الجمعة - 10 أيار 2024

إعلان

شبح الإفلاس في لبنان بين الحقيقة والوهم

المصدر: "النهار"
د.أيمن عمر- باحث في الشؤون الاقتصادية والسياسية
شبح الإفلاس في لبنان بين الحقيقة والوهم
شبح الإفلاس في لبنان بين الحقيقة والوهم
A+ A-

كثُر في الآونة الأخيرة الحديث بقوة عن حالة الإفلاس التي ستصيب الدولة اللبنانية. وما بين مشكّك بها ومؤكد لها، ما هي حقيقة الأمر؟

تعريف الإفلاس

الإفلاس بالمعنى التقليدي هو وضع مالي تترتب عليه موجبات قانونية يخضع له التجار من الأفراد والشركات في حال عدم القدرة على الوفاء بالتزاماتهم المالية تجاه الدائنين. وقد اختلفت الآراء حول إفلاس الدولة، حيث يعتبر البعض أن الدول لا تفلس وإنما تعجز عن السداد. فلا يصح الحديث عن الإفلاس بالنسبة للدول إذ لا توجد محكمة أو هيئة دولية يمكن أن تضع اليد على ممتلكات الدول وبيعها من أجل سداد مستحقات الدائنين، لما تتمتع به الدول من سيادة يُحرم التعدي عليها. وبدلاً من الإفلاس، يمكن الحديث عن تخلّف الدول وعجزها عن السداد. ويوصف هذا العجز بأنه عجز سيادي إذا تعلّق الأمر بدين خارجي. فيما يرى البعض الآخر أن الدول تتعرض للإفلاس حال الأفراد، عند عدم قدرتها على الوفاء بديونها أو دفع مستحقاتها المالية الداخلية والخارجية أو دفع رواتب موظفيها، سواء أعلنت عن ذلك أم لا، والحالات التاريخية لإفلاس الدول دليل على ذلك.

أسباب الإفلاس

أسباب عديدة تدفع الدول نحو الإفلاس، يأتي في مقدمتها ارتفاع الدين العام ونسبته إلى الناتج المحلي، وارتفاع تكلفة التأمين على الديون السيادية، وارتفاع العجز المالي ونسبته إلى الناتج المحلي، وأيضاً الفجوة الضخمة في الميزان التجاري وميزان المدفوعات. يُضاف إليها بنية اقتصادية وإنتاجية مترهّلة تولّد كساداً اقتصاديّاً ونسبة بطالة مرتفعة. أضف إلى ذلك غياب الاستقرار السياسي والأمني، وضعف السلطة الحاكمة عن القيام بواجباتها المطلوبة، أو خوض الدولة حرباً خاسرة ينتج عنه نظام سياسي جديد. وإن فساد الهيكل الإداري للدولة، والفساد المستشري في إداراتها ومؤسساتها الإنتاجية، من أهمّ الأسباب التي قد تودي بدولة مهما كانت قوتها إلى منحدر الإفلاس.

عواقب الإفلاس

إن للإفلاس عواقب وخيمة على مختلف الصعد تبدأ من تخفيض التصنيف الائتماني للبلد المعني، وزعزعة ثقة الدائنين في اقتصاده وفي أوراقه المالية، فيجد بذلك صعوبة بالغة في الحصول على التمويل مجدداً من المؤسسات والمصارف المالية وأسواق الأوراق المالية. كما يؤدي إلى هروب الرساميل المحلية والأجنبية ويشلّ قدرة البلد على استقطاب الاستثمارات الأجنبية. وتلجأ الدولة المفلسة بطبيعة الحال إلى إجراءات تقشفية في مجالات الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، تخفيض الأجور، زيادة الضرائب والرسوم، الإحجام عن التوظيف الحكومي، وهي تطال بمعظمها الطبقات الفقيرة، فتزداد حالات الفقر ويتعمّق التفاوت الاجتماعي، وتنتشر الجريمة والانتحار، وتفقد الدولة هيبتها كسلطة فقدت قدرتها على تأمين الانتظام العام وتحقيق الصالح العام. وقد تعمّ التظاهرات جميع المدن وتنتشر الفوضى وتتوقف جميع الإدارات العامة عن القيام بمهامها، حتى الشرطة تعجز عن أداء واجباتها، واليونان خير مثال على ذلك.

إلى ماذا تلجأ الدول المفلسة؟

لا توجد قوانين دولية تحدد الإجراءات العملية في حالة إفلاس الدولة. ولكن من المتعارف عليه هو اللجوء إلى إعادة هيكلة الديون، سواء عن طريق المؤسسات غير الرسمية مثل نادي باريس أو المنظمات الدولية مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. فقد تم إنشاء نادي باريس في عام 1956 نتيجة المحادثات التي تمت في باريس بين حكومة الأرجنتين ودائنيها، وهو مؤسسة غير رسمية تمثّل تجمع الدائنين من الدول الغنية، ويتولى النادي مهمة إعادة هيكلة الديون السيادية للدول أو تخفيف أعباء بعض الديون أو حتى إلغاء بعض هذه الديون. أما في حالة لجوء الدولة إلى صندوق النقد الدولي، يقوم الصندوق بتقييم أوضاع الدولة، فإذا كان التوقف عن السداد بسبب ظروف طارئة، يتم عقد اتفاق مساندة بمقتضاه يتم منح الدولة تسهيلات نقدية بالعملات الأجنبية بدون فرض إجراءات لتصحيح هيكلها الاقتصادي والمالي. أما إذا كان التوقف عن السداد يعود إلى مشكلة هيكلية مرتبطة بمالية الدولة واقتصادها وهيكلية القطاع العام، عندها يشترط الصندوق لتقديم المساعدة للدولة ضرورة اتّباعها لبرنامج إصلاح هيكلي يتضمن مجموعة من الإجراءات لإصلاح هيكل الميزانية العامة وتخفيض العجز في ميزان المدفوعات، وتحسين قدرتها على الاقتراض والسداد في المستقبل.

دولٌ أفلست

أول دوله أشهرت إفلاسها في 1557 هي إسبانيا، وتكرر ذلك ستّ مرات حتى نهاية القرن التاسع عشر. وقد تعرّضت فرنسا للإفلاس حوإلى 8 مرات في الفترة من 1500-1700 بسبب المغامرات العسكرية. أما ألمانيا فأفلست مرتين: الأولى في 1920 نتيجة لخسارة الحرب العالمية الأولى، والمرة الثانية كانت بنهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945. والمكسيك كانت المثال الفاضح عن حالات الإفلاس في ثلاثينيات القرن الماضي. ومنذ العام 1970 حتى اليوم تخلّفت نحو 70 حكومة عن دفع ديونها، فلجأت إلى إعادة جدولتها أو إلى حلول أكثر قساوة. فروسيا من أبرز الدول التي أعلنت إفلاسها عام 1998 بسبب الأزمة الاقتصادية الناتجة عن تحوّلها من دولة شيوعية إلى دولة رأسمالية. وأعلنت الأرجنتين إفلاسها عام 2001 بسبب الأزمة المالية وتعاظم الديون، وقد أعلنت إفلاسها مرتين خلال 13عاماً فقط. وأوروغواي التي تعرضت لأزمة حادة فى 2002 اختارت إشراك الدائنين. ولعل النموذج الصارخ عن حالات الإفلاس هي اليونان في العام 2015.

هل لبنان بلد مفلس؟

قبل الإجابة على هذا السؤال لا بد من عرض بعض المؤشرات المالية والاقتصادية لتكون الإجابة علمية وموضوعية. تخطّى الدين العام عتبة 87 مليار دولار، ومن المتوقع أن تصل نسبته إلى الناتج المحلي مع نهاية العام حوالي 160%. وقد ارتفعت تكلفة التأمين على الديون اللبنانية إلى مستوى لم يسبق له مثيل وصل إلى 990 نقطة. أما العجز المالي فقد بلغ 6.3 مليارات دولار في العام 2018، وبلغت نسبته إلى الناتج المحلي 11.5%. وسجّل عجز الميزان التجاري في العام 2018 حوالي 17 مليار دولار بينما عجز ميزان المدفوعات 6.04 مليارات دولار. على مدى 12 شهراً، بين حزيران 2018 وأيار2019، سجّل ميزان المدفوعات عجوزات متتالية، بلغ مجموعها التراكمي أكثر من 10.4 مليارات دولار، من ضمنها نحو 5.2 مليارات دولار في الأشهر الخمسة الأولى من هذا العام. وتبلغ خدمة الدين العام حوالي 3 مليارات دولار سنوياً. وفي ظل غياب نمو اقتصادي لن يتعدى صفر % وتأثيره السلبي على الإيرادات العامة.

خلال منتدى بكركي الاقتصادي - الاجتماعي الثاني في3 آب الجاري، أكد حاكم مصرف لبنان الدكتور رياض سلامة أن لبنان لديه الملاءة، وأن كل الكلام عن أن لبنان بلد بخطر الإفلاس هو كلام غير مبرر علمياً وبالأرقام. فهل كلام الحاكم يستند فعلاً إلى مبررات علمية ورقمية، أم أن هذا موقف وتصريح طبيعي من أهمّ مرجعية نقدية واقتصادية في لبنان ليبعث الطمأنينة إلى المودعين ومشتري سندات الخزينة، وإلى المنظمات والوكالات الدولية وخاصة أننا على أبواب إصدار تصنيفات ائتمانية جديدة لن تُحمد عقباها في حال تغيير التصنيف الحالي؟ إذا قاربنا كلام الحاكم من زاوية مصادر الدين العام اللباني وأنه بمجمله داخلي ( أكثر من 86%) وأن لا مصلحة للمصارف التجارية اللبنانية ولا لكبار المودعين في الوصول إلى هذه الحالة، عندها يصبح كلام الحاكم صحيحاً. ولكن جميع المؤشرات تؤكد أن لبنان على شفير إفلاس قريب أو أننا أمام إفلاس مقنّع. ولن يجرؤ أحد في السلطة الإعلان عن ذلك حتى لا يتحمّل المسؤولية التاريخية عن ذلك. وما إثارة فخافة الرئيس الجنرال ميشال عون منذ عدة أيام احتمال اضطرار لبنان اللجوء إلى صندوق النقد الدولي للحصول على المساعدة إلا مظهر من مظاهر الإفلاس، والإعلان عنه بشكل غير مباشر. فهل يتدّخل المجتمع الدولي ليمنع حصول هذا الإفلاس وليبقي على الاستقرار الداخلي، أم على العكس تماماً، سيدفع بالاقتصاد نحو الانهيار والدولة نحو الإفلاس من أجل سياسات اقتصادية كبرى في مقدمها التوطين؟

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم