البندقية ٧٦ – "ستموت في العشرين": فيلم سوداني من أب سينمائي مجهول
شهد مهرجان البندقية (٢٨ آب - ٧ أيلول) السبت الماضي العرض العالمي الأول لـ"ستموت في العشرين” للمخرج السوداني أمجد أبو العلاء، الذي يشارك في قسم "أيام فينيسيا". لن أتردد في القول ان هذه الانشودة السينمائية تؤكد ولادة مخرج يافع بأفكاره وأطروحته ورؤيته لبلده. مخرجٌ له تصوراته الجمالية عن السودان، وهي بعيدة عن تصوراتنا وتصورات كلّ مَن لا يعرف الكثير عن أرض الحضارات.
يحمل "ستموت في العشرين" براءة الفيلم الأول وصفاءه وشقاوته (وبعض ارتباكاته؟) وإيمانه بأن السينما تستطيع الكثير. أحد أجمل ما فيه، المسافة التي ينظر منها إلى الأشياء، فهو داخلها وخارجها في آن واحد.
"ستموت في العشرين" أفلمة لرواية "النوم عند قدمي الجبل" لحمور زيادة، كتب السيناريو كلّ من المخرج ويوسف إبرهيم، وقد استغرق التصوير شهرين في منطقة الجزيرة، جنوب السودان.
خلال مراسم حفل مولده، يتنبأ شيخ صوفي بأن الطفل مزمل (معتصم رشيد/ أسجد محمد) لن يعيش سوى عشرين عاماً. القرية التي ولد فيها بطلنا السلبي في سلوكه وتصرفاته، تعتنق الأفكار الصوفية. الكلّ مقتنع بهذه النبوءة حدّ إطلاق اسم "ابن الموت" على مزمل. مزمل نفسه يمضي أيامه منتظراً تلك الآخرة. لا يفعل شيئاً يُذكر، عدا إدخال الفيلم في متاهة الانتظار المرّ، وإقحامه في حكايات وتفاصيل جانبية عن الأب الغائب وحبّه الأفلطوني لفتاة جميلة وتعرضّه للاضطهاد.
مزمل ليس بالضرورة شخصية كاريزماتية، ولا شاباً نشعر تجاهه بالشفقة. يتفادى الفيلم هذا الفخّ. انه كائن حيّ محكوم بالأمل. الموت يشغله أكثر من الحياة وهو في مقتبل العمر. هذا هو هاجسه الوحيد. وهذا لا يمنعه من تلاوة القرآن، لعل وعسى… أيفعل هذا خوفاً أو إيماناً، هذا ما لن نعرفه. الفيلم يلغي مشاعرنا تجاه مزمل، سواء السلبية أو الإيجابية، ليترك لنا مساحة من الحرية. لنا أن نختار نوع التفاعل الذي نودّه.
الانتظار جزء مهم من الفيلم، كونه جزءاً من الحياة العربية الإسلامية. ويأخذ معنى آخر عندما ينصهر في الإيقاع الافريقي، الأشبه بنهر يبحث عن مصب، فيتّجه الفيلم إلى مشهدية ميثولوجية، كإبحار القوارب على النيل.
لا أحد يناقش المعتقدات التي ترزح القرية تحتها، سوى العمّ سليمان (محمود السراج)، صديق والد مزمل العاشق للسينما، الرجل المختلف عن كلّ مَن عرفهم الشاب الموعود بالموت في حياته، وسيكون نقطة ضوء له (وللفيلم أيضاً)، يساعده في القفز فوق المسلّمات ومناقشة الأشياء التي من المفترض إنها لا تُناقَش. الرجل سيغدو معلّماً تنويرياً لمزمل، يرشده إلى الطريق الآخر، ويضربه على قفاه عند الحاجة. معه سيتعلّم أيضاً ماذا تعني أفلام. نعم، هل تتخيلون فيلماً لأمجد أبو العلاء من دون حكي عن الأفلام؟
مَن هو المخرج في هذه الحكاية؟ هل هو مزمل أم العم سليمان؟ أعتقد هو حيناً هذا، وحيناً ذاك. يتأرجح بين الشخصيتين بحرية. في المقابل، يبدو لي أن الفيلم من أب سينمائي مجهول.
محبّ السينما أبو العلاء أنجز فيلماً متصالحاً مع أفكاره، لا مرجعية سينمائية له رغم ان العديد من المَشاهد تذكّر بهذا أو ذاك (أنغلوبولوس، تورناتوري، شاهين، فوزي) من دون أي إحساس بـ"ديجا فو"، أصيل في رغبته في صناعة سينما، بل أصيل وساحر كذلك في مقاربته لهذا الوجود الذي يتسرب من بين الأصابع.