الأحد - 28 نيسان 2024

إعلان

الانقلاب على بوتين

المصدر: "النهار"
د. خالد محمد باطرفي
 الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
A+ A-
في بداية أزمة كورونا بدا الرئيس الروسي فلادمير بوتين كلاعب بوكر ماهر يتلاعب بنظرائه في الغرب نفسياً ودبلوماسياً وحتى عسكرياً. تحركات مدروسة، غامضة وموحية، ورسائل مشفرة ومعلنة، هادئة وصاخبة. يلتحف بالغموض، ويظهر الثقة، ويتظاهر أن في حوزته الورقة الرابحة.
 
 
الضغط الصاخب
بدأت اللعبة بتحرك عسكري تجاه جارته أوكرانيا تحت غطاء مناورات عسكرية، مع التعبير عن الانزعاج من نوايا كييف الانضمام الى الاتحاد الأوروبي و"الناتو". وفي وقت رحبت موسكو بالوساطات والمفاوضات مع الغرب والشرق حول المشكلة، عادت الى اسطوانتها المعهودة بالسرد التاريخي للعلاقات البينية بين البلدين، ومعاناة روسيا مع الغرب منذ سقوط جدار برلين 1989 وتفكك الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو 1991، وما تلا ذلك من ضم تدريجي للجمهوريات السوفياتية السابقة وأعضاء حلف وارسو، الى أوروبا والتحالف العسكري الغربي.
 
كما عادت روسيا الى التباكي وادعاء اضطهاد الجالية الروسية في أوكرانيا، وزادت من دعم الموالين والمتمردين تمهيداً للاعتراف بالمنطقتين الانفصاليتين في شرق البلاد وإقامة علاقات دبلوماسية معهما، وتوقيع اتفاقات أمنية وعسكرية تسمح بالوجود العسكري فيهما لتأمين الحماية من اعتداء مفترض. وواكب ذلك هجوم سيبراني ضد المواقع العسكرية والسياسية في أوكرانيا عطّل كثيراً منها.
 
رد "الناتو"
كل ما سبق كان يمكن تفسيره بالمناورة السياسية الهجومية لتقوية يد المفاوض الروسي على فرض شروط المصالحة، وأبرزها تعهد "الناتو" والاتحاد الأوروبي عدم ضم أوكرانيا لخمسة وعشرين عاماً، ومنح المناطق الانفصالية حكماً ذاتياً، والاعتراف بضم شبه جزيرة القرم، ورفع العقوبات الاقتصادية عن روسيا، وعودتها الى مجموعة الدول الصناعية الثماني. وكان يمكن لذلك كله، أو أهمه، أن يتحقق لو تمتع اللاعب الروسي بالنفس الطويل وواصل الضغط من دون غزو، والمناورة من دون تهور، والتفاوض بلا عنهجية.
 
على أن ما حدث هو أن الغرب لم يحقق لروسيا أهدافها، فشجع كييف على الرفض، والإصرار على حقها السيادي في تقرير مصيرها وأحلافها وسياستها الخارجية، وحق التحالفات الغربية في قبول عضوية من تريد، متى تريد، كما تريد. وفي وقت أبقى على قنوات التفاوض مفتوحة، دعم الجيش والأمن والحكومة الأوكرانية بجسر من المساعدات العسكرية والمادية. كما كثفت آلته السياسية والإعلامية والاقتصادية ضغوطها وتحديها للقيادة الروسية، مع إعلانها المسبق عدم نيتها التدخل أو الردع العسكري في الصراع.
 
غلطة تاريخية
لم يصمد بوتين أمام الاستفزاز والتحدي الغربيين من جانب وحلم إمبراطورية بطرس الأكبر، وتردد أميركا وتزلف أوروبا من جانب آخر، فارتكب الحماقة التي سبقه اليها نابليون في روسيا، وهتلر في بولندا، وأيزنهاور في فيتنام، وعبدالناصر في اليمن، وبريجينيف في أفغانستان، وصدام في الكويت، وبوش الإبن في العراق، والقذافي في تشاد. استلهم النجاحات السابقة في جورجيا والشيشان وسوريا والقرم، وأغواه ضعف الردود الغربية تجاهها، فغزا واحتل، وأغرق جيشه في أتون حرب مدن وشوارع، ومواجهة مع مقاومة وطنية مدعومة دولياً وشعبياً.
 
وحّد العالم ضده، فخسر الكثير من شركائه الدوليين، ووضع بلاده تحت مطرقة عقوبات اقتصادية ودبلوماسية لا تحتمل. وعرض نفسه لتمرد داخلي من الطبقة الحاكمة والجيش ومجتمع الأعمال. والأهم من ذلك خطر انقلاب التيار الشعبي المؤيد له مع تزايد خسائر الأرواح وتكاليف المعيشة والعزلة الدولية.
 
شباك الغرب
وروسيا ليست دولة يمكن أن تنكفئ على نفسها وتعتمد على مواردها الداخلية. فهي تصدر النفط والغاز والسلاح، وتستورد تقريباً كل شيء بما في ذلك الغذاء والمواد الاستهلاكية والمعدات الصناعية ومركبات النقل والأجهزة الإلكترونية. وهي تعتمد في منظومة اتصالاتها وعملياتها البنكية والتجارية على شبكات يديرها الغرب.
 
فنظام جمعية الاتصالات العالمية المالية "سويفت" مثلاً، هو المنظم للعمليات والتحويلات بين كل المنشآت المالية وشركات التأمين في العالم، وخروج موسكو يعني عدم قدرتها على التصدير والاستيراد. كما أن خروجها من شبكة المعلومات والبيانات العالمية، يعني عدم قدرة مؤسساتها ومواطنيها على التواصل مع العالم. وتجميد الاتحاد الأوروبي وأميركا واليابان وكوريا أصول البنك المركزي والقيادة ومجتمع الأعمال في روسيا وأرصدتها، يعني تحولها دولة مفلسة. ومنع خطوط طيرانها من التحليق في أجواء أوروبا يعني عزلها عن العالم. ووقف تصدير الشرائح والمعدات والأجهزة الإلكترونية المتقدمة اليها، يترتب عليه إيقاف الكثير من المصانع العسكرية والمدنية، وتعطيل المنشآت التجارية والسياحية.
 
خسائر روسيا
كما أن تكبيل روسيا اقتصادياً واستنزافها عسكرياً وعزلها سياسياً تؤثر في كل مواقع نفوذها وتأثيرها وتحالفاتها، كسوريا وإيران وكوريا الشمالية والصين وكوبا وفنزويلا والهند. فكيف ستمول أنشطتها في تلك البلدان وتبادلاتها التجارية معها؟ وكيف ستحافظ على مكانتها في الأمم المتحدة، ومجموعة العشرين، و"أوبك +"، ورابطة الدول المستقلة، ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، ومنتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادئ، واتحاد الدول المستقلة، والمجموعة الاقتصادية الأوراسية، ومنظمة معاهدة الأمن الجماعي، ومنظمة شانغهاي للتعاون؟
 
كما ستتأثر استثماراتها وصفقاتها ومصالحها مع العالم العربي ومجلس التعاون الخليجي، بطبيعة الحال. فهذه الدول جزء من النظام المالي والتجاري العالمي، وأكثرها أعضاء في منظمة التجارة العالمية، وبعضها لها علاقة استراتيجية بخاصة مع "الناتو" والمعسكر الغربي، وبالتالي سيصعب عليها التعامل مع دولة معزولة ومقطوعة وعليها عقوبات مالية وتجارية دولية صارمة. ورغم أن أكثر دول المنطقة العربية آثرت النأي بالنفس والحياد الإيجابي في الأزمة الحالية، وحافظت على علاقاتها وقنواتها مع جميع الأطراف، كما التزمت السعودية اتفاق "أوبك" الأخير، إلا أن هذه الدول ليست ملزمة باستمرار العلاقات التجارية في حال غياب أدوات التعامل المصرفي وقنواته أو فرض عقوبات دولية على التعامل مع موسكو.
 
الرفض الأوكراني
ومع مرور الأيام، واستمرار التصعيد من كل الأطراف، بات الحل أبعد، والاقتراب من نقطة اللاعودة أقرب. ولم تعد أمام روسيا خيارات مريحة، توافق كبرياءها القومي الرومانسي، ومصالحها المادية الواقعية. وبات على القيادة اتخاذ قرارات صعبة، ولكن ضرورية، لحماية روسيا من هذا الاندفاع المخيف نحو الهاوية.
 
فخطة إخضاع الحكومة الأوكرانية أو إسقاطها واستبدالها بحكومة موالية لا تبدو ممكنة. فالشعب الأوكراني ذاق الأمرّين من الاتحاد السوفياتي الذي حكمه بالحديد والنار وفرض عليه الشيوعية والالحاد، وتسببت سياسة تحويله من الزراعة الى التصنيع في عهد ستالين بموت أكثر من 10 ملايين جوعاً. والجمهوريات السوفياتية السابقة هي اليوم أكثر من يدرك هذه المعاناة ورفض الأوكرانيين السماح بعودتها، وهم أكثر الداعمين لأوكرانيا بالمال والسلاح والرجال، والمرحبين بلاجيئها.
 
خيارات موسكو
كما أن سياسة ترهيب الغرب بالتصعيد النووي وقطع النفط والغاز، مع تحييد بقية العالم، لم تعد مجدية. وقدرة روسيا على تحمل العقوبات، كتلك التي فرضها الغرب في 2014، وتقسيم أوروبا حولها، أصبحت مستحيلة. فحتى الدول الاسكندنافية التي آثرت الحياد، دفعها تهديد بوتين لها بالتفكير في الانضمام لـ"الناتو".
 
إذاً عملية شيطنة روسيا نجحت، ووحدت دول "الناتو" والاتحاد الأوروبي، وحلفاء الغرب في شرق آسيا، كما لم يحدث منذ الحرب الباردة. والمستنقع الأوكراني يزداد عمقاً وتسمماً ولزوجة. والجيش الروسي كشف عن ضعف تمويله ومعداته وتدريب جنوده. وفاتورة الغزو تفوق ما تحتمله الخزينة. ولم يعد أمام القيادة الروسية إلا الانسحاب المهين، والتفاوض من موقف الضعف، أو المقامرة بمستقبل روسيا والمغامرة بمكانتها كدولة عظمى، ومواصلة المشوار. أو... الانقلاب على بوتين!

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم