الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

أيّ دور للبنانيين في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي؟

المصدر: "النهار"
تعبيرية (النهار)
تعبيرية (النهار)
A+ A-
غسان صليبي
 
جرى إعداد الموازنة تزامنا مع المفاوضات بين الثنائي الشيعي وباقي أطراف الحكومة حول العودة عن تعطيل اجتماعات مجلس الوزراء. حملت الموازنة في مضمونها ذهنية المفاوضات، فجاء هذا المضمون كأنه للتفاوض عليه أيضا، لا سيما المادة ١٠٩ التي أعطت صلاحيات تشريعية مالية استثنائية لوزير المال. فما الذي تغيّر حتى يعود هذا الوزير ويطلب إلغاء المادة، لأنه من "الأفضل الإبقاء على صلاحية مجلس الوزراء بتقديم اقتراح إلى المجلس النيابي، عملا بأحكام الدستور التي تنيط بالمجلس النيابي حق التشريع خاصة في القضايا المالية." لماذا مخالفة الدستور ومن ثم الإقرار بأنه "من الافضل" عدم مخالفته؟ لا جواب الا أن المفاوضات بين أطراف الحكومة اقتضت ذلك، هذه المفاوضات المتلازمة مع آليات المحاصصة التي تحكم علاقة أطراف السلطة.
 
تجري المفاوضات على بنود الموازنة، في ظل فتح مفاوضات على جبهات عدة، دفعة واحدة: جبهة المفاوضة مع صندوق النقد الدولي، وجبهة المفاوضة على ترسيم الحدود مع إسرائيل، وجبهة المفاوضة مع المجلس الوزاري العربي حول المطالب الخليجية من لبنان.
 
عادة، عندما تُفتح مفاوضات عدة، دفعة واحدة، يحتاج الأمر إلى إطار اوسع للوصول إلى تبادل التسويات بين المفاوضات المتعددة، والوصول إلى أرض مشتركة في ما بينها. ويبدو أن هذا الإطار هو مفاوضات فيينا في شأن النووي الايراني، الذي دخلت فيه الولايات المتحدة وإيران في مفاوضات مباشرة منذ اقل من اسبوع، إضافة الى المفاوضات الملحقة بين السعودية وإيران.
 
يصعب التصديق أن هذا التقاطع بين جميع هذه المفاوضات هو مجرد مصادفة. لكن مهما كان الامر، على اللبنانيين التعامل معها ومع نتائجها كأنها شبكة واحدة من المفاوضات.
 
اللبنانيون اليوم هم للأسف خارج دائرة التأثير على هذه المفاوضات، باستثناء الثنائي الشيعي و"التيار الوطني الحر"، وميقاتي كرئيس للوزراء. وعند هؤلاء الاطراف الأربعة لا علاقة للقواعد الشعبية الحزبية بما يجري، فهذا حكر على القيادات التي تنتمي الى الفئات الميسورة. اللبنانيون يتفرجون على ما يدور من حولهم، وينتظرون الفرج، الذي تتزايد الشكوك في شأن حلوله في وقت قريب.
 
ما يهمني في هذا النص تحديدا هو التساؤل حول كيفية التأثير في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي، التي ستلخّص ماليا، على ما اعتقد، نتائج المفاوضات الأخرى.
 
المعضلة، الوجودية اذا صح التعبير، مع صندوق النقد الدولي، هي في كون الحاجة اليه، بحجم الخوف منه. البلاد تحتاج إلى دعم مالي في ظل الانهيار المالي والاقتصادي، الثالث عالميا في حجمه، بحسب البنك الدولي. وهذه المساعدة الدولية لن تأتي بدون مشاركة صندوق النقد، كما ظهر جليا من التصريحات الواضحة للاميركيين والاوروبيين والخليجيين.
 
مصدر الخوف من صندوق النقد الدولي هو في عدم صدقيته التاريخية في ما يتعلق بالخطط التي نفذها في بعض البلدان، أكان على مستوى النمو الاقتصادي، أو على مستوى تحسن معيشة المواطنين. يتضاعف هذا الخوف بسبب التأثيرالاميركي على سياساته، واحتمال استخدام هذه السياسات لأغراض أميركية.
 
رغم عدم اتضاح عناصر خطة صندوق النقد بالنسبة للبنان، في انتظار اكتمال خطة التعافي التي تعدها الحكومة، أصبح شبه مؤكد أن مقاربته تتضمن ما هو ضد مصلحة السلطة، وما هو ضد مصلحة الشعب. فتحت عنوان "الاصلاحات" المطلوبة من السلطة، هناك إجراءات تشكل رقابة على فساد السلطة وسرقاتها وهدرها للمال العام، وهناك إجراءات تطال معيشة المواطنين، من خلال رفع الرسوم والضرائب وتقليص حجم القطاع العام. يبقى ان نعرف ما هي المعالجات التي ستطرح لسد الفجوة المالية ولمصلحة من ستكون، المصارف أو المودعين، وماذا سيكون أيضا مصير أصول الدولة ومؤسساتها العامة.
 
علت أصوات من بعض القوى الحزبية ومجموعات الانتفاضة رافضة التفاوض مع صندوق النقد. للمفارقة أن الأصوات نفسها تطالب بإسقاط السلطة بجميع اركانها، هذه السلطة التي ستصبح طليقة اليدين إذا لم يجرِ التعامل مع صندوق النقد، ودون أن يكون للسلطة أو لمجموعات الانتفاضة اي مشروع فعلي لوقف الانهيار. رفض تدخل صندوق النقد، ربما كان صحيحا في بلاد تحكمها سلطة تراعي مصالح شعبها ويريد صندوق النقد فرض شروطه عليها مقابل مساعدتها لتخطي ديونها، وحيث يكون أمام السلطة بدائل عن تدخل الصندوق، مقبولة شعبيا. وهذا ما كان مطروحا في اليونان مثلا ايام حكم حزب سيريزا، لكن هذا ما عجز عن تحقيقه سيريزا نفسه في ظل الضغوط الأوروبية ومحدودية البدائل.
 
في الآونة الأخيرة بدأت تعلو أصوات تطالب صندوق النقد بإشراكها في إبداء الرأي في مضمون المفاوضات: رئيس نقابة المهندسين طالب بموعد من صندوق النقد، "كلنا إرادة" قدمت مذكرة لصندوق النقد ضمّنتها بعض المطالب. وكانت "جبهة المعارضة اللبنانية" قد سبقت الجميع واسهبت في شرح رأيها في المفاوضة مع السلطة وأخطار ما يطرح من حلول على حساب المودعين. حتى أن ممثل جمعية التجار نقولا شماس رفض "الانبطاح" أمام صندوق النقد، دفاعا عن مصالح التجار ضد بعض الإجراءات التي يطالب بها الصندوق.
 
هؤلاء الأطراف تبلورت مواقفهم في شأن ما يطرح على طاولة المفاوضات مع صندوق النقد، وها هم يطالبون بأن يكون لهم رأي في ما سيجري الاتفاق اليه، أي عمليا أن يكونوا شركاء في المفاوضات ولو بطريقة غير مباشرة. فالصندوق بحسب القانون يتفاوض مع السلطة الرسمية. هذه خطوات جيدة يجب معرفة تطويرها بغية إجبار الصندوق على إشراك أصحابها في المفاوضات بطريقة أو بأخرى. اعتقد ان صندوق النقد بحاجة لإشراك طرف ثالث في المفاوضات بهدف الضغط على الحكومة للقبول بإقرار الإصلاحات التي لا تريد إنجازها حفاظا على مصالحها. فإذا كانت استراتيجيا الحكومة إقرار الموازنة الخالية من الإصلاحات الكفيلة بمراقبة السرقة والحد منها، "قبل" الاتفاق مع صندوق النقد على خطة التعافي، فإن من مصلحة هذا الأخير ومعه معظم اللبنانيين، أن تتم العملية بالتوازي، لا سيما أن الموازنة يجب أن تكون جزءا من خطة التعافي وليس العكس. لكن من جهة أخرى، قد لا يرغب صندوق النقد بإدخال طرف ثالث يحمل معه مطالب مهنية –قطاعية تعيق مقاربته لتقليص الأعباء الإجتماعية.
 
بعض الجهات النقابية الرافضة التعامل مع صندوق النقد، لم تلتقط بعد للاسف نقاط الاختلاف والتمايز بين الصندوق والسلطة، فذهبت إلى حد تسمية الحكومة بـ"حكومة صندوق النقد الدولي". مع الاشارة الى ان أطراف السلطة أنفسهم ليسوا متفقين على الأرجح على كيفية التعامل مع صندوق النقد، فبعضهم لا يزال ربما معارضا للمفاوضات ويحبذ فشلها، بغية فرض خيار "التوجه شرقا" لمعالجة الأزمة.
 
من المفيد التوقف عند مبادرة قام بها الاتحاد الدولي لنقابات الخدمات العامة، مع نقابات المؤسسات العامة (كهرباء، مياه، ضمان اجتماعي وغيرها) المعنية بما يُطرح من مشاريع لخصخصة هذه المؤسسات أو لتحقيق نوع من الشراكة بين القطاعين العام والقطاع. ستكون هذه المشاريع بالتأكيد على طاولة المفاوضات بين الحكومة وصندوق النقد، وعلى العاملين في المؤسسات العامة أن يتداركوا الأمر وأن يستعدوا للتفاوض أو للضغط من أجل الدفاع عن حقوقهم وعن ديمومة المؤسسات التي يعملون فيها.
 
بالفعل، عقدت نقاباتهم ورشة عمل توافقت خلالها على خطة ترمي إلى إصلاح القطاع العام بالتوازي مع الحفاظ على حقوق العاملين، مع التركيز على إبقاء ملكية المؤسسات للدولة، لكن مع الحد كليا من هيمنة الوزراء على الإدارات وتفعيل هيئات الرقابة. الشراكة مع القطاع الخاص لم تُستبعد بالمطلق، لكن المخاوف الكبرى منها ناتجة من فشل التجارب السابقة من جهة، والاحتمال الكبير لدخول أطراف السلطة في هذه الشراكة بلباس القطاع الخاص، مما يعرض المقاربة بأكملها للفشل.
 
أهمية هذه المبادرة لا تكمن فقط في تحرك أصحاب المصلحة للدفاع عن حقوقهم وفرض انفسهم كمفاوض أساسي حول قضاياهم، بل أيضا في فتح الأعين حول أهمية دعم المنظمات النقابية الدولية للنقابات المحلية في اي مفاوضات مع المنظمات الدولية المالية، فهي الأقدر على تنظيم ضغوط عليها بحكم موقعها الدولي، أكان ذلك عبر الضغط المباشر أم عبر التأثير في الدول صاحبة القرار فيها.
 
على أصحاب المصلحة، وفي طليعتهم النقابات- النقابات العمالية ونقابات المهن الحرة- وكذلك رابطة المودعين ومجموعات الانتفاضة، أن يوحّدوا جهودهم ليفرضوا مشاركتهم في مسار المفاوضات مع صندوق النقد، عبر الوسائل كافة. ويبدو أن عملية التنسيق قد بدأت، ومن شأنها ان تساعد على الانتقال من الدفاع عن مصالح قطاعية الى الاتفاق على السياسات العامة. مع ضرورة الافتراض ان فرض المشاركة في مسار المفاوضات قد لا يتم بدون الضغط في الشارع.
 
من المهم في هذا السياق تذكير المجلس الاقتصادي الاجتماعي بأن ليس عليه البقاء متفرجا على ما يجري، بل المبادرة الى تنظيم حوار في إطاره، وليس ندوات، تنتج منه مقترحات تقدم إلى الحكومة. ومن مسؤولية الاتحاد العمالي العام، الشريك في هذا المجلس، الحث على الاقدام على هذه الخطوة.
 
حبذا لو كان بالإمكان تنسيق الجهود لمواكبة المفاوضات على كل الجبهات، وطرح ما هو في مصلحة الوطن والشعب، أكان بالنسبة لترسيم الحدود مع إسرائيل أو بالنسبة لتطبيق القرارات الدولية التي تحفظ السيادة الوطنية. ليس واضحا بعد في اي اتجاه تريد القوى الدولية والإقليمية الدفع بهذه المفاوضات المتشابكة: نحو الصدام الداخلي أو نحو تسوية جديدة بين الأطراف السياسيين يباركها ماليا اتفاق مع صندوق النقد؟
 
وإذا كان الهدف مرحليا هو تأجيج الصراع في الداخل اللبناني، مع أو ضد "حزب الله"، كنتيجة للمبادرة الكويتية – الخليجية -الدولية، فمن الصعب توقع مآل هذا الصراع. فهل نحن ذاهبون نحو تدويل للازمة وتطبيق القرارات الدولية واتفاق الطائف عبر مجلس الأمن الدولي، ام أن الهدف الأسمى لهذه المفاوضات المتشابكة هو خلق المناخ المناسب لترسيم الحدود مع اسرائيل، كهدية ثمينة من إيران لأميركا، مقابل الاتفاق النووي والاعتراف بنفوذها في المنطقة وفي لبنان، مع ما يمكن ان يرافق ذلك من استثمار مشترك للثروة المائية، التي يمكن أن تصبح المصدر المالي لنظام ريعي في لبنان على شاكلة الأنظمة الخليجية الفارسية والعربية؟ مواقف الدول الغربية غير المبالية بكشف اسرار إنفجار المرفأ وما تسبب به، تذبذب المبادرة الفرنسية، الضغوط الدولية والخليجية على لبنان بحجة "ساعدوا انفسكم حتى نساعدكم"، استكمال سياسات أوباما تجاه إيران والمنطقة مع بايدن، ومصلحة إسرائيل في استمرار الصراع السني الشيعي، كلها عوامل تدفعني إلى الاعتقاد بأن السيناريو الأخير هو للأسف الأكثر احتمالا.
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم