الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

وضاعَت تَرجَمتي سُدًى

المصدر: "النهار"
نجم الدين خلف الله
وضاعَت تَرجَمتي سُدًى
وضاعَت تَرجَمتي سُدًى
A+ A-

مُعلَّقان بين الأرض والسَّماء، على ارتفاعٍ شاهقٍ مُدوِّخٍ، بَدَّدَ ما بقي لنا من طاقة على التركيز، في طائرةٍ تجوب الأجواءَ من باريس إلى صَنعاء. يبتسم كلود، مُخرجٌ فَرنسيٌّ فاشلٌ، بكبرياء يقارب الغَباء. فأجيبهُ بمُجاملاتٍ جَوفاء، أنا الـمُترجِم البائر العاثر. تَفصِلُنا لحظاتٌ عن عَرَاء العَبَث. يَعتبرني "خادِمَه" رغم أنني أعِدُّ ماجستيرًا في الفنون الجميلة بباريس. الترجمة؟ تمرينٌ في أوقات الفراغ أموِّل به شهادتي. شَريطُه؟ دَعْمٌ سَخيٌّ من وَزارة الثقافة الفرنسية، لا أحَدَ يَفهم سَبَبَه. في لحظةٍ من لحظاتِ غروره، تكرَّم عليَّ كلود بلقب "مستشار فني" لأني نَقلتُ السيناريو إلى العربيّة. كانَ أسلوبي ركيكًا للغاية، فَلم أعرض الترجمةَ على أحدٍ. تكريمه هذا برضي كِبرياءَه، ولا يمثِّل لي وظيفةً مدفوعةَ الثمن. يَعبُّ أكواب الويسكي بلا هوادة، فيُفشي ما يقبع في قراره من ذكرياتٍ بعيدة. تمتزج الجُملُ برائحة الشراب فتَرِدُ مُكسّرَةً واهيةً. لا رابطَ بيْنها ولا مَوضوعَ يشدُّها. أتسَلّى بترجمتها في ذهني تزجيةً للوَقت، مُعلَّقَيْن بين الأرض والسَّمَاء.

- لَكم أودُّ أن أزورَ الامبراطورية العُثمانيّة!

- لكنها لم تعد قائمةً. غابت في غياهب التاريخ منذ قرنٍ. راح العثمانيون وانقضت دولةُ خلافتِهم، يا عزيزي كلود!

- حَقًا؟ ما سمعتُ بهذا. ما أسرع ما تَتَغَيَّر الدُّولُ والأمَم في عالـَمكَ العربي!

- ليسَ العثمانيون عَرَبًا. هم أتراك.

- لا أهميةَ لذلك. جَميعُهم يتزوَّجون بأربعٍ. العَرب والأتراك سواءٌ.

- كلود، تعدُّدُ الزيجات ممنوع في العديد من البلدان العربية أو هو مسموحٌ بشروط. تعدديّة الأحزاب جديرة بالاهتمام. قد تصل إلى المئة حزبٍ في بلدٍ صغيرٍ.

- في بَلدي حزبان قويَّان والبقيّة ضعيفة. طلقتْ الأحزابُ جميعُها مصالحَ الشعب. أنا أيضًا بصدد إتمام إجراءات الطلاق مع زوجتي. كنتُ أتمنّى وجود تعدد الزيجات في بلدي حتى أحتَفظ بزوجتي الأولى والثانية في نفس البَيت! لكنَّ طبعَ إحداهما حادٌّ.

- فرنسا بلدي أيضًا. لا يمكنني الحُكم على زوجتيْك ولا لهما. التقيتُ بهما مرة واحدةً، يومَ ساعدتك في الانتقال من بيتك القديم إلى بيت "الضَرَّة".

- زوجتي تحبّ المطالعةَ. كنّا نَحلم بالعيش في "الرياض" بالمَغرب. لكنْ وجدتُ نفسي مع عجوزٍ ثريَّةٍ في شقَّةٍ قاتمة شمالَ باريس.

- الرياض عاصمة المملكة العربية السعودية. لا يبدو أنها ثريَّةٌ. أقصِد: رفيقتَكَ الجديدة.

- الرياض، بيتٌ تحيط به حديقة وفيه مسبحٌ و...خَدَمٌ من العَرب والأتراك!

- ما الذي مَنعكما من العيش في رياضٍ أو في العاصمة "الرياض"؟

- مَنعنا الخوفُ من الأجانب هناكَ.

- لكنّ المغاربَة ليسوا أجانبَ في بَلدهم. نحن الغُرباء، سنطير إلى اليَمَن لنتفاوضَ على تصوير فيلمٍ فرنسيّ على أرضه السعيدة.

- على سُلطات صنعاء ألا تُزعجني كثيرًا بسبب السيناريو واختيارات الديكور. السُّلطات هناكَ مُحافِظة...مشاهد العِناق بين بَطليَّ مُقدَّسة.

- أفهم ألا تودَّ صنعاء تَصوير عناق امرأة ورجلٍ عاريِيْن، في قلب صحرائه المُقَدَّسة.

- هل صحيح أنّ مَلِكَ اليمن الحالي من أحفاد بلقيس؟

- اليمن نظامٌ جمهوري لا مَلَكي. من عُقود يحكمه رئيسٌ "مُنتَخب". صحيح أنه يتصرّف كـمَلك ولكنَّ في البلد أحزاب عديدة. بعضها من أحفاد بِلقيس.

- على فكرةٍ، هل تَفهم لغة اليَمَنيين؟

- يتكلمون العربية. ولهم لهجةٌ خاصة أفهمها، باستثناء كلمات دارجةٍ تغيب عني إذا نطقوها بِلَكْنَتهم القبليَّة.

- "القبائل" الجزائرية؟ ونشراتُ الأخبار بالفُصحى؟ والأفلام؟ والعِناق؟

- ما هو رسمي بِالفصحى، كخطابات الرئيس والقاضي. ما هو يوميّ بالدّارجة مثل الأحلام والغَزَل والشتائم.

- تعني أنَّهم يَقتلون بالفُصحى ويثأرون بالدارجة؟

- بالضبط. في المحاكم، يَتِمُّ التصريح بالحُكم بالفَصيح.

- والتنفيذ؟

- بالعامية، بالسُّيوف والبنادق والـمُسدّسات وهي شائعةٌ مثل القهوة اليمنيّة والقات...

حطّت بنا الطائرة في مطار صنعاء وكان في انتظارنا وكيل وزارة الثقافة اليمني. خرج كلود إلى البَهو يُدخّن غُليونًا بِخُيلاء. كأنه لا يزال في القرن الماضي. فَطِنتُ إلى أنَّ بَنطلونَه كان أبيضَ. وجَذَبَتْني قُبَّعَتُه العسكريّة التي اعتمرها للتوِّ. حيَّى الوكيلَ ببرودٍ وحدَّثَه مباشرةً عن سياسات "الرئيس". أسرعتُ في تلطيف الانتقادات وسرعان ما تِهتُ في محاورتهما. كانت جُمَلُهما مفككةً مبتورةً. ظللتُ ألهثُ وراء معنًى واحدٍ مكتَمَل.أتعثَّر ويفوتني. وصلنا إلى الفندق ولم تَكتمل في المحاورة أية جملةٍ. في صباح اليوم الموالي، حضر الوكيل لإجراء الموعد الحاسم. مهمتي نقل ما سيدور بينهما وتدوير الزَّوايا. عليَّ أن أصوغ كلامًا مفيدًا بالفرنسية وبالعربيّة بحيث لا تَجرحُ كبرياء أحدٍ منهما وأضمن كَمشَة اليوروهات المتفق عليها. أعرفُ نَزوات كلود ورأيتُ عنادَ الوكيل:

- سيد كلود! اطَّلعنا على الترجمة العربية للسيناريو والتي أنجزها مرافِقُكم. النصُّ ممتعٌ. لكنْ ثمة مقاطع تتناقض مع "ثوابتنا" الثقافية. حَبَّذا لو وجدنا أرضية مشتركة لتحويرها أو حَذفها!

- إطلاقًا، لن أسمح بتغيير أية جملة من السيناريو ولا بإسقاط كلمة واحدة. لا يخضع الفن للأراضي المشتركة... أنا ضدَّ الاشتراكيّة رغم أنَّها تدعم الفنَّ. في بلدي أكثر من عشرة أحزاب!

لا أدري كيف خانتني الكلمات والمفاهيم أثناء الترجمة فَانْجَرَرتُ من "أرضية مشتركة" إلى "اشتراكيّة". هذا من تعثرات الألسن وتداخل المَجازات. تَداركتُ مُصحِّحًا على لسان الوكيل:

- نَتَحدث عن "أرضية" نشترك في قيمها. يحبُّ اليَمن الفنَّ ولكن لا يريد أن يقطعه عن "الثوابت". ويحبُّ تراثَه ولا يريد أن يحْجُبَه عن "الكونية".

سررتُ بإيجاد كلمة: "الثوابت" هذه، التي تريحُ الجميعَ مع أنها لا تعني شيئًا. وسُررتُ بهذا التقابل الذي لم يَقله الوكيل حرفيًا، واجتهدتُ في صياغته. لكنْ تَلَعثمتُ مُجَدَّدًا حين عدتُ أنقل عن كلود:

- لا علاقَة لي بالأكوان! أحدّثكَ عن مشاهد السينما لا عن ظواهر الطبيعة. مُعادَلَةٌ صعبةٌ. لا أريدها أن تُحلَّ على حسابي.

- الحسابات في الفنّ ضرورةٌ. قاعٌ مُشترك يعني قيمًا تَربطُ بين الإنسانية جمعاء.

- بَطَلا شريطي فَرَنسيان. لا إنسانيان. كلُّما هو غربي كونيٌّ بالضرورة.

- لا أفهم هذه الـمُعادلة.

هنا أيضًا تشابكت الكلمات والمفاهيم والمجازات. أحسست حينها بآثار فارق التوقيت المُرهِقَة التي فاقمت رداءة الترجمة وعطَّلت المرور من معنىً لآخَرَ. صرّحتُ بهذه الجملة مقطوعةً عن كل سياق:

- هل تريدان قهوةً يمنيَّة؟ ولم لا قاتًا أصيلاً؟

- اليمن لا ينتج القهوة. نَستوردها من أمريكا اللاتينية مثل أي بلدٍ. لا شكّ أن قهوة الفُندق فرنسية. القاتُ يطلق الخيالات ويعرّي الأذهان.

أجابني الوكيل. ثم أضاف باعتزازٍ:

- إن رفضتم حذفَ المشاهد العارية سنرفض التصوير على أرضنا. تعليمات "الرئيس" واضحة.

- لن أحذف ولا كلمةً واحدةً.

- "عَلى نَفسها جَنَتْ براقش"

عجزتُ عن ترجمة هذا المثل العربي القديم. تساءلت: أكانت بَراقش يَمنيَّة؟ هل هي سليلة بلقيس؟ أضفتُ بلطفٍ:

- التَّعددية جَيَّدة في كل شيءٍ: الأحزاب والفُنون وحتى الزيجات!

******

غادَرَ الوكيلُ بهوَ الفندق بعد أن ردَّ أوراق السيناريو الـمُتَرجَم إلى محفظته الجلديَّة. لمحتُ علامة: "صُنِعَ بِفَرنسا". أخذ كلود هاتفه الجوَّال وخاطب السفارات الفرنسية بدول الخليج يسألها المساعَدَة على إيجاد "صحراء مناسبة" لتصوير مَشاهد العناق. تنتهي مكالماته بسرعة. لا أحدَ يأخذ طلبَه مأخذَ الجدّ. قرّرتُ حينها زيارة قبائل صَعدَةَ حيث الشعرُ والسِّحر وتنظيم "القاعدة". أيقنتُ أنَّ الشريط لن يرَ النور أبدًا. ضاعت تَرجمتي للسيناريو سدًى.

اقرأ للكاتب أيضاً: كتابٌ أضاعَ رَسْمَهُ

[email protected]

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم