الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

كيف نُقايض "كلّنا للوطن" بغبار الدمار المغزول بالدّم والنّار؟

المصدر: النهار
كيف نُقايض "كلّنا للوطن" بغبار الدمار المغزول بالدّم والنّار؟
كيف نُقايض "كلّنا للوطن" بغبار الدمار المغزول بالدّم والنّار؟
A+ A-
مارسيل خليفة- فنان


هكذا أكفُّ قليلاً عن عبث المسافة، وأخترع لنفسي كلّ يوم عودةً ما إلى الوطن البعيد. ما كان النوم متاحاً إلاّ في ساعات متأخرةٍ من الليل، أو في أختها المبكرّة من الصباح. ورأيتُ تدفُّق الحدث الدامي وكبرياء الألم في بيروت. حاولتُ إشغال نفسي بأمرٍ ما حتى أتجنّب الحقيقة المُرّة. ولكن... تعب الغربة، جحيم الوطن، وكم كتبناه على لحمنا ونثرناه في أغنية.
 
كلّنا في قلق، نحتاج إلى خارقٍ ومعجزة.
 
كيف نُقايض "كلّنا للوطن" بغبار الدمار المغزول بالدّم والنّار؟ كيف انكسر الأب كما ينكسر السرو العالي؟ سحبوا منه طفلته، وعلّقوها على الهواء وصارت ألكسندرا "نجمتنا". وَيَا علي، جاء من أجل "ربطة" خبزٍ فطحنته الإهراءات. والأم الثكلى، المتِّشحّة بالسّواد، تنادي ابنها "الحلو" صاحب العينين العسليّتين. من الذي أهالَ على جسده المُرهَف تراب التعب؟ نهنهةُ البكاء لذلك المولود الخارج لتوّه من رحم أمه في المستشفى المنكوب. أيها الطفل، لا أستطيع أن أتخيلّك من غير أم ٍ ومن غير أبٍ، وسأنثرُ عليك ما في وسعي أن أنثر من زهر.
 
ثمّة كلب يعوي في ليل المدينة، منتظراً عودة صاحبه الذي لم يعد، والذي طيرّه الانفجار وتبخّر. كانوا هناك: فوج الإطفاء، العروس النائمة، صيّاد السمك، الرجل الذي يقف عارياً مصدوماً محموماً، رافعاً ذراعيه في محاولة مستميتة لالتقاط المراكب السابحة في الفضاء. لا حدّ، أبداً، لطاقة الأسى والعجز عن الإمساك بأطراف سحيقة...
 
سماء من دخان، أرواح تتسلّق الفضاء الشاسع، نتطلّع بأبصارنا وبصائرنا الكليّة لنرى الحد الفاصل بين ما هو واضح وما هو غامض.
 
بكاءٌ عاصف، مَن يملأ فراغ الذين رحلوا؟ مَن يملأ هذا الفراغ؟ ما جدوى هذا العبث؟ هنيئاً لأولئك الذين بلغوا الفردوس! مَن ينتشلنا من هاوية السقوط؟ مَن ينسانا تحت الرّكام على ضفاف الميناء؟ في وسع القمح أن ينبت في الانفجار.
 
أعترفُ بأنني مخطوفٌ، الآن، إلى أمكنة الطفولة في بيروت، وأخشى أن أشي ببوح "حميم" في وحشة قلبي المنطوي في العزلة... يعود فيَّ الولد، الذي كُنْتُهُ ليشتاق إلى مدينته الأولى. كانت المدينة تستهويني، وكنت أذرعُها وحيداً في المساءات. طليقتان قدمايَ تعْويان في الفضاء. كان ذلك عندما جئتُها، على صهْوة حلميَ المبلّل برذاذ الطفولة، لأدرس في معهدها وعينايَ تَمسحان الناسَ والواجهات وسحرها الخرافيَّ من شارع لآخر. 
 
ثمّ أتى الرصاص وأتت، بعد حين الأغنيات – العاشقة تنتحر على شرفة وتر تنقره الأصابع في جنون ريشة النسر. هكذا سكنتني المدينة وروضّت صوتي على الوداعة.
 
لم أعد قادراً على الحنين. أريد أي مكان في مكان المكان، كي أعود الى ذاتي: إلى صوت المؤذّن الرّحيم من مكبّر الصّوت ممتزجاً بقرع جرس الكنيسة، باعة الصحف يصيحون، ملءَ أصواتهم لاهثين، بالعناوين الكبرى، المقاهي الفائضة على الطرق، باعة اليانصيب والمرطّبات والفلافل والفراريج المشويّة، محلاّت البوظة والعصائر، البضائع المعروضة والبائعات السّاحرات، المتسوّلين، بائعي الفستق السوداني، باعة الورود معسولي العبارات، وردة للعروس؟ أسواق المدينة وسط البلد، ساحة البرج، ساحة النجمة، مستديرة رياض الصلح، الحمراء، كورنيش المزرعة، الأونيسكو، سوق الخضر، سوق النورية، سوق سرسق، دور السينما، الرّيفولي، الروكسي، سينما إديسون، قصر البيكاديللي. الحنين إلى بيروت القبضايات وقنابيز وعِصيّ خيزران وشوارب مفتولة. سقا الله!...
 
لا يزال في وسع ذاكرتي البيروتية أن تدلّني على تاريخ أوّل الأشياء، وأوّل الأسماء، وأن أخترع صورة في المخيلّة الطيبّة الهالكة في زمن الضجيج والوحشة.
تنفتح المدينةُ في امتداد حتّى المرفأ، وتنفتح الهضاب التي تصعد بلا تعب، وبلا ملل إلى تعرّجات الجبال المحيطة لتصل القرى ببعضها. وكم كنّا نخشى أن تضيع منّا لحظة من فضائها الممتلئ بدهشة الحياة العامرة، وماذا بعد؟ أصواتُ البواخر على رصيف المرفأ تئنّ، وإيقاعات أولى لقمر بيروت المكتمل ينزل من أعالي الجبال ليسقط في بحر المدينة. من أين أدخل في الوطن؟ من أين أخرج من الوطن؟
 
يتراكم الزجاج على الرصيف ويغيب الميناء، ونَشقى في الشقاء مثل سفينة تهب نفسها للضباب. ما هذا الزمن الذي شحّ فيه العزاء؟ أرى ولا أرى! أسمع ولا أسمع! مطرٌ من الزّجاج يصبّ في أعماق الأبدية، يصبُّ في غور سحيق، في غموض المستقبل. انتهى كلّ شيء. الزجاج المتناثر مع الدمع يغطّي العيون. ويا للقلق الذي لم يكفّ يوماً عن مباغتنا بلا رحمة.
 
بيروتُ مدينةٌ مجروحة. استباحها اللّصوص من كلّ مكان، ونامَ قمرٌ على صدرها ولم يفق. تزحزحت الأرض من مكانها وتابعت دورتها الرتيبة.
 
نديفٌ هائلٌ عبر النافذة. من أين هذا المطرُ كلُّه؟ كيف سنحلم بعد بيروت. كيف سنكتُب؟ كيف سنقرأ؟ كيف سنعزف؟ كيف سنغنّي؟ وها إنّني أتطلّع إلى بيروت عبر كُوّة استغفلتِ الزّمن حتّى المُنتهى.
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم