الجمعة - 10 أيار 2024

إعلان

سقوط "داعش" سيناء... ماذا يحدث في أرض الفيروز؟

التطرف في سيناء. (تعبيرية)
التطرف في سيناء. (تعبيرية)
A+ A-
عمرو فاروق
 
أطل علينا تنظيم "داعش" في سيناء الأيام الماضية بإصدار جديد تحت عنوان "نزيف الحملات"، مدعياً فيه تحقيق نجاحات توسعية داخل الأراضي السيناوية، والنيل من عتاد المؤسسة العسكرية المصرية، التي أدارت حرباً شرسة ضد معاقل الإرهاب تحت لافتة "العملية الشاملة في سيناء" بالتنسيق مع قوات إنفاذ القانون والشرطة المدنية منذ شباط (فبراير) 2018.
 
اعتمد "داعش" سيناء على مشاهد قديمة نسبياً في صناعة محتوى الإصدار المرئي في محاولة للتغطية على فشله وسقوطه ومحاصرته الأمنية التي كبدته الكثير من الخسائر المادية والبشرية، والقضاء على عناصره المؤثرة والفاعلة، العسكرية والأمنية والإعلامية والشرعية، وقطع الاتصالات بين عناصره في الداخل والخارج، ما أثر بشكل مباشر في البنية الهيكلية للتنظيم وفاعليته، وقدرته على مواصلة عملياته الإرهابية، فضلاً عن تَراجُع قوته الإعلامية بعد تدمير مراكزه الإعلامية، والتي عثر داخلها على العديد من أجهزة الحواسب الآلية ووسائل الاتصال اللاسلكية والكتب والوثائق والمنشورات المتعلقة بالفكر التكفيري المسلح. 
 
الفترة الزمنية الفاصلة بين "العملية الشاملة في سيناء"، والبيان "الداعشي" المتهاوي، ثلاث سنوات تقريباً، تمكنت خلالها القوات المسلحة المصرية من تدمير البنية التحتية للتنظيم الإرهابي من الأوكار والخنادق والأنفاق ومخازن الأسلحة والذخائر والعبوات الناسفة والاحتياجات الإدارية والمراكز الإعلامية ومراكز الإرسال، والتي كانت منتشرة بشكل مُكثَّف، في شمال سيناء ووسطها منذ عام 2014 (وما قبلها)، لا سيما مثلث رفح العريش الشيخ زويد.
 
انهيار فكرة التمركز الجغرافي للعناصر الإرهابية داخل سيناء دفعها للاتجاه نحو استراتيجية "الذئاب المنفردة" و"الخلايا الإنغماسية" التي تسعى الى تنفيذ عمليات عشوائية لتحقيق أكبر قدر من المكاسب بأقل التكاليف، وتمنحها القدرة على البقاء والاستمرارية في إطار سياسة النفس الطويل، واتساقاً مع ما يسمى بـ"حرب العصابات"، أو "حرب البرغوث والكلب"، وهي عمليات تدخل في إطار"حروب الشوارع"، أو"حروب المدن"، بعيداً من المعارك النظامية، واستراتيجيات المواجهة المسلحة التقليدية، ورغم ذلك باءت غالبيتها بالفشل نتيجة يقظة الأجهزة الأمنية في توجيه الضربات الاستباقية التي أجهضت معاقل التنظيم وبنيانه.
 
كان المقصد الأول للأجهزة الأمنية المصرية، في القضاء على تنظيم "داعش" المعروف إعلامياً بـ"ولاية سيناء"، العمل على قطع طرق الإمداد المالي واللوجيستي للعناصر التكفيرية ومحاصرة الشبكة المالية التي مثلت عوناً لتنفيذ العمليات المسلحة داخل الأراضي السيناوية أو في العمق القاهري، من طريق إحكام الرقابة المالية على تحويلات الأموال من الخارج إلى الداخل المصري، ما يترجم قلة عملياته الإرهابية.
 
لم تتوقف "العملية الشاملة في سيناء"، على تأمين الحدود الشرقية الشمالية، لكنها أمتدت لتشمل كل المنافذ الحدودية والأهداف الحيوية والاستراتيجية الأخرى، منها تأمين الحدود الغربية والجنوبية، وإعاقة تمركز العناصر التكفيرية المسلحة في الصحراء الغربية ومدن صعيد مصر، ومنع تحويلها ممرات لتوريد الأسلحة والذخائر التي يتم استخدامها في تنفيذ العمليات الإرهابية، وذلك من طريق تكثيف الضربات على الاتجاهين الغربي والجنوبي، مع تمشيط الطرق والمدقات الجبلية لملاحقة العناصر التكفيرية، بتنسيق مشترك بين قوات حرس الحدود والقوات الجوية. 
 
نتيجة للجهود المبذولة، أصبحت الدولة المصرية خارج قائمة الدول العشر الأكثر تأثراً بالإرهاب، وفقاً لتقرير مؤشر الإرهاب العالمي، الصادر عن مركز "السلام والاقتصاد" للدراسات، (أحد المراكز البحثية الكبرى المعنية برصد ومتابعة مؤشرات الإرهاب حول العالم)، إذ جاءت في المرتبة الحادية عشرة عام 2018، بينما كانت في التاسعة عام 2017، بعد أن شهدت تقدماً ملحوظاً في مكافحة الإرهاب.
 
أرجع المؤشر هذا التقدم إلى جهود الجيش المصري في مكافحة الإرهاب، وخفض عدد الضحايا خلال عام 2018 بنسبة وصلت إلى 90 في المئة مقارنة بعام 2017.
 
وكان تعاون قبائل سيناء مع القوات المسلحة والشرطة المصرية، بمثابة نقطة فاصلة في معركة استئصال العناصر التكفيرية المسلحة وملاحقتها وإعاقة توطينها داخل أرض الفيروز، رغم معاناتها واستهداف الكثير من ابنائها سواء بالقتل أم الخطف نتيجة تقديمها الكثير من المعلومات حول الخلايا "الداعشية" الكامنة. 
 
في إطار التضييقات الأمنية على الشريط الحدودي، أصبحت حركة العناصر التكفيرية منعدمة بشكل كبير داخل مثلث العريش رفح الشيخ زويد، نتيجة إنشاء جدار "العريش الجنوبي"، المزود ببوابات وكاميرات مراقبة وأجهزة إلكترونية، فضلاً عن تنفيذ حرم المطار الآمن (مطار العريش)، وتدشين ارتكازات عسكرية حصينة بشكل عرضي جنوب المدينة.
 
في ظل تلك التضييقات الأمنية تحولت مدينة بئر العبد وقراها مقصداً للعمليات الإرهابية، لأسباب كثيرة منها، أنها تمثل مركزاً للتيار الصوفي، المناهض بقوة للتيارات السلفية الجهادية، وقد شهدت أكبر مذبحة في تاريخ مصر على يد العناصر التكفيرية، في مسجد الروضة اثناء صلاة الجمعة في تشرين الثاني (نوفمبر) 2017، وأسفرت عن 305 شهداء و128 مصاباً.
 
تضم مدينة بئر العبد، عدداً من القبائل التي لعبت دوراً وطنياً على مدار التاريخ المصري الحديث، أمثال قبيلة السواركة، وقبيلة البياضية وعشائرها المختلفة، وقبيلة الأخارسة، وقبيلة الدواغرة، وقبيلة العقايلة، وقبيلة المساعيد، ما جعلهم مستهدفين بقوة من العناصر التكفيرية، فضلاً عن أنها من المناطق الواعدة استثمارياً لموقعها الاستراتيجي الحيوي بالقرب من محور قناة السويس ومدينة الإسماعيلية، وميناء بوسعيد ومدينة العريش.
 
من جانب آخر، اتجهت الدولة المصرية للتوسع في التنمية الشاملة داخل الأراضي السيناوية، من خلال إقامة عدد من المشاريع الكبرى على مستوى البنية التحتية، والتجمعات السكنية، والتوسع في إنشاء شبكة الطرق ومحطات توليد الكهرباء، ومحطات تنقية المياة والصرف الصحي، والعمل على تطوير الثروة الزراعية والسمكية، وتطوير قطاعي التعليم والصحة. 
 
تنوع المكون الفكري الرئيسي داخل سيناء بين جماعة "الإخوان"، والدعوة السلفية (مدرسة ياسر برهامي)، والسلفية السائلة، (غالبيتهم يميل للسلفية القطبية أو مدرسة عبدالمجيد الشاذلي)، وتنظيم "داعش" (ولاية سيناء)، وتنظيم "القاعدة" (جماعة جند الإسلام)، بينما صنع التيار الصوفي توازناً فكرياً من خلال انتشاره بين مدن وقرى شمال ووسط سيناء. 
 
اعتبرت التنظيمات التكفيرية سيناء بمثابة البوابة الرئيسية لتمصير الحالة الجهادية، وفقاً لعدد من الدراسات والوثائق التي نشرها تنظيم "القاعدة"، وتنظيم "داعش"، مثل وثيقة "مصر والطريق إلى أمة الخلافة"، التي كتبها المرجع التكفيري أبو بكر أحمد، وطرحت مشروعاً لتفكيك الدولة المدنية، والمؤسسة العسكرية، تحت مسمى "جهاد التمكين"، إضافة لوثيقة "سر الأحجية المصرية"، التي صاغها "الداعشي" أبو مودود الهرماسي، ودعت إلى ما يسمى بـ"فتح مصر" وتقسيمها إلى "ولاية سيناء"، و"ولاية القاهرة"، ووثيقة "هلموا إلى سيناء" التي كتبها "أبو مصعب الغريب"، ودعت إلى تحويل سيناء "ولاية إسلامية" شرعية. 
 
بلغ عدد التنظيمات التي توطنت في سيناء عقب أحداث 2011، نحو (15 تنظيماً) مثل تنظيم "التوحيد والجهاد" و"مجلس شورى المجاهدي"، و"التكفير والهجرة"، و"جيش الإسلام"، و"منظمة أنصار الجهاد"، و"جيش الجلجلة"، و" الجماعة السلفية في سيناء" وغيرها، اتحد بعضها في مكون جديد تحت مسمى "أنصار بيت المقدس"، وأعلن بيعته لتنظيم "القاعدة"، ومنها من بايع تنظيم "داعش" 2014، تحت مسمى "ولاية سيناء".
 
كان مخططاً عام 2011، أن يتم الاستيلاء على أراضي سيناء بالكامل، وتحويلها "إمارة إسلامية" مستقلة استثماراً لأحداث الفوضى التي مرت بها مصر خلال تلك المرحلة، إلا أن الجيش المصري كان يعي المخطط وفصوله، فتحرك بقوة وأجهض هذا المشروع بتنفيذه للعملية "نسر 1"، في آب (أغسطس) 2011، وأتبعها بعملية "نسر 2" في آب (أغسطس) 2012، داخل سيناء.
 
في تشرين الثاني (نوفمبر) 2014، سعى "داعش" الى التمركز في جغرافية سياسية تمكنه من تحويل سيناء ولاية "داعشية" تابعة لدولة الخلافة، والانتقال منها إلى العمق المصري في ما بعد، على غرار ما تم في سوريا والعراق، لكن يقظة الجيش المصري أوقفت المشروع "الداعشي"، فتم تنفيذ العملية العسكرية الشاملة "حق الشهيد"، في أيلول (سبتمبر) 2015 ، ثم تبعها بالعملية الشاملة في شباط (فبراير) 2018.
 
تلقى تنظيم "داعش" في سيناء، دعماً لوجيستياً من خلال مسارات عدة أهمها "سلفية غزة" التي مثلت داعماً قوياً للتنظيم بحكم بيعتها للبغدادي قبل مقتله في تشرين الأول (أكتوبر) 2019 ، فضلاً عن كونها مصدر تدريب وتأهيل للعناصر نظراً الى خبرتها الطويلة في معارك "حرب العصابات" المسلحة.
 
يضاف إلى ذلك أزمتها مع القوات المسلحة المصرية التي دمرت الأنفاق الرابطة بين غزة وسيناء، وكانت بمثابة مصدر داخل تاريخي لأكثر من 90 ألف مواطن غزاوي يعتمدون على تجارة الأنفاق، الى جانب شبكة من المصالح القائمة أو ما يطلق عليهم (رجال أعمال الأنفاق، أو مستثمرو الأنفاق)، إذ يتكلف إنشاء نفق متوسط الحجم من حيث الطول والعرض نحو (150 ألف دولار)، والعائد المالي من النفق الواحد يتراوح ما بين (100 ألف دولار إلى 200 ألف دولار في اليوم الواحد)، بإجمالي يتراوح ما بين (مليار ونصف المليار دولار إلى ثلاثة مليارات دولار سنوياً)، وقد تراوح عدد الأنفاق ما بين (300 و400 نفق)، وذلك وفقاً لدراسة قدمها الباحث أحمد كامل البحيري، صادرة عن المركز الإقليمي للدراسات الإستراتيجية في القاهرة.
 
والمسار الثاني يتمثل في العناصر "الداعشية" العائدة من سوريا والعراق وليبيا بين عامي 2015 و2017، ولا يمكن تجاهل تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، من أن الإرهابيين الذين غادروا الرقة، تم إرسالهم إلى سيناء، وفقاً لوكالة "سبوتنيك" الروسية، في كانون الاول (ديسمبر) 2017. 
 
ويتمثل المسار الثالث في العناصر المتطرفة الوافدة من داخل العمق المصري، وتعتبر خلايا كامنة تتم الاستفادة منها، فوفقاً لإحدى الدراسات الأمنية، أشارت إلى أن هناك أكثر من 1000 متطرف مصري عادوا من سوريا إلى القاهرة، في الفترة الزمنية بين 2015 و 2017.
 
كانت البداية الحقيقية للإرهاب في سيناء عام 1979 على يد فتحي حمدي إسكندر المكنى بـ"أبو إسلام"، عندما أسس "الجماعة السلفية" في العريش، ثم تحولت إلى "أهل السنة والجماعة"، وتشبعت بأفكار التيار القطبي (جماعة عبدالمجيد الشاذلي التي خرجت من رحم تنظيم سيد قطب)، وأسست ما يعرف بـ"القضاء الشرعي"،كبديل من القضاء الرسمي، ويمثلها أسعد البيك في العريش، والشيخ حمدين أبو فيصل في الشيخ زويد. 
 
في بداية التسعينات من القرن الماضي، وفي ظل الحملات الأمنية التي شنتها الداخلية المصرية ضد عناصر جماعة "الشوقيون"، هرب عدد منهم إلى مدينة العريش واستقروا فيها، وبدورهم كانوا النواة الأولى لنشر الفكر التكفيري في ربوع المجتمع السيناوي، وظهور تيار يعتبر مشاركة المجتمع في النواحي الحياتية كفراً صريحاً، وعداءً لله ورسوله، وخضوعاً للأنظمة السياسية الطاغوتية.
 
انتمى طبيب الأسنان خالد مساعد الى "الجماعة السلفية"،لكنه سرعان ما انشق عنها عام 1997، متأثراً بالمنهج التكفيري المسلح الذي توغل في قرى شمال سيناء من طريق خلية "الشوقيون"، فضلاً عن تأثره بكتابات الدكتور سيد إمام (المنظر الرسمي لتنظيم القاعدة)،ما دفعه بمشاركة صديقه نصر الملاحي، الى تأسيس تنظيم "التوحيد والجهاد" عام 2000، وتورط في تنفيذ مجموعة من التفجيرات الإرهابية بين عامي 2004 و2006، منها تفجيرات طابا ودهب وشرم الشيخ ونويبع، ويعد النواة الأولى لجماعة "أنصار بيت المقدس"، التي تحولت "ولاية سيناء" حالياً. 
 
*باحث مصري في شؤون الجماعات المتطرفة 
 
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم