الجمعة - 10 أيار 2024

إعلان

آخر اللحظات...

المصدر: "النهار"
نجم الدين خلف الله
آخر اللحظات...
آخر اللحظات...
A+ A-

أعيش اللحظات الأخيرة من حُبِّكَ. بعد هُنيهة، سأنتقل إلى حبِّ غيركَ. ها أنا ذي أسير إلى مدينتِهِ على مَهَلٍ. بعد ذلك، لن أتمكّن من العودة إليكَ. ابتدأتْ الآنَ نقطةُ اللاعَودة. لا أدري كيف سيكونُ الحبُّ الجديد وكيف سأقطعُ مسافاته؟ أتهيَّبُ لحظاتِ وداعكَ هذه. تَسير نحو فنائها، وربما فنائي أيضًا. ولعلها تكون بذرةً جديدة لنشأتي. أتهيّب الأحرفَ الأولى من كتاب المدينة الجديدة الذي أوشكُ أن أفتَحَه. كان غُموض المباني، في مدينتِكَ، يُخيفُني وكذا تَنائي شوارعها. أخشى ضوضاءَ الناس أمام المكاتب. أتذكّر تلكَ الليلةَ الأولى التي كانت في بهو حانَة خافتة الأضواء، عشيةَ فَررنا من الشوارع وكلابِها الشاردة. تنفتح الآفاق ولا أدري مَداها. كانَ البهو هادئًا والأصواتُ خاشعةً. كان جَسَدَانا في ذُروة التسامي.

بعد دقائق، سيُسدل الستار وسَنَطوي صفحة الماضي الذي استمرّ عشر سنواتٍ عشنا خلالها أعتى لحظات العمر. نعم، "سَنَقلب الصفحة"، كما ذكرتَ لي في آخر مكالمةٍ وسنطوي الكتابَ بما فيه من صفحاتٍ وسطور، نَاءت تحت أسئلةٍ كان نسغُ الحياة فيها لذيذًا. سأخرج من دائرة الدفء والضوء والسؤال، التي حشرتَني فيها حتى لم أعُدْ أستطيب الدنيا إلا معكَ، في ظل خصوماتكَ البريئة ونقاشاتكَ التي لا تنتهي. كانت، في غالبيتها، بلا سببٍ ولا معنى. مناكفاتٌ أثمرت شوقًا إلى المدائن البعيدة، تلك التي لا نعرف اتجاهاتها ولا مَواصلَ دروبها. خانَ الكلام صميمَ هويتكَ، أنت الهارب من ذويكَ وبلدكَ. أنت الذي لم تَشهد جنازة أبيكَ مُتعَللاً بذرائع المسافات والأبعاد. كنتَ تَحبُكَ الذرائع من خيوط الأمل، وكنت فيها صادقًا. ما أقسى أن يشهدَ الإنسانَ مواراةَ أبيه الترابَ ! جبنتَ أمام ذلك المشهد الرهيب. خشيتُ أن أواري الماضي وأنت تنظرُ إليَّ مكتوفَ اليَديْن. وقد تتعللُ بالمسافات والأبْعاد والأشواط. ذرائعكَ دائما جاهزة، ما أشبهها باتِّسَاع الآفاق، صادقةً لذيذة، كأحرف الشوارع الأولى التي أَلِجها الآن، وبين جانبيها أشجارٌ وفوانيس وعنبرٌ يَضوع.

بعد ساعاتٍ قليلةٍ، سأنسى مكالماتِنا وأمحو أصداءَها المتعاودة. سأنسى الشوارع التي جُبناها معًا. تساءلتُ: هل أمحو كلَّ الذكريات أم أحتفظُ ببعضها؟ منها ما هو مكتوب ومنها هدايا وعطور. حتى أوراقي وكُتبي لا تزال تحمل مَلْمَسَ يدكَ. عشتَ في ملابِسي التي كنتَ تضمُّها وهي على جسدي قائلاً: أنتِ التي تُجمّلينَ هذا السواد عليكِ، وأنت التي تَتسامين بهذه العطور فَتَشيعَ البهجة. كنتُ فيما مضى أستعيد تلك الهدايا، فَقط لأبحث عن ملمَس يديكَ، أستشعر نعومةَ الأصابع ودفءَ البَشرة. اشترَيْناها معًا. ولازلت أجد صَدَاكَ على قماشها. وأذكر أيضا تلك الرسوم الفاتنة التي اشتريناها أمامَ "القَلب المقدس"، في أعالي مَدينتي. هل أمزقها وأرميها؟ هل أحتفظ بها وَشْمًا على الكنائس؟ سأعدُّ الدقائق المتبقية وأستمرئ كلماتكَ للمرة الأخيرة. أعلم أنّي لن ألقاها بعد الآن. سأبْحثُ عنها في مقاعد الحدائق العمومية وفي جادات "الحي اللاتيني" التي جُبناها وقتَ السَّحَرْ. أخاف من لحظة الوداع الأخير الذي لن تَعقبه عودةٌ ولا توبة.

حين كنت تأخذ القطارَ لتعود إلى بيتكَ، بعد لقاءاتنا المُستَرَقَة في هذه المدينة المتجبِّرة، لم يكن يروعني شيءٌ سوى مشهدك وأنت تبتعدُ، تسير لبضع خطواتٍ، تلتفتُ، أنتظرك للحظاتٍ ، تعيد الالتفاتة. نظراتٌ أخيرة ثم ترحل في سبيل حالكَ، تأخذ القطارَ على أمل اللقاء غَدًا. ليس من أملٍ هذه المرة في اللقاء ولا في غدٍ، بل تهيّبٌ من رجلٍ آخر سألتقي به بُعَيْدَ ساعةٍ. لا أدري كيف سيكون؟ هل سنجوب معا شوارع مدينتي الظالمة؟ تعوّدت التسكع في طُرُقِها على وقع أقدامكَ المترنحة، أظنها ستغير وجهها مع هذا الآتي الذي سأصافيه بعد قليل. حتى أبنيتها تمتدُّ وتغيّر ألوانها مع كل خطوة خَطوناها، مع كل كلمة أرسلناها، مع كل بسمة علت وَجهَيْنا حين كنا نُسابقُ الزحام ونراقب الوُجوه. أتذكرُ حين أخذنا الطائرةَ نحو مدينتي؟ كانت تلك عودتي إليها، للمرة الأولى، بعد وفاة والدكَ. تراءت لنا أضواؤها تشيع وسط ظلامٍ كثيفٍ. صمتُّ حتى أترككَ تُعانق ذكرى والدكَ. صلّيتَ في أعماقكَ وأنت تتأمّل أجنحة الطائرة تهوي نَحو قَرارها وقَراري.

تمشيّْتُ معكَ في مدينتكَ ونفذتُ إلى روح المباني التي صاغتكَ وضمَّخَتْ يومًا أنفاسَكَ. أعود إلى ما فيها من صُور الحرب وأصوات الفَظاعة واندلاع النيران. أسير أمام العِمارات والشُّرفات التي تُغطّيها مكيفات الهواء والرايات المنشورة. لكل طائفة راية ولونٌ. كنا نعانق أطيافَها ونُسائِلها عما تتضمنه من رهاناتٍ وآفات. نقرأ شعاراتِها تفيض حياةً وموتًا. أدركنا أنَّ الجميعَ يَعِدون ولا يُوفون، وأنهم أيضًا راحلون. نتابع فوارق الظلال والأضواء ونساير ما فيها من حِكَم الدهور وتنافس الرؤساء. قد تسحرنا دُكنَةٌ تُطلُّ من راية أو سِماتُ ضياءٍ حين تتعامد فوق الألوان وتخلق لدى المارة حسَّ الهيبة. أقطعها وأرقب مِشيتكَ، مترنحًا حَذِرًا منتشيًا، أنت بينَ أهلكَ، تخشى أن يروكَ بجانبي، تتلافاهم وتأنسُ بي إلى جانبكَ. لا أعرف أيَّ هذه الألوان سيوصل إلى الله قبل الآخر؟ وكيف تُبرّرُ الشهادةَ والموتَ في ساحات البَلَد الجار. بعد دقائق معدودة، ستغيب صور المباني وراياتها الخفَّاقَة من ذاكرتي. قد أعوّضها بهذه النُّصُب السريالية التي تملأ ساحات مدينتي وتخنق الخطوطَ الكوفية التي كانت تزيُّنها.

بدأ لقاؤنا بـمُصادفاتٍ لا تتفق إلا في خيال أكثر الكتّاب إبداعاً. اعتبرناها آياتٍ فاقتَفَيْنا آثارَها. رأينا فيها إشارات فتعقبنا سِماتِها. خَلفها، مضينا ببراءة واقتناعٍ. اكتشفنا ذات يوم أنّ مَدينَتَينا وراء هذه السببية الموهومة. ها هو الآتي يَعرض عليَّ، كما عرضتَ أنت من قبل، سلسةً مصادفاتِهِ، ويلوح لي بالإشارات والآيات، كأنه يقنعني أنّ السببية وهمٌ. كلُّ الحقيقة في اقتفاء الأثر.

ما عليَّ إلا أنْ أقسمَ قلبي إلى خاناتٍ صغيرة وأن أملأ بعضَها بالذكريات، ونصفَها الثاني بهواجس المستقبل الذي أسير تجاهه. لن تَكون القسمة عادلةً. لا بد من ظُلم الماضي والإجحاف في حق الآتي. سأضبط نفسي ولن أعادي المستقبل. سأملأ الخانات واحدةً تلو الأخرى، وفي كل واحدة منها سأضع لذة اللقاء ومرارة الخوف. سأملأها كلماتٍ عاشقة لا تلين، أرسمها بخطٍّ كوفي، وأعمرها بصور دافقة توشك أن تفلت إلى الأبد.

سأودّع دروبَ مدينتكَ وأنساها وأنسى ثناياها وما فيها من ألوان وشُرفات وراياتٍ. سأقيم على ثغور المدينة الجديدة قبل أن ألج جاداتها. صوتي يُداعبني: وداعًا ومرحبًا. في نبراتي تسيل العِبارتان بنفس الحُرقة والطّرب. ثنايا حُبلى وطرائق مونقة تملأها أطياف وأحلامٌ ونبرات. وفي هذه اللحظة، بالذات، أراني خرجتُ من فَكَّيْ اللحظتين وقلتُ: وداعًا وإلى الأبد. سأرتحلُ عنكَ إلى الضفة الأخرى حيث زُرقة السماء بلا حدود والزياتين الألفية تعانق "الأزرَقَ البهي"، تنشد أهازيج بلدتي وتكفكف دمعاتٍ كتلك التي انهمرت من عينيكَ، ذات شهر أبريل.

سأعانق مدينتكَ وأستعيد صورَها قبل نَكبتها، حين كان يضوعُ من فوانيسها عنبرُ العربية، قبل أن تَخذلنا المسافاتُ والأبعاد، كما خَذلتكَ يومَ مات أبوكَ وهو يدافعُ عن تُرابِها، تحت راياتٍ خفَّاقَة.

اقرأ للكاتب أيضاً: خلف جارتي... لحظةٌ هاربةٌ

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم