الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

هل يكشف مبضع داغر هويّة خليل الخوري الثقافيّة ويعيد الاعتبار له؟

مارلين سعاده
هل يكشف مبضع داغر هويّة خليل الخوري الثقافيّة ويعيد الاعتبار له؟
هل يكشف مبضع داغر هويّة خليل الخوري الثقافيّة ويعيد الاعتبار له؟
A+ A-

وقعْتُ، بين مجموعة كتب وصلتني هديّة من كاتبها، على اسم خليل الخوري يتصدّر عنوانًا مزدوجًا: وَيْ. إذن لست بإفرنجي – الرواية العربيّة الأولى الرائدة (1860)؛ وفي أسفل العنوان جملة تكشف أنّ الكتاب يتضمّن مراجعة بحثيّة أكاديميّة "حقّقها وقدّمها ودرسها: شربل داغر".

في المقدّمة يوضح لنا داغر فكرة الكتاب، الذي نُشرت أجزاؤه في مجلّة "حديقة الأخبار" لصاحبها خليل الخوري، وتحوّل - بعد إتمام نشرها فصولًا - إلى كتاب مكتمل، طُبع في المطبعة السورية سنة 1860، في 162 صفحة. كما يشير إلى التعديلات التي أجراها الكاتب على النسخة المطبوعة بشكل رواية، وسبب ورودها في الجريدة غير محرّكة وخالية من علامات الوقف. وقد توقّف داغر في دراسته عند وعي خليل الخوري لدور روايته، حيث قال: "كان خليل الخوري يدرك أكثر من غيره، وقبل غيره، أنّه "يبدأ" بنوع أدبي لم تعرفه العربيّة بعد، وهو ما يقوله منذ "مقدّمة المقدّمة"، إذ يتحدّث عن صنيعه بهذه الكلمات: "كنّا مبتدئين بهذا الفن". (ص 103)

ولا يُهمل داغر تزويدنا بملخّص عن سيرة خليل الخوري (1836 – 1907) وما قيل فيه، تحت عنوان: ""أوّل" روّاد التجديد"، وقد وضع كلمة "أوّل" - كما يلاحَظ - ضمن مزدوجين، ربما لما يحوم حول هذه الصفة من لغط وتعارض في آراء الباحثين والنقاد. وهذا ما سيتأكّد لنا لاحقًا عند البحث في ما جاء من أقوال ودراسات حول الخوري وروايته التي نتكلّم عليها.

منذ البداية، لم يشأ داغر أن يُرهق القارئ أو يؤثّر على رأيه، أو يُفقده متعة متابعة أحداث الرواية، لذا دعاه إلى الانطلاق في الرحلة من دون تأخير، على أن يقوم في نهاية الرواية بعرض نتيجة دراسته وتحليله، وما توصّل إليه بالعقل والمنطق والمقارنة والقياس.

وقبل أن نصل إلى خلاصة رأي داغر في رواية الخوري، التي تمتاز بعنوانها الغريب والطريف في آن، والتي اعتمد فيها الراوي أسلوب القاص والرحّالة، ممسكًا بيد القارئ ليقوم معه برحلة مدروسة الخطوات، متعدّدة المحطات. ولعلّ أكثر ما يبهرنا ونحن نتابع أحداث الرواية، هو الدقّة في الوصف، والانسياب في الحوار، الذي يخلو من التصنّع، ويضعنا في قلب الحدث، حتى لنخال أنّنا نشاهد حلقة من تلك المسلسلات الفكاهيّة التي كانت تُعرض على الشاشة الصغيرة، في بداياتها، ولكنّ الطريف في الأمر أن المَشاهدَ تأتينا بالألوان، يصوّرها الكاتب لنا بدقّة متناهية، فنشعر أنّها تتحرّك أمامنا، إذ يستخدم أسلوبه الشائق في الوصف والسرد، تاركًا الشخصيّات تتحاور بعفوية.

أيضًا تستوقفنا ترجمة الخوري – الشاعر، الدقيقة، لمقتطفات من قصائد لامرتين، من دون أن يُخلَّ بموسيقى الأبيات الشعريّة، محافظًا على جماليّة الوصف باستخدام عبارات تؤدّي المعنى المقصود في النص الفرنسي، بنمط عربي.

يمتاز عمل داغر البحثيّ بدقّته في عرض التغييرات التي جرت على النص بعد جمع أجزاء وفصول الرواية في كتاب، إذ يشير إلى كلّ تعديل مفصّلًا في الهامش، حرصًا منه على عدم إفقاد القارئ تركيزه على التسلسل السردي، تاركًا له الخيار في التوقّف عند ما طرأ من تعديلات، وما أضافه هو من تصحيحات وجدها ضروريّة ولازمة.

كما يتوقّف عند تاريخ نشر الرواية في الجريدة (سنة 1859)، مشيرًا إلى أنّ الكاتب اقتبس فكرة نشرها في فصول متتابعة نقلًا عن "تقاليد ناشئة في الصحافة الفرنسيّة ابتداء من العام 1836، في جريدة "الصحافة" (La presse)، ثم في غيرها، وكانت تقضي بنشر روايات مسلسلة يكون الروائي قد كتبها قبل نشرها، عاملًا على وقف القسم المنشور في مواضع تدعو إلى التشويق (أشبه بشهرزاد، إذا جاز القول)"؛ كما اعتبر أن الخوري يقلّد في روايته "جريدة المناقشات" (Le journal des débats) التي "له صِلات بيّنة بل أكيدة معها." (ص 118)

ولا يخفى على القارئ مدى استحواذ هذه الرواية على فكر داغر وتأثّره بجماليّاتها، حتى لتشعر معه وهو يحلّل في الختام تفاصيلها، أنّك تدخل غرفة عمليّات بحثيّة - أدبيّة، يدعوك إليها داغر الناقد، وقد ارتدى زيّ الطبيب المعلّم، مشمّرًا عن ساعديه مستخدمًا مبضعه ليكشف لك كلّ ما خفي بين طيّات السطور من جماليّات، كمن يشرّح زهرة ليخبرَ عن تفاصيل تكوينها ومَكمن العطر فيها، فتشعر برائحته تداعب منخريك وإن لم تره بناظريك!

يصرّح داغر، بعد الانتهاء من تشريح الرواية والكشف عن جمالياتها، أنّ "رواية "وَيٍ. إذن لست يإفرنجي" قد لا تكون العمل السردي العربي الأوّل في القرن التاسع عشر، إلّا أنّها – ضمن حدود المعلومات المتوافرة – "الرواية" الأولى، بالمعنى الفنّي، من دون أي لبس." (ص 124). ويؤكّد ذلك عند عرضه لعدد من الملاحظات التي أتت في مجملها لتعزّز الدور الريادي للخوري في الرواية، بالأخص في الملاحظة الرابعة حيث يقول: "إنّ رواية الخوري هي "الرائدة" أيضًا، إذ إنّها لم تسبق غيرها وحسب، وإنّما باتت "نموذجًا" لغيرها. وهو ما يمكن التحقّق منه بالعودة إلى بعض التحقيقات التي خلصتُ إليها إثر مقارنة فنية بين بعض أسس البناء السردي في رواية الخوري وغيرها من روايات تالية عليها." (ص 126)

وقد دلّ على ذلك من خلال تقديم عدد من المعطيات التي استقاها من أجواء الرواية، مقاربًا ما جاء فيها مع ما ورد في سواها من الروايات التالية لها، مشيرًا إلى أن بعض الروايات التي تبعت رواية الخوري لم تبلغ "مهارته" المتقنة في السرد، من حيث "حَبْك" الأحداث وصدفويّتها.

وبالعودة إلى ما جرى من أبحاث سابقة، وما جاء من آراء حول رواية خليل الخوري موضوع مقالنا، يستوقفنا مقال لجان دايه، نُشر في جريدة الشرق الأوسط بتاريخ الاربعـاء 17 ذو القعـدة 1428 هـ 28 نوفمبر 2007 العدد 10592، تحت عنوان "هل خليل الخوري هو رائد الرواية العربية فعلاً؟" وكان الدافع لهذا المقال مرور مائة عام على وفاة خليل الخوري، وقيام الباحث المصري محمد عبدالتواب بإقناع «المجلس الأعلى للثقافة» "لإعادة نشر رواية الخوري «وي. إذن لست بإفرنجي» باعتبارها باكورة الروايات العربية".

يعرض المقال عددًا من التساؤلات التي ينطلق الناقد منها ليبدي موقفه من الرواية وكاتبها، فيصف عنوان الرواية «وي. إذن لست بإفرنجي» بـ"الطريف"، مشيرًا إلى أنّها "ليست الباكورة اليتيمة لهذا النهضوي المغمور"، مضيفًا: "للأسف ليست كل بواكير الخليل مفيدة". ثمّ يذكر شيئًا من سيرة الكاتب، مندّدًا بـ"تحوّل حضرته (خليل الخوري) في عام 1870 من كاتب مقاتل في سبيل التمدّن والحرية والعدالة، إلى مكتوبجي يراقب الصحف ويرفع التقارير عنها إلى الوالي...".

وبعد توقفه عند نشر الرواية في جريدة "الأخبار" على مراحل، يشير إلى صدورها في كتاب. ثم يذكر ما كتبه فيليب طرازي عن خليل الخوري في الجزء الأول من كتابه «تاريخ الصحافة العربية»، حيث قال إنَ «وي. إذن لست بإفرنجي، هو كتاب أخلاقي وضعه على أسلوب القصة وضمنه انتقاداً دقيقاً على الأخلاق والعادات مع ملاحظات لطيفة على المتنبي وألفنس دي لامرتين».

ويعود جان دايه ليجرّدَ الرواية وكاتبها من التقدير الذي حازا عليه، مشكّكًا في كونها أوّل رواية في عصرها، كما في حيازتها "على الشروط الفنّيّة، خصوصاً إذا علمنا أنها كُتبت منذ 148 سنة، خاصّة وأن مقدمتها مباشرة وتنظيرية وخاتمتها لا تمتُّ إلى الفن الروائي بصلة. فالمقدمة تشبه في مضمونها المقالات الفكرية والاجتماعية التي نشرها الخوري في جريدته وقارن خلالها بين الشرقيّين والغربيّين على أصعدة «العلوم والمعارف والمبادىء العلمية»." (مقتطفة من المقال).

رأيان يوقعاننا في حيرة، بين الريادة والتنظير، مدّ وجزر كأن لا نهاية لهما. علمًا أنّ حكم العاطفة والعصبيّة لا يخفى على القارئ، من خلال عبارات الناقد في جريدة الشرق الأوسط، حيث وصف "حضرته" (خليل الخوري) بـ"النهضوي المغمور"، الذي لا تمتاز بواكيره كلّها بالفائدة، و"المكتوبجي" الذي يرفع تقاريره إلى الوالي...؟ إلاّ أنّه لا يلبث أن يشيد بموقف الباحث المصري محمد عبدالتوّاب الذي رفع رواية الخليل إلى مستوى الريادة مع أنّه شامي، مشيرًا إلى أنّه يندر لباحث مصري أن يعترف بريادة شامي!

يبقى لك أيّها القارئ أن تعود إلى رواية خليل الخوري "وَيْ. إذن لست بإفرنجي"، وتدخل عالمها، وتنقل لنا حكمك الشخصي، فالكلمة الفصل تعود لك.

اقرأ للكاتبة أيضاً: فريدريك تشيندروف و"المخطوطة السينائية": من ألمانيا إلى سيناء رحلات عشق لاهوتي!

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم