةَ.

قَصدنا العنوان المَرسوم. فإذا أمامَه أغرابٌ وشحَّاذون. فيهم لاجئون من سهول المغرب العربي وسباسبِه، أرضٍ تَلفظ أبناءَها وتعاقب مَن يَغفَلُ عن "القضية". انشغلوا عنها بطلب الرزق ومُخاتلة العَسكَر. يطلق كبيرُهم شَتَائمَ بالعربية. كنتُ أتأذّى منها ولكنْ أتسلّى بتحليلها حَسبَ مفاهيم التنمية البشرية. تتكدس جُموعهم أمام الحانة. يقفزون على الجمر المُستَعر دون أن يُحرقوا. كادت أعينهم تلتهمنا. تَضيق بنا الدنيا. نَبحثُ عن مَحَلّ الحكيم. كان بالصدفة، بين مسجد "عمر بن الخطاب" وخمّارة Le Fidèle .

ولجناه. كان صاحبُنا جالسًا على حصير. قال:"أنا لا أتَخَلف عن الصلاة ولا أنْقَطِعُ عَن الشُّرب". لا تبدو عليه آثار السَّفَر بين هذا وذاك. لا الثُّمالَة تُثقله عن التبتل ولا سيماءُ القربى تُرى عليه. حادثناه بشأننا. لم ينبسْ ببنت شفةٍ. أخرج خريطة فلسطين قبل 1948. عَرَضها علينا ثم أخرج خريطة ثانيةً لفلسطين اليوم. تناثرت الرسوم واندلعت منها شراراتٌ تدافعت في كل الاتجاهات. تَطايرت النقاطُ السوداء، الدالة على المدن والبَلدات الأصلية. نَسينَا العربية. تِهنا في الحدود المترامية لهذه الأرض المقدسة. أخذَ ورقةً ورَسَم عليها هذه الحروف الثلاثة: س. د. ق. مُعرّقة ومفككة الأطراف. ثم قال: "شفاؤكم في سُكناها حين تأتلفُ حروفُها". غادرنا المحلَّ. للمرة الأولى رأيْنا المترو يمخر أرضَ باريس. سَمعنا المارة يتكلمونَ بفصيح الفرنسية. تعودُ أزياؤهم إلى عَهد الاستعمار. شُفِينا.

اقرأ للكاتب أيضاً: وضاعَت تَرجَمتي سُدًى

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم