السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

"أجمل الأمّهات"... في نُبل سلمى مرشاق والدة لقمان سليم وجبروتها

المصدر: "النهار"
شربل بكاسيني
شربل بكاسيني
الباحثة سلمى مرشاق والدة الناشط الراحل لقمان سليم (تصوير نبيل إسماعيل).
الباحثة سلمى مرشاق والدة الناشط الراحل لقمان سليم (تصوير نبيل إسماعيل).
A+ A-
 
"وَيَجُوزُ فِي نَفْسِكِ سَيْفٌ، لِتُعْلَنَ أَفْكَارٌ مِنْ قُلُوبٍ كَثِيرَةٍ"
(لوقا 2: 35)

هادئة، رقيقة الملامح وصامتة، تجلس الكاتبة والباحثة سلمى مرشاق سليم على كنبة في صدر الطبقة الثانية من دارة العائلة، تستقبل صحافيّين وأصدقاء بابتسامة أنيقة ودمعة. 
تستوي سلمى على المقعد، تحدّق في عينَي القدر، بوجهٍ ساكنٍ وثياب سوداء وشعر أبيض، لتُعلن للعالم فقدانها ابنها لقمان.

"خسرتُ صديقي"، تقول سلمى بلهجة مصرية. تنتقي كلماتها بدقّة في وصف رجلٍ ما كان ابناً فحسب، بل جمعتهما "علاقة فكرية" قويّة. تُدرك حجم الخسارة وتتعامل معها على أنها خسارة وطنية، بل أكثر من ذلك، حتّى المكتبة العربية خسرت لقمان الذي عرّب أشعاراً فرنسية وأسّس "دار الجديد" للنشر، وغيرها من المشاريع التي أراد منها إعلاء شأن المجتمع اللبناني وانتشاله من المستنقع.
 
في تصريحٍ صحافي، انسابت دمعة مع عين سلمى، مع أنّ ابنتها رشا كرّرت مراراً أنها لن تبكي. "فشر"، كانت تقول. ومع ذلك، جاءت الخسارة أكبر من أن تتحمّلها الأم، فقالت بحسرة: "ذبحوني. غرزوا خنجراً في صدري". أيقنت كلّ الحقائق، إلّا أنّ سؤالاً واحداً أرادت له جواباً: "ماذا استفادوا؟". تقول داعيةً للحوار بدلاً من العنف: "ضيّعوا طاقة كانت موجودة في لبنان... فماذا استفادوا؟".

رقيٌّ في خضمّ النكبة. سيّدة الجبروت والنبل وسط الإعصار. تحترم سلمى عمق الموقف الوطني، كاظمةً الألم بعد أن فوّضت أمرها لله لعدم تعويلها على القضاء، محافظة على المستوى العالي في التعبير. "شهادتي بابني مجروحة"، تقولها وتبكي. يسود الصمت الدار، إلّا من تنهّداتها.

لكلّ كلمة تتلفّظ بها سلمى وقعٌ صارخٌ ورنّة أشبه بدفوف جنازة، تُعلن أنّ الجاني مصيره بائس. وهي تُدرك أنّ وراء المنفّذ آمراً وتعرفه جيّداً، جيّداً.

بطلةٌ هي هذه الأم! في منزل بيروتي يغصّ بالكتب وافترشت زواياه وشرفاته وحديقته أنواع شتّى من النبات والشجر، تقف في وجه القاتل وتقول له إنها ما زالت هنا، وإنّ ابنها لم يمُت. في منتصف عقدها التاسع، خسِرت سلمى رفيقها الذي شجّعها على كتابة بحثها عن شوام مصر، والذي كان نتاجُه كتابين عن أديبين مصريين من أصول لبنانية، نقّبت سلمى طويلاً في مكتبات المعهد الألماني للبحوث الشرقية والجامعة الأميركية في بيروت، وجامعة القديس يوسف، عن سيرتهما وإرثهما الثقافي، وهما نقولا الحداد وابرهيم سليمان الحداد، المعروف باسم ابرهيم المصري.

منذ زواجها في العام 1958 من المحامي الراحل محسن سليم، لا تزال تُقيم في حارة حريك، سيّدة بروتستانتية من شوام مصر، شاهدة على زوال بساتين الليمون والليلك وحقول الكينا في الضاحية الجنوبية لبيروت، واقتحام الخرسانة الباهتة والميّتة المشهد الحضري. بقيت دارة سليم واحة ثقافية في كبد الاضمحلال والقحط، وبعد رحيل لقمان، بقيت سلمى وابنتها رشا الأمير صامدتين في وجه تحوّل البشر إلى "وحوش"، كما تصف القتلة.

لعلّ أقدس ما في الوجود، رحَم الأمّ ودمعها. وفي حضرة دموع سلمى، أمّ الشهيد، تنحني الأقلام. أحاول منذ البارحة رصف الكلمات ووصلها لوصف جبروت هذه السيدة المتنوّرة، من دون جدوى، هي التي قالت مع رحيل ابنها: "العالم صعب، لكن العالم مش لازم يكون مجرم". صَدق من قال إنّ في الصمت بلاغة. في عينَي سلمى شمس متَّقدة تشرق كلّما عاد لقمان طفلاً بين يديها وسميراً بين أوراقها. وهل تهتف النجوم لدى شروق الشمس؟ تتكوّر، تختفي، فقط. تختفي.

ماما سلمى، نحن أبناؤك.
 
Twitter: @Charbecassini
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم