الإثنين - 17 حزيران 2024

إعلان

الذكاء الاصطناعي التوليدي وقع في فخ التنميط والانحياز في اختياره ملكة جماله الافتراضية

المصدر: "النهار"
الذكاء الاصطناعي.
الذكاء الاصطناعي.
A+ A-
غسان مراد
 
خلصت مسابقة ملكة جمال الذكاء الاصطناعي التوليدي إلى منح اللقب لمجسم افتراضي [افاتار Avatar] يحمل المواصفات النمطية للجمال الأنثوي الغربي، في الملامح والقوام. فإلى أيّ آفاق سيوصلنا الذكاء الاصطناعي إذا لم نتعامل مع تطبيقاته باحتراس؟
يبرز هذا السؤال وغيره ضمن النقاشات الكثيرة التي تطرح في ظل التحول الرقميّ. فبعد التزييف العميق والتلاعب بسلوكيّات الأفراد وممارسة الاحتيال الرقميّ وغيرها من الأمور التي تتيح للمستخدم أن يمارس كل ما يحلو له من خلال تطبيقات الذكاء الاصطناعي، اتجهت الأنظار نحو مسابقة ملكة جمال الذكاء الاصطناعي التي حصلت افتراضياً في 10 أيار – مايو 2024. وبغضّ النظر عن الرابحة "المولدة" رقميًّا، بين اختيار تلك الملكة مدى التمييز الجنسي والعرقي والأخلاقي الذي "تبتدعه" هذه التطبيقات، وتظهر لنا طبيعة البيانات التي تُدرّب عليها التطبيقات، لأنّنا نعلم أنّ ما يُولد هو تكرار وبشكل منظّم للبيانات التدريبيّة.
 
أنشأت هذه المسابقة شركة Fanvue، وهي منصّة مشابهة لـ OnlyFans، بالشراكة مع World AI Creator Awards، يحصل الفائز فيها على جائزة قدرها 5000 دولار أميركي، بالإضافة إلى 8000 دولار أميركي كرعاية إعلانيّة. ويجرى التحكيم بناءً على ثلاثة معايير: المهارات الفنيّة لمن أنجز الفتاة الـ"أفاتار"، وحجم متابعيها على شبكات التواصل، ومظهرها. أمّا لجنة التحكيم فقد تألّفت من مجسمين افتراضيّين وحكمين بشريّتين.
وإذا نظرنا إلى أفاتارات الفتيات المشاركات، التي صنعت بواسطة الذكاء الاصطناعي التوليدي، نرى أنّ جميعها تنويعات نمطية على صورة المرأة الغربيّة الشقراء، ذات القدّ الممشوق، والشعر الأشقر أو المائل إلى الذهبي، الأرجل الطويلة، وغيرها من كليشيهات الصور التي نراها على شبكات التواصل والـ"إنستغرام" لفتيات "الفوتوشوب" وصفحات المجلّات الإعلانيّة. هذه النمطيّة للجمال لا يمكن أن تعبّر أو أن تُعتبر ممثلاً للجمال في العالم. فقد اختارت تطبيقات الذكاء الاصطناعي الجمال العالمي على صورة المرأة الغربيّة التي من الصعب أن نراها في الواقع. هذه الممارسات ستؤدّي بنا، شرقًا وغربًا إلى تضخيم التحيّزات الموجودة حاليًا في المجتمعات كافّة، وإلى وضع المرأة ضمن قيود معياريّة مفبركة لا تمتّ إلى الواقع بصلة. فما هي تبعات هكذا أعمال؟
أوّلًا تجب الإشارة إلى أنّه كلّما زاد عدد الشقراوات اللواتي يولّدها الذكاء الاصطناعي، كلّما زاد إنتاجه في المستقبل، لأنّ بياناته الخاصّة تؤخذ في الاعتبار لإبداعاته المستقبليّة.
 
أمّا مَا هي هذه الـ"أفاتار"؟ فقد وضعوا لها أسماء وأشكالاً لصور رمزيّة. مثلًا إحداها سمّيت ديانا ريتر، وهي مؤثّرة افتراضيّة يتابعها ما يقارب الـ500000 مشترك واقعي على شبكات التواصل. وكذلك توجد مرشّحات أخريات صنعن بالطرق الفنية للتقنيات الافتراضية، وبأجسام نمطيّة متشابهة. وفي المقابل، فمن شبه المؤكّد أنّ خلف النساء اللّواتي يولّدهن الذكاء الاصطناعي... رجالاً.
 
نحن نعلم أنّ البيانات التي تدرّب عليها البرمجيات تختار أشكالاً معيّنة من ملايين الأشكال والصور التي جرى وضعها بناءً على شيفرات و"كودات" معلوماتيّة محدّدة. والخيارات للصور تكون دائمًا من بين صور لعارضات الأزياء وملكات الجمال وغيرهّن من المؤثّرات في "السوشيال ميديا"، بالإضافة إلى التعليقات النصية عليها وما يكتب عن صورة المرأة وجمالها. من هذه المعلومات يتعلّم البرنامج، ويقوم بجمع هذه الخصائص في صورة نمطيّة محدّدة. كما أنّ توليد الصور يأتي من خلال الطلب الذي حدّده المُشارك في المسابقة. على سبيل المثال، يطلب المستخدم من إحدى التطبيقات التوليديّة، توليد صورة لفتاة ذات خصر بقياس معيّن لمحيطه، وأرجل محدّدة بطول ما، وذات شعر أشقر بلاتيني وغيرها من التوصيفات. وبعد ذلك، يبدأ البرنامج بناءً على هذا الطلب بالتنقيب عن هكذا خصائص داخل البيانات المخزّنة في جعبته والتي تدرّب عليها. وبالتالي فإنّ "التطبيقة" ستقوم بنسخ البديهيّات والكليشيهات الموجودة بالفعل لما يجب عليه أن تكون ملكة جمال. لذلك غالبًا ما ترى الشقراوات ذات الأجساد الممشوقة والأرجل الطويلة جدًّا في هذه المسابقة.
 
التحيّز الرقميّ
وبالرغم من الإنجاز الرقميّ، فإن هذه الأعمال التقنيّة لن تنجح في إخفاء المشاكل الأخلاقيّة والتبعات النفسيّة التي يشكّلها في الواقع هذا النوع من الصور الرمزيّة. إذ لا شكّ أنّ هذا التحيّز الرقمي يعزّزه الإنسان من خلال تحديده لمعايير الجمال.
ويجري تدريب الخوارزميّات على المحتوى المتاح مجانًا عبر "الإنترنت". ولذلك، فهي تتغذّى على النصوص والصور والأعمال وتعليقات المنتديات والأفلام الموجودة في العالم الرقميّ، والتي تمثّل في حدّ ذاتها مرآة مكبّرة لتحيّزاتنا. كما تمّ تصميم هذه الخوارزميات لإزالة "الحالات الخاصّة" والاعتماد فقط على المِلفّات الشخصيّة التي تظهر أكثر من غيرها وتشكّل "ترند" على الشبكة.
 
بتنا على يقين أنّ الذكاء الاصطناعي التوليدي، بالصورة التي يُدرب فيها وكذلك بالطرق التي يستخدم فيها، يمتلك تحيّزات جنسيّة وعنصريّة، ويغذّي "الرجعيّة" المفرطة باتجاه صورة المرأة. ونتذكر ما حصل من قرابة سنتين، حينما قامت تطبيقات الذكاء الاصطناعي بتصنيف الجمال عالميًا لما يُقارب الخمسين جنسيّة، وخفّضت حينها من جمال أصحاب البشرة غير البيضاء! وما أثارته في حينه من تساؤلات حول الركون إلى التطبيقات في كلّ شيء، ما يؤدّي بنا إلى هلاك الإنسان وإنسانيّته.
 
وبالتالي، نقول إنّ الخوف من تطبيقات الذكاء الاصطناعي التوليدي، ليس ممّا ستفعله التطبيقات بالبشريّة، بل الخوف هو من البشر وما يفعلونه من خلال هذه التطبيقات! وقد تجسد هذا الخوف من خلال المسابقة بالخشية من أن يصبح معيار الجمال عند نصف سكّان الأرض من النساء هو ما تنتجه هذه التطبيقات ومَن خلفهم طبعًا. هذا التناسق في الوجوه هو أمر مستحيل في الواقع. هذا الابتذال الرقمي سيمحو الاختلاف أو السمات غير النمطيّة. هو نوع من إنشاء واقع واحد فقط، محدّد. هذه هي الرؤية الأحاديّة التي تحاول شركات التقنيّات GFAM (الـ"غافام" -غوغل، آبل، فيسبوك، أمازون وميكروسوفت- وغيرها كـ"تشات جي بي تي" و"إكس") أن تحبسنا فيه بهدف السيطرة على أفكارنا وتصرّفاتنا، وهكذا تكون إمكانيّة السيطرة علينا وتسييرنا أسهل. فالخوف ليس من أن يسيطر الحاسوب على البشر، بل أن يصبح الإنسان كالحاسوب. هو نوع من الاستنساخ السلوكي الذي يؤدّي إلى أحاديّة الرؤية بما يناسب المنصّة. هذه هي ثقافة صنّاع التقنيّات التي تعمل في محاولة تهدف إلى انقراض الاختلاف البشري، التي هي من أهمّ سمات البشريّة وتعدّديّتها جينيًا وثقافيًا وجماليًا. فلكلّ فرد في هذا العالم بصمته الخاصّة وثقافته الخاصّة التي يجب الحفاظ عليها، كي لا تضيع بين بيانات صنّاع الرقمنة ومن يديرهم من وراء كواليس السياسية. فالخوف هو أن نفقد جزءًا كاملًا من تنوّع العالم بسبب الذكاء الاصطناعي.
 
من منظور عِلم النفس فإنّ هذه الصور المفبركة سيكون لها تأثير أكبر على المراهقات، والنساء، في الأخصّ غير المحترسات رقمياً، والمراهقات اللواتي ما زالت تقديراتهنّ لذاتهنّ غير مكتملة وهشّة. لذلك، من الممكن أن تؤدّي هذه الآليات إلى اضطرابات نفسيّة وخلل في البنية الذاتيّة والشعور بالنقص ومحاولة تقليد هذا النمط المزيّف. ما سيدفعهن إلى ممارسة التمظهر والتلاعب بصورتهن وتزييفها والتقوقع والخوف من الظهور بصورة غير تلك التي باتت نمط الجمال العالمي، وسيحبسون أنفسهم في فقاعات المعلومات التي يتابعنها التي تعتبر حلقة مفرغة تشبه المتاهة التي سيكون من الصعب الخروج منها بسهولة.
 
فحتى لو عُرف أن الصورة غير واقعيّة، فإنّ المقارنة بينها وبين الذات ستكون حاضرة، لأنّ الدماغ البشري سيقوم من خلال اللاوعي بمعالجة المعلومات كصورة حقيقيّة، حتى ولو تمّ تحديد أنّ الأمر ليس كذلك... هذه هي طبيعة الإنسان، فالخوف هو من التنميط وشيوع هذه الصور المزيّفة لدرجة سيعتقد أنّها هي التي باتت الواقع. وهذا ما سيؤدّي إلى ضياع في هويّة الفرد عندما يضيع بين العالم الافتراضي والعالم الواقعي ولن يكون باستطاعته التمييز بينهما.
ففي العديد من صور "الأفاتار" النسائيّة المعروفة، والموجودة على شبكات التواصل، إنّ متابعيها كُثر ولها آلاف "الفانز"، والعديد منهم يسألونها عن حياتها وجمالها...
 
ماذا علينا أن نفعل للحدّ من ذلك؟ أوّلًا، لا يكفي بناء محتوى رقميّ تكون فيه البيانات غير متحيّزة، بل علينا أن ندرّب هذه التطبيقات على هذه البيانات، لكي لا نحصل دائمًا على التحيّز في الإجابات.
ثانياً، لا يمكن ألّا نقع في مطبّات التزييف إلّا من خلال فهمنا للتقنيّات والاحتراس منها. فالتطبيقات تفيدنا في العديد من الأمور ولكنّها تُستغل في عمل الشر عندما توضع في يد شرّير.
 
وقد يطرح البعض سؤلاً عن وجوب سنّ تشريعات تحظّر التمثيل البشري للذكاء الاصطناعي لأنّ العواقب وخيمة للغاية. ويأتي الرد بأن ذلك سيكون صعباً بالفعل. ويرجع ذلك إلى أنّ الهاجس الأكبر لدى مصنّعي التقنيّات ومَن خلفهم من سياسيّين، يتمثل أساساً في مَنْ سيسبق مَنْ في صراع الذكاء الاصطناعي ويسيطر على العالم والبيانات، وهذا ما نشهده من مشادات وتصريحات بين الولايات المتحدة والصين حول "تيك توك" وغيرها من التطبيقات...
 
وأخيرًا، نشير إلى إنّ هذه المسابقة واجهت نقدًا لاذعًا من العديد من النساء في العالم الغربي والشرقي، ما دفع بإحدى المُحكمتين البشريتين، (مؤرّخة مسابقة ملكة الجمال "سالي-آن فوسيت") إلى الردّ والدفاع على الانتقادات، في مقابلة مع مجلة "فوربس"، قائلةً إنّ الأمر لا يتعلّق بامتلاك قوام ممشوق وصورة جسد خيالي، بل إنّ لدى المبدعين في الذكاء الاصطناعي فرصة لتغيير نظرة الجمهور إلى المرأة باستخدام الذكاء الاصطناعي، وتأمل أيضًا أن تلعب دورًا في ذلك من خلال اختيار فائزة تمثّل العالم الحديث.
 
إذن كما نرى، إنّ اعتبار هذه المسابقة كفرصة للتغيير يوحي لنا إلى أين يتّجه عالم بعض البشر؛ لذلك، علينا معرفة كيفيّة التحكّم بالآلة قبل أن تتحكّم به.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم