الإثنين - 29 نيسان 2024

إعلان

الحقيقة رقم 3: عايشين بخوف... براءة ورند

المصدر: النهار
بتول بزي
بتول بزي
الحقيقة رقم 3 : عايشين بخوف ... براءة ورند
الحقيقة رقم 3 : عايشين بخوف ... براءة ورند
A+ A-
هنا منطقة المدوّر في بيروت. هوَت أرض المنزل من الطبقة الثانية إلى الأولى في أحد المباني مقابل كنيسة السيّدة. تطايرت الشبابيك وسقطت السقوف، وخيّم الدخان الأبيض على المكان. شعرت الشقيقتان براءة (8 أعوام) ورند (14 عاماً) بالوَهن والهلع، ظنّاً منهما أنّ والدتهما مريم قد توفّيت. صراخ وبكاء قبل استعادة الوعي. المشهد كان كارثياً.
 
ننقل من المدوّر المنكوبة قصة من فاجعة الرابع من آب. في عيون الأطفال، كل لحظة استثنائية ترسم مشهدية لها فصولها. براءة ورند، بطلتا القصة، فتاتان سوريّتان لا تعرفان بلدهما، ولم تُعاينا جراح وطنهما النازف منذ سنوات، لكنّهما تماهتا مع بيروت، فشكّلتا معاً مشهداً قد لا يتكرّر.
 
لم ينَم أولاد المدينة منذ تلك الليلة. ثمّة صوت يتسلَّل كل يوم إلى آذانهم بلا استئذان، وسحابة دخان أبيض تلفّ غرفهم المصدّعة. عام مرّ كأنّه أمس. يجاهدون للنسيان، تماماً مثلما يجاهد أهالي المدوّر للملمة جراحهم ونفض الغبار. صار للبيوت شبابيك جديدة، استحدثها هَول الانفجار. لم تبقَ أبواب تُغلَق على قاطنيها. لا درج سالماً للصعود إلى الطوابق العليا. قد يضطرّ الزائر لأن يدوس قضبان الحديد الظاهرة، في مبنى فقد هويته الأصلية، وعاد قيد الإنشاء.
 
كانت براءة تقف مع رفيقتها لامار على شرفة منزلها حينما تصاعدت ألسنة اللهب من المرفأ. لم تكترث: "عادي"، قبل أن يصفعها أخوها الأصغر ويجبرها على الدخول. ثوانٍ فقط، اشتدّ الصوت ودوّى انفجار كبير... "شعرتُ كأنّني قد غفوت، لم أحسّ بأيّ شيء، وعندما استعدتُ وعيي نظرتُ من النافذة، وظننتُ أنّني أحلم".
 
ضَلّت العائلة سبيلها فكان الشارع المدمَّر وجهتها الوحيدة. الصدمة عند باب المبنى، حيث افترشت سيدة الأرض بجسدها المغطّى بالدماء. كانت تُقاوم لحظاتها الأخيرة. اضطرّت الشقيقتان إلى العبور من فوقها للخروج. بكتا: "لم نستطع مساعدتها حينذاك، سمعناها تقول "يا ربّي" وما لبثت أن فارقت الحياة بعد دقائق".
 
نحو منطقة برج حمود، بحثاً عن مأوى عند الأقارب، فيما أصرّ الوالد على البقاء في بيته، فوق الركام. لم ترغب براءة في العودة إلى المدوّر أبداً: "اليوم الثاني كان بشعاً... راح البيت!". أوقات صعبة كانت تعيشها عند سماع أيّ صوت، وحتى إن انقطعت الكهرباء، كانت تعاني من نوبة بكاء وخوف، بعدما حفر دويّ الانفجار عميقاً في داخلها.
 
رند، حفظت وجه جارتهما "الأصفر" جيّداً قبيل وفاتها. غابت عن الحيّ لشهر تقريباً، ولمّا رجعت لم تستطع النوم لثلاثة أيام متتالية، خوفاً من حدوث انفجار آخر في أية لحظة.
 
القلق المسيطر على الشقيقتين تجلّى حينما اشتغل المرفأ ثانية في أيلول. فقدتا السيطرة على نفسيهما، فهرعتا إلى الشارع حافيتين. تخايلت رند أنّ انفجاراً ثانياً سيدوّي في الأثناء، فتوجّهت برفقة براءة وعائلتهما إلى كنيسة السيّدة المجاورة للمنزل. لجأوا جميعاً إلى بيت الله، "إن مُتنا، نموت بين جدران الكنيسة، وتحت سقفها".
 
جمعت مصيبة المرفأ سكان بيروت بأطيافهم وجنسياتهم. الوجع على مستوى الوطن والإنسان، كحلم براءة في عودة المتضررين جميعاً إلى بيوتهم و"تصير الدنيا أحلى". حلمها الكبير أيضاً أن تلتحق بمدرستها، بعد تخلّفها هذا العام، بسبب عجز أهلها عن تأمين هاتف لها وانترنت للتعلّم "أونلاين": "خربولنا بيتنا".
 

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم