الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

الحقيقة رقم 6: مش عايشين بأمان... سيبال

المصدر: النهار
ديما عبد الكريم
ديما عبد الكريم
سيبال.
سيبال.
A+ A-
أضع يديَّ أسفل رأسي، أعدّ الخدوش في حيطان الغرفة، أهمّ بالنوم، أفكّر عميقاً في الظروف والأفكار التي جعلت طفلة ترمي لعبتها ذات الشعر الأشقر الطويل والفستان الزهري وتغنّي مستجديةً الطفولة.
 
في العام 1984، وقفت ريمي بندلي، وتوسّلت العالم علّ أحدهم يُعطينا الطفولة، وهكذا كان! فأعطانا العالم منذ ذلك الحين، نحن الشعب المحكوم بالفقر والعوز وقلّة الحيلة والتبعيّة، طفولة أبدية. نحن الذين ظننا أنّنا كبرنا في بيوتنا مع عائلاتنا، ما زلنا أطفالاً نلاعب بعضنا بعضا، لكن بخشونة، في منزل كبير، نوافذه من وجع، مع آباء لا يشبهون الآباء في شيء، حتى أصبحنا أيتاماً فتّتهم الوطن.
 
بخطوات مرتجفة، دخلت الحيّ. تكاد تكون المرّة الأولى التي لا أخاف فيها على حذائي الأسود الجديد من أن يتّسخ بغبار الشارع؛ خفت هذه المرّة على قلبي. بنبضات متسارعة، ماذا سأقول لسيبال؟  
 
بعينين ترويان القصّة كاملة، وإبهام يضغط على الأصابع المرتجفة ليهدّئ روعها، عرّفت بأنها ابنة الـ15 عاماً. كانت في المنزل برفقة أمّها وأخيها (23 عاماً) حين اخترق صوت الانفجار في 4 آب آذانهم.
 
"كنت بالصالون وخيّي بالحمّام، سمعنا الصوت الأول، ركضت إمّي لتسأل الجيران شو هيدا؟ وطلع الانفجار. دخان أبيض، طرت من الصالون عالكوريدور، شفت العضمة طالعة من أصبعي، وإيديّي كلّن دم، خفت، ما عرفت شو هيدا، ما عرفت شو أعمل"، تقول سيبال.
 
تصمت طويلاً، تتفادى النظر إليّ، تشرد نظراتها في ذلك الحيّ الذي يحاول النهوض، ترفع إطار نظّارتها بطرف إصبعها، وتقول: "ماما رجعت ركضت وقتها من الخامس من عند الجيران عبيتنا عالسادس كانت مجروحة بإجرها وضهرها وهيك جسما مفخوت وماما بتخاف من الدم".
 
تتمالك سيبال نفسها، أعلم أنّها تريد البكاء.
 
"قشطت ماما بالأرض، صرت صرّخ، يا عالم يا ناس، ما حدن كان سامع ولا حدن ردّ، نزلو الجيران دقّينا للصليب الأحمر ما في خطوط، وهيك من طابق لطابق الجيران كلّن منصابين".
 
تخونها دموعها، تبكي بحرقة وألم: "إمي هلّق بمركز دير السلام، صار عندا تلف بالدماغ من ورا الانفجار، ما بتقدر تحكي ولا بتتحرّك بس بتتطلّع بعيونها. بزورها 3 مرات بالشهر تقريباً".
 
سيبال، التي تسكن اليوم مع عمّاتها، تعلم أنّ روائح كلّ الأحضان التي تغمرها لا تشبه رائحة أمّها، وأنّ طعم كلّ شيء لا يرقى إلى حلاوة أشياء أمّها، وفيما تنتظر عودتها إلى المنزل، تقول سيبال: "أنا وعمّاتي مناح، صلّي يا ماما واتكلي ع الله، وبدّي قلّك إنّي صرت إجلي وكنّس".
 
بحرقة تقول سيبال عن البكاء إنّ سببه الوجع "الوجع إنّي شوف إمّي هيك".
 
أحلام الفتاة الزهرية تلاشت بعد انفجار مرفأ بيروت، وأصبح جلّ ما تطلبه الأمان، و"إنّو يزبط البلد ويصير في دولة والدولار يرجع 1500".
 
سيبال الوردة التي شلّعها عصف الانفجار من طفولتها الوردية، وتصالحت يداها البريئتان مع الدماء رغماً، ما عاد يرعبها إلا استسلام المحقق قبل الوصول إلى الحقيقة؛ هي التي فقدت أباها قبل سنتين، تعرف أن المستقبل ينتظرها وحيدة، في بلد استكثر علينا حتى الطمأنينة.
 
قبل أن أغادر، طلبت من سيبال ألّا تفقد  الأمل، وأن تحاول التقاط الضحكة. أمّا الطفولة يا سادة، فلا تعطونا إيّاها... لا نريدها منكم وأنتم لا تقدّرون معنى خوف الأطفال. سينتزع أحد هؤلاء الموجوعين البريئين يوماً حقوق الطفل والانسان منكم!
 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم