الأربعاء - 08 أيار 2024

إعلان

ممرضون يستعيدون أصعب اللحظات في ليلة 4 آب..."يستحيل أن ننسى فظاعة المشهد"

المصدر: النهار
كارين اليان
كارين اليان
النهار
النهار
A+ A-

من منّا استطاع أن ينسى هول المشاهد التي تبعت انفجار مرفأ بيروت في 4 آب، الذي بدّل حياة اللبنانيين إلى الأبد؟ مشاهد الدم والدّمار والأضرار طُبعت إلى الأبد في ذاكرتنا. أمّا من كانوا في صفوف المواجهة فيختلف المشهد لديهم؛ ولهذا التاريخ المفصلي معانٍ أخرى في حياتهم.

ممرضون وممرضات يتحدّثون عن لحظات لا تُنسى حفرت إلى الأبد في ذاكرتهم!

 

مسؤولة التمريض في مستشفى الحريري: هذه اللحظات أصعبها في تلك الليلة

 

تتذكّر مسؤولة قسم التمريض في مستشفى الحريري الحكومي رولا عيتاني ليلة الانفجار بوجع يتجدّد يومياً مع هذه الذكرى، التي تعود إلى ذهنها حيث لا تغادر. فالمشاهد التي شكّلها الانفجار بدمويّته في تلك الليلة لن تزول يوماً، وهي تعود أكثر قوّة في هذه الذكرى السنويّة الأليمة.

في ذلك اليوم، كانت عيتاني قد غادرت المستشفى، لكنّها ما كادت تصل إلى منزلها حتى أعادها صوت الانفجار لتكون بقُرب أولى الإصابات، وتروي: "عندما وصلت كان الجرحى يصلون بأعداد كبيرة إلى المستشفى، وبدأنا نشهد أولى الحالات الصعبة. بمجرّد وصولي، دخلت الحالة الأولى الصعبة لشاب كثيرة إصاباته، بسبب الزجاج المهشّم فوق رأسه، فلم نتمكّن من إنقاذه، بالرّغم من محاولاتنا وتصميمنا. كان الجرحى يصلون بأعداد غير متوقّعة، وبشكل لم نعهده من قبلُ بتاتاً".

تعود عيتاني إلى تلك السّاعات الصّعبة التي مرّ بها القسم في مستشفى الحريري، والتي زاد في صعوبتها أن المستشفيات المتضرّرة المحيطة بموقع الانفجار كانت تُرسل ما لديها من الحالات؛ ما جعل الأعداد كبيرة إلى حدّ لم يَر الفريق الطبّي مثيلاً لحجمها في أيّ وقت سابق.

فقد كانوا يصلون، ولا أحد يعرف عنهم شيئاً أو عن ملفّاتهم، ما كان يزيد من التحدّيات؛ وكان صعباً أن العاملين في المستشفى كان لهم أفراد من أُسرهم مصابين، وكانوا يصلون إلى المستشفى للمعالجة.

اللحظات كافة كانت صعبة، كما هو متوقع، لكنّ أصعبها - بحسب عيتاني - قد تكون تلك اللحظة التي بحث فيها أحدهم عن شقيقه في الطوابق كلّها، فيما كانت إحدى الجثث المجهولة موجودة في المستشفى، ولم يعلم الشاب أنها تعود إلى شقيقه المفقود؛ وكانت الفاجعة لدى اكتشافه ذلك. كانت هذه من التجارب الصعبة التي لا يُمكن أن تُنسى.

طوال الفترة التي تلت تلك الليلة، كانت عيتاني تجد صعوبة في النوم، فتعود إليها المشاهد الدمويّة التي رأتها، وصورة الجثث، والمصابين الذين لم تُكتب لهم النجاة.

وتذكر هنا إحدى الممرضات الشابات، التي كانت في القسم منذ 6 أشهر تقريباً، ولم تستطع أن تحتمل ما ترى، فتمّ إرسالها إلى منزلها من هول ما رأت، وكانت أوّل من تلقّى الدعم النفسي في المرحلة التي تلت الانفجار لشدّة الانهيار، الذي تعرّضت له، والأذى النفسي الذي يصعب وصفه. "صور المتضرّرين في  تلك الليلة ترافقني باستمرار، وتبدو لي دوماً تلك الليلة أشبه بكابوس مررنا به".

مسؤولة قسم التمريض في المستشفى اللبناني - الجعيتاوي: مشاهد من خارج الواقع لا يمحوها الزمن

 

كانت مسؤولة قسم التمريض في المستشفى اللبناني - الجعيتاوي سينتيا أبي خليل، الذي يُعتبر من أكثر المستشفيات تضرّراً بالانفجار، في طريقها إلى منزلها عندما دوّى الانفجار؛ فسرعان ما استقلّت دراجة نارية لتتمكّن من العودة إلى المستشفى للمساعدة. منذ الدقائق الأولى التي وصلت فيها بدأ وصول المصابين تتابعاً، وكان هول المشهد يزداد مع كلّ حالة إضافيّة.

لم تتوقّع أن تكون الأضرار في المستشفى بهذا الحجم، فقد تساقط الزجاج والأسقف فوق رؤوس المرضى الراقدين في أسرّتهم، بما في ذلك قسم الطوارئ الذي كان قد تهدّم.

مع وصولها، رأت المصابين كلّهم في مرأب السيّارات، فكانت حالة طوارئ قصوى، وأحضرت المستلزمات من المستودعات لإسعافهم، وتقول "كنت أرى الدماء على وجوه الممرّضين وملابسهم، وهم يسعفون المصابين، وأجهل دم من كان هذا.

ففي الواقع، كانوا مصابين بشكل بالغ، ويُحاولون إسعاف الجرحى في الوقت نفسه، فرحت أطلب أيضاً تقطيب جروحهم التي تنزف بشدة. رحنا ننقل الجرحى بالشراشف لعدم توافر وسائل أخرى".

تصعب مقارنة المشاهد في تلك الليلة بأيّ مشاهد أخرى يمكن رؤيتها في الحياة. في الواقع، تصفها أبي خليل بكونها أصعب مشاهد رأتها، فمنظر الأمهات والآباء الذين يُحضرون أبناءهم المضرّجين بدمائهم لإنقاذهم يعتصر القلوب ويُدميها؛ والأشد ألماً من ذلك المشهد وصول الأهالي وإخبارهم بالحقيقة المرّة، بعد أن يكونوا قد بحثوا عن مفقوديهم في مختلف المستشفيات.

وكان هناك "آخرون يطلبون إعادة النظر في اللوائح للتأكّد ما إذا كان مفقودهم فعلاً غير موجود في اللائحة؛ وكنّا نبكي حين نراجع اللوائح للتأكّد. في تلك الأوقات، اضطررنا إلى فصل العاطفة عن العقل، وما من حلّ آخر كان لدينا. فالمشاهد كانت خارجة عن الواقع، ولا قدرة لأحد على السيطرة".

تتذكر أبي خليل أمّاً وصلت مع أطفالها إلى المستشفى وهي مصابة، وراحت تتوسّل الاهتمامَ بأطفالها أوّلاً، فتمّ إنقاذ أطفالها، لكنها لم تنج هي، بالرّغم من كلّ المحاولات لاحقاً. و

الشعور الأبشع - بحسب أبي خليل - أن الفريق الطبي كان مرغماً على ترك مَن ليس لديه أمل بالنجاة، والاهتمام بمن يُمكن إنقاذهم. هذا كلّه لا يمكن أن يُمحى من ذاكرة أحدٍ ممّن عاش هذه التجربة.

فقد طُبعت تلك المشاهد في ذاكرة الكلّ، وفي ذاكرة اللبنانيين لأجيال على حدّ قولها. أمّا اليوم، فقد عاد الفريق الطبي في المستشفى ليقف على قدميه، وعاد بناء المستشفى بفضل عزم الإدارة والفريق وكلّ من قدّم الدّعم، فيما يبقى الأثر النفسي الذي لا يُمحى وقصص الناس التي لا يمكن أن تزول من الأذهان.

بتأثّر شديد، تتذكّر أبي خليل أهالي الضحايا الذين حضروا إلى المستشفى ليشكروهم على جهودهم لما أنجزوه، فكانت لحظات مؤثرة هي أهمّ عربون تقدير تلقّوه في حياتهم. ومن تمّ إنقاذه بعد الانفجار عاد بعد أشهر أيضاً ليشكرهم، وليؤكّد أنّه أصبح بخير وقد عاود حياته.

 

الممرض المجاز سيدريك شيبان: بالرّغم من بشاعة ما شهدناه أتذكّر أيضاً لحظات جميلة أنقذنا فيها كثيرين

 

مع الإعلان عن خطّة الطوارئ، توجّه الممرض المجاز في مستشفى أوتيل ديو دو فرانس سيدريك شيبان سريعاً إلى المستشفى لتلبية النداء، بالتزامن مع وصول أوّل الجرحى بعد دقيقتين من الانفجار، فيما استقبل المستشفى في تلك الليلة 600 أو 700 مصاب، في مقابل 100 مصاب يستقبلهم كحدّ أقصى في الأيّام العادية خلال 24 ساعة، كما يوضح. كان المستشفى الأقلّ تضرّراً في المنطقة، وكان يستقبل مصابين يُنقلون إليه من المستشفيات الأخرى المتضرّرة في محيط الانفجار، ما كان يزيد من الضغوط على الفريق. 

يروي شيبان: "أتذكّر أنّي وصلت إلى المستشفى، ورأيت الدّم يغطّي المكان، ولم يكن لدينا أمكنة لمعالجة المصابين، فرحنا نعالجهم على الطاولات والمكاتب، وقد انتشرت تلك الصورة حينها عبر وسائل التواصل الاجتماعي. كانت رائحة الدم تفوح في المكان، ولا أزال أشمّها إلى اليوم كما لو كنت في ليلة الانفجار".

بالرّغم من التدريبات التي يتلقّاها فريق التمريض لحالات الطوارئ، كما في حالة حصول انفجار، يذكر شيبان أنّ ما حصل في 4 آب خياليّ، ولا يُشبه أيّ حدث آخر أو حالة يُمكن مواجهتها.

رؤية الجثث التي يتمّ تخطّيها لمعالجة المصابين كانت من أصعب اللحظات التي مرّ بها، ويجد صعوبة في وصفها، وكذلك حال الاضطرار لدى الفريق إلى تصنيف المرضى بين من يَمكن إنقاذهم ومن يعتبر الأمل بإنقاذهم مفقوداً. المشهد كان في غاية البشاعة، على حدّ قوله، لكنه كان حقيقيّاً، وإن كان أشبه بكابوس. وكانت العاطفة قد وضعت جانباً حكماً في مثل هذه الحالات الطارئة، حيث لا بُدّ من معالجة الحالات التي يُمكن إنقاذها أولاً للاستفادة إلى أقصى حدّ من الإمكانيّات المتوافرة، والتي لا تُعتبر كافية. كانت هذه الطريقة الوحيدة لإنقاذ العدد الأكبر من الناس، ما بدا في غاية القسوة في ذاك الوقت.

ويُضيف: "من اللحظات الصعبة لي أيضاً تلك التي كان يتوسّلني فيها الأهل لمساعدتهم على إيجاد شخص عزيز مفقود، وأنا لا أعرف الأسماء. فبالنسبة لنا كلنا، في الساعات الأولى كان المصابون والجثث من دون هويّة، ولا نعرف أسماءهم. فلم يكن عندي أيّ جواب حتى أساعد في ذلك".

يتذكّر شيبان كلّ تفصيل في تلك الليلة، ولا يمرّ يوم لا يُعيد إليه هذه الذكرى الأليمة. وكلّ زاوية في المستشفى تذكّره بمصاب وتفاصيل كثيرة في حياته تعيد إليه الذكريات كافّة. وبالنسبة إليه، كلّ ما تعلّمه في كلية التمريض والبروتوكولات التي توضع تسقط أمام كارثة كهذه لم يكن أحد حاضر لها.

في المقابل، بالرّغم من هول ما عاشه في تلك الليلة، يعود ويتذكّر الأشخاص الذين استطاع أن ينقذهم، وأولئك الذين استطاع طمأنتهم، وهم في حالة رعب، ومن مختلف الأعمار، فاستطاع أن يشعرهم بالأمان؛ ولذلك يشعر بأنّه استطاع أن يحدث، كممرّضٍ، فرقاً في حياة آخرين، بالرّغم من هول الواقع.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم