السبت - 27 نيسان 2024

إعلان

الطريق الى الاستقلال الثالث

المصدر: النهار - رنا هاشم
يحلّ عيد الاستقلال الـ٧٨ على لبنان هذا العام في ظلّ أزمة وجودية سياسية واقتصادية واجتماعية مركبة ومعقدة
يحلّ عيد الاستقلال الـ٧٨ على لبنان هذا العام في ظلّ أزمة وجودية سياسية واقتصادية واجتماعية مركبة ومعقدة
A+ A-
يحلّ عيد الاستقلال الـ٧٨ على لبنان هذا العام في ظلّ أزمة وجودية سياسية واقتصادية واجتماعية مركبة ومعقدة، باتت تهدّد أسس وكينونة البنيان الوطني، وتمهّد لتغيير وجه وعقل لبنان، وربما جسده، الى الأبد.
لن أكرر في الأسطر القليلة المتاحة لي اليوم تفاصيل الانهيار المالي والاقتصادي الذي ضرب البلاد منذ نهاية العام ٢٠١٩، وما نتج عنه من مآس اجتماعية في طول البلاد وعرضها، حيث أدخل ما يزيد على ٨٠% من أبناء الشعب اللبناني المقيمين في دائرة الفقر والعوز.
كما لن أدخل في هذه الأسطر القليلة في تفاصيل السياسات والاستراتيجيات والتكتيكات السياسية والطائفية وحتى الأمنية التي ابتدعتها ونفّذتها المنظومة السياسية الحاكمة، بمختلف أحزابها ووجوهها، لمحاولة القضاء على الانتفاضة الوطنية الشبابية التي اندلعت في تشرين الأوّل ٢٠١٩، أو على الأقلّ للحدّ من آثارها السياسية والاجتماعية التي كان من الممكن والمأمول أن تُسهم في تغيير وتطوير الوعي السياسي والوطني لدى فئات واسعة من اللبنانيين، بما في ذلك لدى من كانوا تاريخيّاً من مؤيّدي ومريدي أحزاب وتيارات المنظومة.
ما أبغيه من مطالعتي المختصرة اليوم، هو تقديم مقاربة عصرية لمفهوم الاستقلال والسيادة الوطنية في كوكب بات أكثر عولمة وترابطاً في القرن الحادي والعشرين ممّا كان عليه في القرنين الماضيين اللذين شهدا نشوء معظم حركات الاستقلال والتحرّر الوطني في وجه الهيمنات الأجنبية بمختلف أشكالها الاستعمارية والأمبريالية والانتدابية والپان - شيوعية، واللذين أطّرا المفهوم الكلاسيكيّ لمصطلحي السيادة والاستقلال الوطنيين.
فباعتقادي أنّ إحدى أبرز العقبات أمام تطوير الشراكة والهوية الوطنية المتآلفة في لبنان، بما يسمح بوضع البلاد على السكّة الصحيحة نحو التقدّم المنشود، وهي عقبة تواجه أيضاً العديد من بلدان العالم النامي الأخرى، تكمن في استمرار هيمنة مفهوم جامد للسيادة والاستقلال على العقلية السياسية لدى جزء معتبر من الطبقة السياسية والفكرية المؤثرة في بلورة السياسات الوطنية.
وقد انعكس هذا الجمود في فشل معظم حركات التحرّر الوطني الناشئة في الدول المستقلة حديثاً في القرنين التاسع عشر والعشرين، من تحقيق التقدّم السياسي والاقتصادي والاجتماعي المنشود لشعوبها بعد الاستقلال، بما يتوافق على الأقلّ مع حجم التضحيات التي بذلتها تلك الشعوب للتخلّص من الهيمنات الخارجية بأشكالها المختلفة.
فتحوّل العديد من حركات التحرّر الى أحزاب وسلطات أحادية فاسدة قامعة لشعوبها تستخدم في كثير من الأحيان أذرعها العسكرية والأمنية والقضائية لفرض رؤياها ومفاهيمها الفكرية والإيديولوجية على المجتمع دون ايّ اعتبار للحريات الإنسانية الأساسية.
لا بل استُخدمت في كثير من الأحيان حجّتا الحفاظ على السيادة والاستقلال لقمع معارضيها الوطنيين والحقوقيين ملقية عليهم تهم الخيانة والعمالة للاستعمار حيناً والأمبريالية أحياناً، مما حوّل العديد من تلك الدول المستقلة حديثاً في العقود اللاحقة الى "دسيتوپيات" فاشلة سياسياً واقتصادياً بشعوب إمّا سجينة ومستعبدة وإمّا مشرّدة ولاجئة في أصقاع ومحيطات الأرض، وللمفارقة في معظم الأحيان باتّجاه البلدان التي ضحّت سابقاً للتخلّص من نير هيمنتها واستعمارها.
لقد كان الأمل يحدونا في أن تُسهم التجارب الاستقلالية الفاشلة العديدة الآنفة الذكر، لاسيّما في محيطنا الجغرافي المباشر، في تطوير الأفق والرؤية السياسية لدى الأحزاب والتيارات اللبنانية المتنوعة التي حكمت لبنان بالتشارك بعد العام ٢٠٠٥، والتي، لكي نكون منصفين، ساهم العديد منها بشكل أو بآخر منذ العام ٢٠٠٠ في تحقيق الاستقلال الثاني عبر تحرير الأرض من الاحتلال الإسرائيلي من ناحية، أو عبر تحرير السلطة الوطنية من الهيمنة السياسية للنظام السوري من ناحية أخرى.
إلّا أنّ آمالنا اندثرت بسرعة بعد العام ٢٠٠٥، ونحن نشهد تكرار أحزاب وتيارات المنظومة السياسية المتحكّمة حديثاً لأخطاء مثيلاتها في أصقاع العالم النامي، عبر انقضاضها على جسد واقتصاد الدولة المنهك، بعد ثلاثة عقود من الحرب الاهلية والاحتلالات الاجنبية المختلفة، لينهش كلّ منها قطعته الخاصّة في محاولة لإشباع الجوع المزمن لقياداتها وازلامها على حساب مستقبل الوطن وشعبه، دافعة البلاد نحو الافلاس المالي والاقتصادي والسياسي والاجتماعي الذي نشهده اليوم، ومساهمة في موجة هجرة جماعية جديدة لنخبة البلاد العلمية والثقافية والفكرية، قد نحتاج لعقود لتعويض الخسائر الناتجة عنها.
لا بل قامت المنظومة اللبنانية بعد اندلاع انتفاضة ١٧ تشرين ٢٠١٩ بتقليد ممارسات واساليب انظمة التحرّر القمعية المشار اليها آنفاً، فاستخدمت ذات الادوات الامنية والقضائية والميليشياوية لقمع المنتفضين وترهيبهم، ولجأت الى الخدعة القديمة بإلقاء تهم العمالة للخارج على المنتفضين والجمعيات المدنية المؤطّرة لهم، بهدف شيطنتهم وطنياً وشعبياً في محاولة لتخيير المواطنين بين "سلطة وطنية سيادية" ولو فاسدة، وبين بديل "عميل للخارج والاستعمار"، ولو حمل شعارات الحرية ومكافحة الفساد. كما استخدمت الاساليب اللبنانية التقليدية عبر التجييش الطائفي لمناصريها والتخويف من الآخر والترويج لنظريات المؤامرة على الوجود.
يبدو انّ ما لا تدركه المنظومة السياسية الحاكمة هو أنّ أدوات القمع الكلاسيكية واتّهامات العمالة التقليدية في عالم القرن الحادي والعشرين الصغير والمعولم لم تعد بذات الفعالية التي كانت تتمتع بها في منتصف القرن العشرين، لا بل باتت في كثير من الاحيان مثاراً للسخرية والاستهزاء، وفي أحيان أخرى باتت تؤدّي الى نتائج عكسية عبر إضعاف الانتماء الوطني لدى شرائح واسعة من المواطنين، لاسيّما الشباب منهم، الذين اصبح كرههم وازدراؤهم للسلطة الفاسدة المتواطئة ورموزها يؤثر للأسف على احترامهم لوطنهم وعلى ثقتهم بمستقبله وبمستقبلهم فيه.
وبالتالي، أعتقد انّه بات ملحّاً على جبهة المعارضة الوطنية اللبنانية، بتلاوينها كافة، ونحن على أبواب معركة انتخابية مصيرية العام المقبل، أن تجابه المنظومة السياسية الحاكمة في ملعبها، وأن تتبنّى مصطلحي السيادة والاستقلال بشكل كامل في خطابها السياسي والتعبوي، إنّما بمفهومهما الحديث والمعاصر الذي يحتمّ على أيّ نظام سياسي وطني مستقلّ أن يحقّق السلام والازدهار والكرامة للشعب والوطن الذي يديره، عبر بناء مؤسسات دولة قادرة وقويّة يسود عبرها حكم القانون وتتحقّق من خلالها المساءلة والمحاسبة، بما يجعلها قادرة على بناء مجتمعات حديثة طبيعية مستقرّة متطلّعة إلى المستقبل، وقادرة على توفير آفاق أفضل لشبابها من تلك التي قدّمتها لشيوخها.
هذا المفهوم المعاصر للسيادة والاستقلال يسعى أيضاً الى تأمين الحقوق الاساسية المنصوص عنها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان للمواطنين من افراد او جماعات، وتتقدّم فيه المصلحة الوطنية على ما عداها من مصالح طائفية وحزبية وإيديولوجية، ولا يسمح بتحويل الوطن الى ساحة تتواجه فيها المحاور الاقليمية والدولية على حساب أمن وكرامة وازدهار شعبه.
إن مواجهة المنظومة السياسية الحاكمة والتغلّب عليها في صناديق الاقتراع، ولو بعد حين، سيكون بحدّ ذاته فعل تحرّر وطنيّ، وسيؤمّن لشعبنا استقلاله الثالث الناجز، وبالتالي فقد بات ملحاً على قوى المعارضة الوطنية أن تتحوّل فعليّاً الى حركة استقلال ثالث وقوّة تحرّر وطنيّ تتجاوز، في الوقت الحاضر على الأقلّ، الاختلافات الإيديولوجية الطبيعية بين مكوناتها وتياراتها، لكي تصبّ جهدها على إنجاز الاستقلال الثالث المنشود.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم