الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

في ذكرى 4 آب

تمثال الشهداء في وسط بيروت (تصوير نبيل اسماعيل)
تمثال الشهداء في وسط بيروت (تصوير نبيل اسماعيل)
A+ A-
إيلي حداد

نقترب اليوم من الذكرى المشؤومة. ذكرى الكارثة التي حلّت بالمدينة. جزء من تاريخها بتره الانفجار الغاشم الذي لم يكن مجرد نتيجة تفاعلات كيميائية لمواد متفجرة بقدر ما هو نتيجة ممارسات مافيوية لسلطة إجرامية، لم تتوان عن محاولاتها المتكررة لمواجهة التحقيق القضائي باعتبارات طائفية قبلية تعود الى القرون الوسطى.
ما هي الحصانة في وجه "جريمة ضد الانسانية" كتلك التي حصلت في 4 آب 2020؟ ألا ترقى هذه الجريمة الى هذا الوصف، على الأقل مثل تلك التي حصلت في 14 شباط 2005؟ هل علينا أن نقارن الاضرار الجسدية والمعنوية والمادية كي نعترف على الأقل بأن جريمة 4 آب هي التي تستحق ذلك التوصيف وفي المرتبة الأولى؟
في المقارنة بين الحدثين، فإن جريمة 14 شباط كانت بالتأكيد عملية إرهابية موصوفة عن سابق تصوّر وتصميم، فيما جريمة 4 آب ما هي سوى نتيجة طبيعية لنهج سياسي بدأ منذ 1990 واستمر حتى اليوم، يرتكز على مبدأ التحاصص الطائفي بين مجموعات مختلفة تحتكر التمثيل الشعبي وهي تنقسم قسمين: مجموعات استمدت شعبيتها من دورها خلال الحرب الأهلية، ومجموعات أخرى قديمة وجديدة تتشكل من الاوليغارشيات الاقتصادية. هكذا تم التحالف والتواطؤ بين زعماء الميليشيات من جهة والمسيطرين على الاقتصاد من جهة أخرى لإنتاج نظام نيوـ ليبيرالي مبني على الفساد وعلى مبدأ اللامحاسبة. وقد تجلت هذه "الشراكة" التي انضم اليها لاعبون جدد بعد تحولات 2005، في اسوأ مظاهرها، في إطار ما يسمّى بمرفأ بيروت.
مرفأ بيروت هو صورة مصغّرة عن الدولة الفاسدة، حيث أدى تضارب المصالح والسلطات الى غياب القدرة الفعلية على مراقبة هذا المرفق العام، وحيث كان المستفيدون من غلاته يغضون الطرف عن اقترافات الآخرين، بما فيها تخزين المواد المتفجرة وتهريبها، الى أن وقع الحدث المشؤوم.
هذا إن ثبتت فرضية الاهمال غير المتعمد، ولم تظهر احتمالات أخرى تشير الى أعمال إرهابية مرتبطة بالحروب الاقليمية.
عوض أن يسقط كل أركان هذا النظام الفاسد بعد "جريمة القرن" هذه، عاد اركان المنظومة الفاسدة، منهم من داخل الحكم ومنهم من خارجه، الى التنسيق في ما بينهم لصد أية محاولة لكشف الحقيقة ومحاسبة المسؤولين. وقد تكون الحقيقة، كما بدأ يشير البعض، تتعدى مسألة الفساد "الطبيعي" الذي تعايشنا معه لتصل الى أبعاد سياسية إقليمية.
كيف لنا أن ننسى ما حصل في ذلك اليوم المشؤوم؟ عمارات بأكملها انهارت في أحياء تاريخية، المئات قتلوا، والآلاف جرحوا وتشردوا. كيف لنا أن ننسى صور المأساة في كل مكان، ومقاطع أفلام كاميرات المراقبة في مستشفى القديس جاورجيوس، والجرحى في الطرق؟ كيف لنا أن ننسى صور الضحايا، والبعض منهم كان له وقع مباشر علينا، فرأينا فيه صور اطفالنا وأخوتنا وأمهاتنا؟ كيف لنا أن ننسى مأساة شهداء الدفاع المدني، الذين أرسلوا الى حتفهم وهم لا يدركون ماذا ينتظرهم؟ كيف لنا أن ننسى المدينة الشهيدة التي أسقطتها أيدي الفساد والمحاصصة والاجرام وهي اليوم تكمل عملها في اغتيال الوطن وشعبه، بروح من اللامبالاة والاستخفاف، تحاول التغطية عليها بالتعاطف الكاذب والدعوات الإلهية.
لقد دمرت جريمة 4 آب أحياء الاشرفية والجميزة ومار مخايل وأغلبية سكانها من المسيحيين، إلا أن الضحايا كانوا من كل الطوائف ومن كل الوطن. هنالك من سقط وهو جالس في منزله "البورجوازي" في أحد أحياء الاشرفية، وهنالك من سقط وهو يسعى الى لقمة عيشه في مرفأ بيروت ليعود الى أطفاله في إحدى الضواحي الفقيرة من بيروت. لقد وحّدت هذه المأساة اللبنانيين من كل الأطياف ومن كل الفئات الاجتماعية، فأحدثت زلزالاً سياسياً لم يصل بعد الى خواتمه.
لقد وحّدت هذه الجريمة أكثرية الشعب اللبناني حول قضية العدالة، باستثناء أولئك المتحصنين بحصاناتهم وأزلامهم وأتباعهم، وفرزت جريمة 4 آب الشعب قسمين: قسم يطالب بالعدالة من أجل إحقاق الحق إحتراماً للقيم الانسانية، وقسم آخر يطالب بطيّ الصفحة كي يستمر في أعماله الاجرامية وفي استغلال سلطاته لسرقة المال العام وبناء امبراطوريته الزائلة. لا يمكن لهذا الوطن أن يبدأ بالنهوض من كبوته، إن لم تحرّك هذه المجزرة الكبرى مبدأ العدالة والمحاسبة هنا على الأرض، وليس الاتكال على أية عدالة أخرى، إلهية أو ما ورائية. لا يمكن أن يبقى مجرمو هذا الزمن فوق العدالة يسرحون ويمرحون فيما الآلاف من ضحاياهم هم شهداء أحياء، والأكثرية الصامتة من هذا الشعب البائس شاهدة على جرائمهم.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم