الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

بعد الانفجار... تراث بيروت في مواجهة عواصف السماء، فكيف نحمي ما تبقى؟

المصدر: "النهار"
شربل بكاسيني
شربل بكاسيني
واحد من المباني التراثية المهددة بالسقوط في  مار ميخائيل (تصوير مارك فياض).
واحد من المباني التراثية المهددة بالسقوط في مار ميخائيل (تصوير مارك فياض).
A+ A-
في منزله الكائن في مار مخايل مقابل المرفأ المدّمر، يقف ناجي مسعود متأملاً شباباً فضوليين جاؤوا ليشهدوا اندثار جزء من الحضارة البيروتية. منزلٌ قديم العهد، شيّد مطلع الستينيات، "لم يعد صالحاً للسكن"، على ما يقول صاحبه، بالاستناد إلى تقرير هندسي توصّل إليه المسح الذي قادته البلدية. "مع العاصفة الأولى سيقع واحدٌ من جدرانه على الأقل".
 
منازل كثيرة باتت مشرّعة على احتمالات عدّة، إمّا التدعيم والترميم، وإمّا السقوط، وهو ما حدث بالفعل، مطلع الشهر، مع انهيار منزلين في الأشرفية. فللأمطار تأثير حتمي على المباني المتصدّعة، ويمكن أن تؤدّي إلى كارثة. وفي حديث لـ"النهار"، تقول المهندسة المعمارية المتخصصة في ترميم المباني التاريخية والأثرية، غريس ريحان حنّا، إنّ "الأمطار وما يترافق معها من سيول تتسرّب إلى المنزل عبر السقف الذي انهار قرميده، وعبر النوافذ والأبواب، بالإضافة إلى بعض التشققات في الجدران، تؤثر في أرضية الطوابق، وإن كانت مدعّمة، وفي أساس المنازل".
 
 
(تصوير مارك فياض).
 
للمطر والعواصف قوّة ضغط هائلة على الباطون والحجارة، وفي بلد لا يحترم المناخ والهواء، لا بدّ من تساقط أمطار حمضية مع بداية فصل الشتاء، وإن بكميات قليلة. هذه الأمطار تجعل حجارة المنازل هشّة، وأكثر عرضة للتداعي والسقوط.
 
 
منازل تراثية في مهبّ الريح
 
أجرت بلدية بيروت، في وقت سابق، مناقصة لتلزيم مشاريع ترميم الوحدات السكنية المتضررة، بعدما بيّن المسح الذي أجرته، أنّ هناك 170 مبنى مهدداً بالسقوط. وفي أحياء بيروت التراثية، ليست المباني التراثية وحدها المتضررة جراء الانفجار، بل أيضاً المنازل العادية التي شيّدت بحسب نمط عمراني كان سائداً في السبعينيات والثمانينيات، تضفي على الشوارع البيروتية طابعاً خاصاً.
 
في هذا الإطار، تشير آخر أرقام "الدولية للمعلومات"، إلى أنّ ما نحو 80 ألف وحدة سكنية في بيروت تضرّرت بفعل انفجار الرابع من آب، من بينها 65 ألف وحدة سكنية تقع في المحيط الأمامي للمرفأ (الكرنتينا، مار مخايل، الرميل، الجميزة، المدور، بشكل خاص) و25 ألفاً أخرى في المحيط الخلفي.
 
(تصوير مارك فياض).

سعت منظمة "إنقاذ التراث المبني في بيروت" (BBHR)، وهي خلية أزمة تضمّ مجموعة مهندسين، تشكّلت عقب انفجار المرفأ، بالتعاون مع وزارة الثقافة ومديرية الآثار وجمعية الحفاظ على الآثار واليونيسكو، وغيرها، إلى تدعيم المنازل التراثية المتضررة، بالدرجة الأولى. وتؤكد حنّا، رئيسة قسم الاتصال في الخلية، أنّ "نحو مئة مبنى تراثي كان بحاجة لتدعيم وحماية من الأمطار والعواصف، واستطعنا حتى اليوم إنجاز الأعمال الطارئة لـ85 في المئة منها".
 
تبقى الأولوية، طبعاً، للمنازل التي يقطنها مالكوها أو المستأجرون، والتي لم يتخلّ عنها أصحابها قبل الانفجار.
 
تقوم أعمال الحماية على تدعيم أساسات المنازل وأرضياتها، أولاً، ومن ثمّ تغليف الأسطح القرميدية والنوافذ والأبواب بقماش مشمّع (tarpaulin) وألواح الزنك، المعروفة بالـ"توتياء" (zinc panels)، إضافة إلى إقفال التشققات التي تشكّل منافذ لمياه الأمطار.
 
لا يمكن تصنيف منزل ناجي، ولا المنزلين اللذين سقطا تباعاً (الأول في منطقة المدوّر، إلى جانب مبنى حنا متري) في الأشرفية مع اشتداد العاصفة، منازل تراثية تقليدية. في هذا السياق، تشرح حنّا لـ"النهار"، أنّ "المباني التي شيّدت قبل العام 1930، أي في الفترة الممتدة من نهاية الحقبة العثمانية ومطلع حقبة الانتداب، تصنّف تراثية تقليدية، في حين تسمّى المباني التي شيّدت بين العام 1930 والعام 1950، مباني تراثية حديثة".
 
(تصوير مارك فياض).

معظم هذه المباني شيّد من الحجر الرملي الذي اشتهرت به بيروت قديماً، وهي مسقوفة بطبقة خشبية يغطيها القرميد لجهة الشمس، وطبقة خشبية من البغدادي المكسو بالجفصين. نمط العمارة هذا هو أكثر ما يجعل منزلاً تعرّض لضغط الانفجار سابقاً، عرضة للتصدّع والانهيار مع سقوط أمطار الساحل الغزيرة.
 
 
تهديد للذاكرة الجماعية؟
 
وضع المجلس الأعلى للتنظيم المدني أخيراً، المنطقة المتضررة تحت الدرس لمدة سنتين، بهدف مراقبة رخص البناء الجديدة، وتجميد المضاربات العقارية، في غياب دراسة شاملة للتنظيم المدني، تسعى للحفاظ على النسيج العمراني للأحياء البيروتية. وأحال المجلس الملف على بلدية بيروت لدراسته.
 
(تصوير مارك فياض).
 
في هذا الإطار، يشرح الرئيس السابق لقسم الهندسة المعمارية في جامعة الروح القدس- الكسليك، الدكتور أنطوان فشفش، أنّ "المجلس الأعلى للتنظيم المدني يدرس رخص البناء الجديدة، في حال وافقت البلدية، ويفلترها، لتحديد ما إذا كانت مضرّة بمخطط توجيهي مستقبلي". ويضيف: "لا يكفي وضع منطقة معيّنة تحت الدرس، فقد تمّ الأمر في بيروت سابقاً، وأزيلت المناطق لاحقاً"، مشدّداً على ضرورة "دراسة المنطقة لتحديد نقاط القوة ونقاط الضعف في التنظيم المدني، والمناطق التي يمكن زيادة الاستثمار فيها، ولحماية البيوت التراثية".
 
في العام 2017، أقرّ مجلس الوزراء مشروع "قانون حماية المواقع والأبنية التراثية" الذي عمل عليه وزراء ثقافة سابقون وأنجزه الوزير روني عريجي، وأحيل على لجنة نيابية مشتركة لمناقشته تمهيداً لعرضه على الهيئة العامة للبرلمان. لكنّه حتى الساعة لم يبصر النور، بعدما وقعت الكارثة العمرانية - الثقافية.
 
(تصوير مارك فياض).
 
يهدف مشروع القانون، على ما ذكرت أسبابه الموجبة، إلى إنصاف مالكي الأبنية القديمة التي تستحق التصنيف، من جهة، لئلا يتحمّلوا عبء حماية التراث الوطني بمفردهم، مع الحرص على عدم إلقاء أي تكلفة على عاتق الدولة، وإعطاء أصحاب الأبنية جملة من الحوافز التشجيعية لقاء الحفاظ عليها.
 
يشير عبد الحليم جبر، المهندس المعماري والعضو في اللجنة الاستشارية للمباني التراثية لدى وزارة الثقافة، إلى "تكامل بين مشروع القانون والتنظيم المدني. فالقانون يعمل على نقل عامل الاستثمار من عقار إلى عقار آخر، عبر (بيع الهواء)، أي 70 في المئة من قيمة العقار، ويسعى تعويض صاحب الملك عن إخلاء المبنى في حال الإيجار، وتقديم تعويض محترم للمستأجر، وعن القيمة المفقودة من الاستثمار، إضافة إلى دعمه مادياً لإنجاز أعمال الترميم، ولتسوية النزاع بين الورثة".

يرى جبر أنّ "لبنان دولة شبه مارقة، في ظلّ الحجر الاقتصادي وتجميد المساعدات"، في إشارة إلى أنّ "لا حلّ لأزمة المباني بعد الانفجار سوى عبر هذا القانون، الذي سنخسر ثلثي تراث بيروت في حال لم يتطبّق".

من حهته، يعتبر فشفش، أنّ "مشروع القانون غير كامل، لكنه أفضل الموجود، في غياب المخطط التوجيهي المدني لبيروت"، مبدياً تخوفاً من "احتكار في السوق العقاري".
 
(تصوير مارك فياض).
 
 
هل سيطبّق "قانون حماية المواقع والأبنية التراثية" على الجميع بالتساوي؟ الجواب: "لا". هل سيحمي النسيج السكاني للمناطق البيروتية؟ الجواب: "لا، لأنه قانون منبثق من وزارة الثقافة وهو معني بالأبنية بالدرجة الأولى"، يقول جبر. لكن، على إعادة الإعمار والترميم التركيز على العنصر المجتمعي، بالدجة الأولى، للحفاظ على عناصر النسيج الاجتماعي للأحياء البيروتية.
 
 
[email protected]
Twitter: @Charbecassini
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم