الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

الصراخ بالكتابة

المصدر: النهار - صبحي شحاته – مصر
تهيمن مفردات الحرب على لغة قصائد ديوان
تهيمن مفردات الحرب على لغة قصائد ديوان
A+ A-
تهيمن مفردات الحرب على لغة قصائد ديوان "قبرٌ في الأرض/قبر في السّماء"، إصدار دار أبعاد، لبنان بيروت، إذ يكتب الشاعر في المقدمة:
"النص الذي لا يجرح مخيلتي، عند قراءته،
النص الذي لا يترك بداخلي كدمة، لا أريده". (ص 6)
ويضيف في نهاية الكتاب: أريد أن أكتب نصوصًا قاتلة، ولا أقصد المعنى المجازيّ للكلمة، بل أبحثُ عن نصوصٍ حين تُقراُ، تنفذ كرصاصة من عين القارئ إلى مُخيّلته".(ص 111)
لا يرفض الخضر الحرب إذن، إلا التي تفضي إلى الموت والخراب، ويقبل الحرب المحيية، خالقة العالم على صورة جديدة.
وذلك لأن الحوادث المميتة التي عاشها، ويرجع إليها في الماضي، صارت دليلًا له يعرف منها، إن كان نجا الآن من الموت وصار حيًا، أم لا، وهل وصل إلى مرفأ، أم مازال يتخبط في عبث الأرض. وهو لا يخشى الموت بل يراه متعة، وخلاصًا من الأشياء التي نكرهها، والتي نحبها أيضًا. "اليوم لن ترسو المراكب، وتلك العتمة بين السماء والبحر نكتةٌ باهتة لم تجد مَن يضحكُ في وجهها، وتلك النجوم لاجئة لم تجد من يستقبلها فهامت على وجوهها".
..
ويستطيع الشاعر الساخر من الموت أن يدخن سيجارة على جثة الألم، ويطفئها في عينه، وأن يترك الوقت يدونه، كأنه قطعة من خردة، ويبكي عابثاً ليستجدي جدوى من اللاجدوى، ويضحك حتى لا يأخذه الموت على غرة.. "كل مياه البحر وزرقته لم تستطع انقاذ سمكة صغيرة، ابتلعت الطعم".
إن الغربة لا تجعل ذاكرة للعابرين، والوحدة لا تجعل لكف اليد فائدة، فمن تساعد، والكل عابر، لذا وحدها الطريق إلى الحبيبة، تسافر به إلى الوراء. هكذا يعثر الشاعر على كائن محبوب، يستحق العيش في ذاكرته.
"أمر في بالك كما تمر زجاجة حادة في يدِ طفل
وتمرينَ في بالي كالرصاصة".
يهيم الشاعر في شوارع بيروت، بين أعمدة نور تبكي، وشواطئ متعبة، ووجه المدينة يرشح بؤسًا، "وحيدًا أُصافح الموت بكفي المثقوب".
ولكن ما فائدة العين المثقفة التي حكم عليها أن تحدق دائماً في الأسى، يجب على الشاعر إذن أن يغيّر المنظور، ويتعلم النظر إلى الجمال، إن وجِد، أو يخلقه خلقًا، فلماذا يبقى شجرة يابسة تنتظر من يقطعها، ليلقيها في الموقد بعد أن بات رجوعها إلى الغابة مستحيلًا.
إن الحياة صارت صفيحًا باردًا يتقلب عليه الشاعر بلا نوم. بينما يركض لاهثًا بداخله وحشٌ، يحاول الخروج بمخالبه وأنيابه. والشاعر لا يفتأ يركض وكل شيء طعمه مُرٌّ في فمه، ويتوقف لحظة يرقب جرذًا سحقته العربات، لم يحمله قرفًا، واكتفى بشتم السائقين القُساة. ويعاود الركض ككائن مهدد بالانقراض.
وينتظر حبيبته التي هي مدينته ووطنه وذكريات طفولته ولعبهما معًا بالقطارات التي صنعوها من علب السردين، والطائرات الورقية، وقصور الجليد، ينتظرها كسترات النجاة التي رماها اللاجئون على الشواطئ، وكمانيكان يبكي ويضحك بلا شعور:
"عيناي ترقبانكِ من كل الثقوب التي أحدثتها الحرب في حارتنا".
ولا يبقي وسط الخراب والزيف إلا التعب، حقيقة وحيدة معترف بها، والعيش بلا طائل كما تعيش الأشياء ديكوراً يكمل المشهد، فالحزن له باب واحد، والفرح مخادع، ولو غادر الله الكون، لبقي الجميع يصلي. فلا شيء واضح صريح في هذا العبث والموات.
"تركت حياتي تحدث أمامي كمشاجرة
لم أتدخل لفضِّها، ولم أكُن طرفًا فيها".
والشاعر الذي اعتاد الألم، فصار غير مؤلم، كلما خرج إلى الحياة، يفقد شيئًا دون علمه أو شعوره، حتى بات بيته لا يعرفه، إن جاء إليه، أو غاب.
لم يعد هناك في الخارج سوى الغبار وأشلاء الموتي، والشاعر تائه يسأل عن رب هذا الموت الغباري الكاسح، وينام صريعًا ثقيلًا كالعائدين من المعارك. ويضحك من جنون الموت، والمقاتلات تلحق صوته، والمدرعات تشق صدره، والمدافع تصرخ، غارق بالدم والبكاء.. ذاكرة الشاعر المليئة بالجثث صارت مجزرة، وصار هو منافقا كافرًا يصلّي لقاتله.
"أشعر بالموت يتسلل كالدفء في راحة يدي
فأرفعُها
سلامًا لمن أبادوا أهلي
ذبحوا جثتي وأطعموني لحمها".
هكذا صار تقطيع الجسد، ليس بفعل آلات القتل الحربية، التي تسود ميادين الموت، وإنما بفعل يومي للشاعر اعتاده، يفكك جسده، ويعيد تركيبه، فالألم لم يعد ألمًا.
ويطلب من وحدته أن ترحل عنه آخذة معها كل شيء: صمته الطويل ومراسلاته مع رزان، وفرشاة أسنانه وقميصه البني وكيس القمامة، بل يتخلى لها عن يده الأخرى، لعلهما تجدان شخصاً آخر غيره، أكثر ظرفًا منه، عندما يكون وحيدًا.
وهاهو الشاعر في المحرقة يصرخ:
أسقطت رأسي في البئر
زرعت مكانه شجرة
مخاطبًا شعبي: انتحروا جميعًا
لكي يجد السجان نفسه وحيدًا بين جدران سجنه
لكي يصبح الجلاد عاطلًا عن العمل
اريحوا القاتل من مهنته المتعبة".
لسنا أمام مجرد ديوان شعر جميل، وإنما أمام صرخة، توثيق لصرخة ضد الحرب والعبث والجنون التي مازالت تحيط بنا هنا والآن.



الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم