الخميس - 18 نيسان 2024

إعلان

هندسة التعطيل... استخلاص العبر واستشراف الآتي

المصدر: النهار
من مشاهد الانتفاضة اللبنانية. (الصورة عن AFP )
من مشاهد الانتفاضة اللبنانية. (الصورة عن AFP )
A+ A-

حسين العشي*

 

 

تُجمع قوى ثورة 17 تشرين، بعد قرابة عامين من اندلاع شرارتها الأولى، على العديد من الأهداف والمبادئ، بالرغم من اختلافها -الطبيعي والصحي - على طريقة الوصول إلى الغايات المنشودة. فقوى اليمين واليسار والوسط وما يدور في فلكها اجتمعت حول ضرورة إرساء مفاهيم مجتمعية جديدة، غيّبتها المنظومة الطائفية الفاسدة عن سابق تصوّر وتصميم. فالجميع يتّفق على مبادئ تكريس حكم القانون وتأمين العدالة وتحقيق المساواة بين جميع الأشخاص المعنويين والطبيعيّين أمام القضاء؛ والجميع يُجمع على ضرورة مكافحة الفساد وإعادة هيكلة القطاع المصرفيّ وإرساء نظام حوكمة جديد في الإدارة العامة. كذلك تتّفق القوى بشبه إجماع على ضرورة منح السلطات المحليّة استقلاليّة ماليّة وإداريّة واسعة عبر تطبيق اللامركزية الإدارية الموسّعة، وتضع تلك القوى السيادة ضمن سلّم أولويّاتها لتأمين قيام دولة عادلة وقادرة، مدنيّة كانت أم علمانيّة.

 

أمّا الاختلاف فيبدو أن أبرز تجلياته متعلّق بطريقة مقاربة المسار التغييري وكيفيّة تحقيقه. فبعض القوى تريد إصلاح النّظام، وأخرى تريد التغيير الجذريّ عبر التأسيس لعقد اجتماعيّ جديد. حتى ضمن هذه الفئة الأخيرة تختلف المقاربة، حيث تتبنّى بعض القوى طروحات تُعطي الأولويّة للعمل المجتمعيّ والجذريّ بينما يتبنّى بعضها الآخر مقاربةً تضع الاستحقاقات الانتخابيّة في سلّم الأولويات. الطريق نحو حسم هذه الخيارات أدّت إلى فتح نقاش  مفيد بين القوى المعنيّة. ولكنّنا اليوم، ونحن على بُعد أشهر قليلة من الانتخابات النيابية، لا بُدّ لها من أن تحسم القوى التغييرية أمرها بشكل جماعيّ. أنذهب إلى الانتخابات أم نُقاطعها؟ مَن التغييريّ ومَن الإصلاحيّ، ومَن التقليديّ ومَن التقدميّ؟ هل نسلك المسار المؤسساتيّ في المدى المنظور أو نسخّر مواردنا المحدودة في سبيل المسار المجتمعيّ المتوسّط أو طويل الأمد؟

بقدر أهميّة حسم التساؤلات المطروحة إلّا أنّها لا تُشكّل المشكلة الأساسية التي نواجهها، والتي تكمن في خصمنا وما في جعبته من أدوات لتعطيل المسار التغييري. لا بد للنقاش من أن يبدأ من هنا، ولا بدّ لجميع المعنيّين ألا ينسوا أنّنا في مواجهة منظومة طائفيّة تسيطر بشكل شبه كامل على الحيّز العام والخاصّ، أي الدولة بجميع مؤسّساتها وإداراتها وقضائها وأمنها وعسكرها، بالإضافة إلى سيطرة لا تقلّ سطوة على القطاع الخاصّ والمصالح الكبرى من المصارف إلى المقالع والكسارات وغيرها.

خصومنا أسياد مجتمعاتهم الطائفيّة، وأرباب زواريب السياسة وأدوات الحكم التي ابتدعوها لتأمين ديمومتهم. لطالما كان هاجسنا الأكبر هندسات رياض الماليّة، في الوقت الذي لا يجب ننسى أن وراء الحاكم بأمر المال أحزاب طائفيّة طوّرت أدوات حكم خبيثة، وأساليب تعطيل فعّالة جداً، تهدف إلى منع أيّ تغيير أو إصلاح أو تطوّر إيجابيّ في شكل النظام أو مضمونه. نحن نواجه أسياد هندسة التعطيل التي تبدأ على صعيد سلطات ومؤسّسات الحكم الصوريّة وتتمدّد في أزقة الشوارع والبيوت والغرائز والعقول.

 

هندسة تعطيل مؤسّساتيّة ومجتمعيّة

ترسانة أدوات التعطيل المتاحة أمام المنظومة كبيرة ومتنوّعة ومتشعّبة، وقد تستعمل على صعيد السلطات كافّة، وفي مختلف المؤسّسات والإدارات العامّة، وصولاً إلى القطاع الخاصّ والمجتمع ككلّ. الثابت هو أن المنظومة الفاسدة بأحزابها وموظّفيها العامّين وقضاتها وعسكرها وأمنيّيها ومصالحها وشبكاتها الزبائنيّة وميلشياتها تمرّست، وامتهنت وأصبحت خبيرة في فن تعطيل التطوّر والتغيير، أكان مؤسّساتيّاً أم مجتمعيّاً.

أدوات التعطيل التشريعية

في التشريع، ولو افترضنا أن أبواب المجلس مفتوحة بوجه المشرّعين، ولا اشتباك سياسيّاً بين زعماء الطوائف، فإن أيّ اقتراح أو مشروع قانون يُقدّم إلى مجلس النواب لا بدّ له من أن يرتطم أوّلاً بحائط اللجان النيابيّة، التي اعتدنا وصفها بـ"مقبرة القوانين"، والتي تُحوّل "أدراج" البرلمان لتوابيت ينام فيها الإصلاح والتغيير. هذا واقع عشناه في ما يتعلّق باقتراح قانون استقلاليّة القضاء وشفافيّته، الذي وقّعه 9 نواب، وأودعوه لدى أمانة سرّ المجلس في 06/09/2018 ليُحال بعد أسبوع إلى لجنة الإدارة والعدل، فبَقي في كهوفها 14 شهراً حتى أفرج عنه شارع 17 تشرين المنتفض، وفرضه على جدول أعمالها في جلسة 03/12/2019. همد الشارع بعدها، وعاد القانون إلى أحضان جورج عدوان ورفاقه في اللجنة. وقد يسأل البعض لماذا لا نراقب عمل اللجان، وندقّق في المحاضر، ونكشف المعطّلين بالأسماء والوقائع؟

الجواب بسيط ومقونن في المادة 34 من النظام الداخليّ للمجلس، الذي جعل من جلسات اللجان وأعمالها ومحاضرها ووقائع المناقشة والتصويت سريّة ما لم تقرّر اللجنة خلاف ذلك؛ ونادراً جداً ما تقرّر خلاف ذلك.

ولو سلّمنا بأن القانون التغييري قد تخطّى حواجز اللجان وجلساتها وتقاريرها ولجانها فإن العبرة تكمن في الخواتيم أي نصّ القانون، الذي يُعرض على الهيئة العامّة للتصويت، والذي يكون – في أغلب الأحيان - مفرّغأً من بنوده الإصلاحية، أو مُضافاً إليه بعض الشروط التعجيزيّة، ليبقى كماردٍ ورقيّ في حقبة إفلاس لا نملك فيها ثمن الحبر على الورق. ومن يُرد أمثلةً عن الشروط التعجيزية فليسأل عن قانون الإثراء غير المشروع أو المجلس الأعلى لـ(منع) محاكمة الرؤساء والوزراء!

أدوات التعطيل التنفيذيّة

كحال التشريع، فإنّ للسلطة التنفيذية العديد من الأرانب في قبعتها، لعلّ أبرزها المراسيم التطبيقيّة، وهي مجموعة من القرارات والتدابير التي تتّخذها لتنفيذ وتطبيق التشريعات الصّادرة عن مجلس النواب؛ هذا نظرياً، أمّا عمليّاً فالمراسيم التطبيقية هي أداة في يد السّلطة التنفيذيّة لتأمين عدم تنفيذ التشريعات عبر تمنّع الوزراء عن إصدارها. حتى أواخر 2020، كان هناك حوالَي 50 قانوناً في أدراج السّلطة التنفيذيّة بانتظار مراسيم تطبيقيّة لتنفيذها، ومنها قوانين أساسيّة تتعلّق بقطاعات حيويّة مثل الكهرباء والاتصالات وسلامة الطيران المدني، أو أخرى تتعلّق بمكافحة الفساد (الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد، حقّ الوصول إلى المعلومات، وسيط الجمهورية، إلخ...). أمّا تبريرات التعطيل المفضّلة فهي الأسباب التقنية و/أو السياسية فيما السبب الحقيقيّ – طبعاً – فهو رفض التخلّي عن أيّ منفذ للفساد.

أدوات التعطيل الإدارية والقضائية

حكاية التعطيل تتفاقم إدارياً مع استمرار نهج المحاصصة الطائفية في التوظيف العام، إذ أصبحت الإدارة العامة مجموعة محميّات                                                                                                                                                                                            حزبية وطائفية يستشري فيها الفساد والمحسوبيات، حيث تتعطّل معاملة أو رخصة، أو يرفض أيّ طلب لعلّة عدم الدفع أو غياب رضا الزعيم. وهذا الواقع لا يختلف في الجسم القضائي في ظلّ استمرار إمساك السلطة التنفذيّة ومن ورائها السلطة السياسية في ملف التعيينات القضائيّة لتطويع القضاة، وتقويض أيّ محاولة لفرض حكم القانون واستقلاليّة الجسم القضائي. أداة التعطيل القضائي الأقوى تتمثل بالنيابات العامة التي قرّرت مؤخّراً أن تُبقي على حصانات متهمين في جريمة تفجير مرفأ بيروت؛ وذلك بناءً على مشيئة سلطة التعيين التي تريد حماية أزلامها. أمّا مجلس شورى الدولة فحدّث ولا حرج، ولنتذكّر أنّه في يوم من الأيام قرّر هذا المجلس التراجع عن قرار وقف تنفيذ رخصة بناء منحها محافظ بيروت زياد شبيب لفندق الـ "إيدن باي" (الرملة البيضاء)، ضارباً بعرض البحر حقّ الوصول إلى الشاطئ، ومشرّعاً لتعدٍّ جديدٍ على الأملاك البحرية العامّة وواجهة بيروت الزرقاء (بكل معنى الكلمة من الدالية حتى محيط خليج السان جورج).

 

أدوات التعطيل الأمنية والعسكرية

أما بعد القضاء والإدارة، فأمامنا تبقى فوّهة البندقية؛ فالمؤسسات العسكريّة والأمنيّة حالها حال جميع المؤسّسات الدستوريّة والإدارات العامّة الأخرى. لا يقتصر الأمر على التعيينات في المراكز الحسّاسة التي تُمنح – في أغلب الأحيان - على أساس الولاء والطاعة لزعيم الطائفة، إنّما الأمر يتعدّى ذلك إلى الإمساك بمفاتيح الدخول إلى المؤسّسات العسكريّة والأمنيّة؛ وفضيحة المدرسة العسكرية خير دليل على عمق سطوة الأحزاب الطائفيّة على مؤسّسات من المفترض أن تحتكر أساليب العنف المنظّم، وأن تخضع مباشرة للسلطة المدنية المنتخبة لا لأمراء الحرب!

 التجاوزات في هذه الحالة تمتدّ من حماية بعض المصالح والتعدّيات "البريّة" إلى منح تراخيص غير شرعية لآبار جوفيّة وصولاً إلى رفض المدير العام لقوى الأمن الداخلي الامتثال لأمر خطّي من سلطة الوصاية، أي وزير الداخلية، كما حصل في العام 2011 بين الوزير زياد بارود واللواء أشرف ريفي.

 

أدوات التعطيل بحكم الأمر الواقع

بالرغم من جميع المواقع والمناصب والقوانين والمراسيم والمحاكم والأمن والعسكر والأكثرية والمعارضة تبقى الميليشيات التي تحمل السلاح خارج إطار الشرعيّة أقوى أداة تعطيل بحكم الأمر الواقع.

حزب لله، أي الجيش العابر للحدود، هو الأقوى، وقد سبق له أن فرض أجندته السياسيّة على جميع القوى الطائفيّة الأخرى، سواء أكان عبر العمل العسكري المباشر (7 أيار) أو عبر التلويح به (القمصان السود)، إلا أنّه أمام أحزاب يافعة تنبذ أساليب العنف وتؤمن بالمقاومة المدنيّة اللاعنفية، فإن الميليشيات "الأصغر" تشكّل أيضاً قوى أمر واقع في المدن والقرى في مختلف المناطق اللبنانيّة. العروض العسكرية في شوارع الجميزة والحمراء، والمناورات العسكرية في النبطيّة، لم تُقدم عليها الأحزاب لإرسال رسالة إلى بعضها البعض أو إلى قيادة الجبهة الشماليّة في جيش العدو بل كانت مصمّمة بشكل مباشر لبثّ الرّعب والخوف في نفوس قاطني تلك المناطق من ناشطين سياسيين ومدنيين طامحين للتغيير. وقد تذهب قوى الأمر الواقع إلى تكريس سياسة الخوف والترهيب بافتعال حوادث أمنية بالرصاص الحيّ؛ وذلك لشدّ الغرائز، ورفع منسوب الاحتقان، وشدّ العصب الطائفيّ؛ وما أحداث جبل محسن وباب التبانة وخلدة وغيرها إلا خير دليل.

أمام هذه الترسانة من أدوات التعطيل الخبيثة التي استعرضنا بعضها بشكل مقتضب، وبالعودة إلى التساؤلات التي طرحناها في مقدّمة المقال، قد تبدو الأجوبة أسهل. الحقيقة هي، ونظراً لطبيعة الخصم المتوحش وأساليبه، ليس هناك من مقاربة صحيحة ومقاربة خاطئة، فنحن بحاجة ماسّة إلى مقارعة المنظومة على مختلف الأصعدة، وفي جميع الساحات. ومن الضروري تحديد الأولويات ورسم الاستراتيجيات بشكل مشترك، ولكن دون مواجهة أيّ مسار أو مقاطعته. نحن في أمسّ الحاجة لمشاركة الجميع في الاستحقاقت الانتخابيّة المقبلة كافّة، كما نحن في حاجة لدعم أيّ مسار مجتمعي قد يساهم في قلب المعادلة على المدى المتوسّط أو البعيد. حالياً، ليس لدينا ترف المبارزة الفكريّة حول أيّ خريطة طريق نسلك، أو مدى فاعليّة كلّ مقاربة أو واقعيّتها. في واقع الحال، قد يبدو التغييرعبر الانتخابات مستحيلاً بقدر ما قد تبدو اللجان الشعبيّة من الأوهام. ولكن الحقيقة الوحيدة هي أنّ الأيّام وحدها كفيلة بالإجابة عن هذه التساؤلات وتوجيه الحالة التغييرية. علينا أن نجرّب، ونحاول، ونواجه مؤسّساتيّاً ومجتمعيّاً بما تيسر وأن نستخلص العبر.

 في الأمس القريب، انتصرنا في معارك نقابيّة وطلابيّة لم نكن نحلم في الفوز بها منذ بضع سنوات؛ واليوم، ونحن على أبواب الانتخابات النيابية لا بدّ من تسخير مواردنا وقدراتنا كافّة لجعلها محطّة جديدة على درب التغيير.

في خطّ موازٍ، لا بدّ من أن نتذكّر محدوديّة القدرة على تحقيق التغيير حصراً عبر المؤسسات، في ظلّ صوريّتها، وأمام أدوات التعطيل التي استعرضناها؛ ممّا يحتّم علينا وضع استراتيجية مشتركة لدفع المسار المجتمعي الهادف إلى تغيير الثقافة السياسية لدى المواطِنة والمواطن اللبناني، وتهيئة المجتمع لعقد اجتماعيّ جديد نصنعه نحن. أمّا الأهمّ، ومهما اشتدّ الخلاف أو الاختلاف بين قوى التغيير، أنّه علينا أن نتذكّر هويّة الخصم وما في جعبته من أدوات تعطيل.

التغيير حتميّ، والنظام بشكله السابق غير قابل للحياة، ويبقى عامل الوقت أسير قراراتنا في هذه المرحلة التي تسبق الانتخابات النيابية والمرحلة التي تليها.

وتيرة التغيير بين أيدينا، وما سنفعله في الأسابيع والأشهر المقبلة كفيلٌ بتحديد الجيل الذي سيشهد على قيامة الدولة التي نطمح إليها.

 
 
*أمين عام حزب "منتشرين" 

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم