السبت - 20 نيسان 2024

إعلان

عن البلد الذي نفدت فيه أموال المصارف

المصدر: "النهار"
سيّدة تسحب أموالها من الصرّاف الآلي (تصوير مارك فياض).
سيّدة تسحب أموالها من الصرّاف الآلي (تصوير مارك فياض).
A+ A-
حسين إبيش

أخيرًا تشكّلت حكومة في لبنان، بعد مرحلة انهيار دامت 13 شهرًا في ظلّ حكومة تصريف الأعمال.

إنّه خبر سارّ للغاية، بالنسبة إلى بلد يعاني من تداعيات الانهيار الاقتصاديّ والتعنّت السياسيّ والمخالفات الماليّة وتدخّل القوى الأجنبية، فضلًا عن انفجار مرفأ بيروت العام الماضي الذي دمّر العاصمة ولا يزال غامضًا.

ترافق إعلان تشكيل الحكومة في 10 أيلول، مع تعافٍ فوريّ وملحوظ في قيمة الليرة اللبنانية، إذ إنّ تشكيل الحكومة يتيح للبنان الحصول على مئات ملايين الدولارات التي وعد بها المانحون، وعلى مساعدة من البنك الدوليّ بقيمة 546 مليون دولار، وعلى مبلغ متوقّع قدره 860 مليون دولار من مخصّصات حقوق السحب الخاصّة لصندوق النقد الدوليّ.

إنّما كلّ ذلك ليس سوى بديل موقّت. إنّ عودة نجيب ميقاتي إلى السلطة كرئيس للوزراء، أو التركيبة المألوفة لحكومته الجديدة لا توحي فعلًا بالثقة.

إنّ القيادات السياسيّة في البلاد، خاصة ميليشيا "حزب الله" الشيعيّة الموالية لإيران، لم توافق على تشكيل الحكومة، إلّا لأنّ خيار المزيد من المماطلة لم يعد متوفّرًا. وكان البنك المركزيّ هو مَن في النهاية أجبر السياسيين على إعادة ترتيب الكراسي. ففي 11 آب، أعلن حاكم البنك المركزيّ رياض سلامة، رفع الدعم عن المحروقات، ما أقحم البلد في أزمة يائسة. فمن دون المحروقات، تنعدم الكهرباء والمواصلات والعديد من الحاجات الأساسيّة للمجتمع الحديث. والواقع أنّ سلامة كان يواجه الرئيس ميشال عون، وحليفه "حزب الله"، لا بل كلّ السياسيين، بحقيقة بسيطة: الدولة باتت مفلسة على الصعيدين العام والخاص.

يستورد لبنان تقريبًا كلّ شيء، ويعتمد بشدّة على قطاعه الماليّ، لذا هو في مثل هذا الوضع الصعب جدًّا. فلعقود عدّة، كانت المصارف اللبنانية تقوم بما يشبه المخطّط الهرميّ العملاق أو مخطّط "بونزي"، بحيث تدفع للمودعين معدّلات فائدة باهظة على ودائع بسيطة، وتساهم في استمراريّة الحكومة من خلال إقراض الدولة إلى ما لا نهاية. غير أنّ الاحتجاجات الحاشدة التي بدأت في 17 تشرين الأول 2019 ضدّ الفساد الرسميّ وعدم الكفاءة، تسبّبت بإثارة أزمة اقتصاديّة. ومع تزعزع الاقتصاد، تبيّن أنّ العملات الأجنبيّة التي ادّعت المصارف أنّها تحتفظ بها نيابة عن المودعين، ويمكنها إقراضها للحكومة، لم تكن موجودة في الحقيقة.

انفجرت الفقّاعة. غرق لبنان في أزمة وجوديّة. إنّه يحتاج إلى صندوق النقد الدوليّ والمجتمع الدوليّ، لإعادة رسملة مصارفه، وإلّا فلن يتمكّن أبدًا من التعافي.

ومع انقطاع التيار الكهربائي، وتوقّف البرّادات، واصطفاف طوابير السيارات، وكفاح المستشفيات للاستمراريّة، وتعطّل العمل في معظم المناطق اللبنانيّة، في غالبيّة الوقت، حتّى أسياد التقاعس هؤلاء اضطُرّوا إلى التحرّك. شعر "حزب الله" على وجه الخصوص بضعف واضح. فالقوى الإقليميّة التي تعمل بصورة مستقلّة عن إيران، كالسعودية والإمارات وحتّى سوريا، قد ترى أنّه من السهل جدًّا اكتساب نفوذ في دولة عاجزة كليًّا، ما قد يشكّل تهديدًا جدّيًا لسيطرة "حزب الله" وإيران على النظام السياسيّ.

يُقال إنّ "حزب الله" ضغط كثيرًا على عون وصهره الطموح جبران باسيل للقبول بتشكيل حكومة، لا تضمّ على ما يبدو ما يكفي من المناصرين للحصول على حقّ نقض فعليّ.
 
ويبدو أن طهران و"حزب الله" استنتجا أنّ هذا الجمود بات خطيرًا جدًّا لهما، فأبرما صفقة مع الرئيس الفرنسيّ ايمانويل ماكرون للتفاوض في تشكيل الحكومة الجديدة. وتعتزم هذه الأخيرة توزيع بطاقات تموينيّة بالدولار الأميركيّ على خمسمئة ألف عائلة من الأكثر فقرًا. في المقابل، يتمّ رفع الدعم المتبقّي عن كلّ المحروقات، ما يعني أنّ البنزين وغيره من الوقود سيصبح متوفّرًا مجدّدًا، ولو بأسعار مرتفعة. لكن، على أرض الواقع، لم يتغيّر شيء. ولكي يؤمّن صندوق النقد الدوليّ والجهات المانحة أموالًا جديدة، سيشترط على الدولة اللبنانيّة، من بين جملة أمور، تقديم تنازلات مهمّة من حيث المحاسبة والشفافيّة، أقلّها إنشاء شبكة أمان لمعظم الشعب اللبنانيّ، الذي غرق في فقر مدقع، فلا يُضطرّ إلى اللجوء والاتّكال على الصدقات التي ستزيد ندرةً.

إنّما هي تلك التنازلات بالضبط، التي لا يريد الزعماء السياسيّون القيام بها، ليس لأنّها تنطوي نوعًا ما على تراجع نفوذهم وامتيازاتهم فحسب، بل لأنّها ستفرض عليهم القبول بوقائع أساسيّة مزعجة، شأن كمية الأموال المنهوبة – ومن نهبها - وكيفيّة تقاسم عبء إعادة التمويل. إنّ مراكز القوّة التقليديّة، وجميعها ممثّلة فعلًا في الائتلاف الجديد، تخشى المساومات الاقتصادية والسياسية التي سيطلبها صندوق النقد الدوليّ، والدول المانحة، بهدف إعادة رسملة النظام الماليّ المتهاوي. سيرتاح لبنان لبعض الوقت جرّاء وصول المساعدات والقروض المعلّقة. وسيتوجّب على مَن هو في السلطة استخدام هذا الوقت للتوصّل أخيرًا إلى تفاهم طويل المدى مع صندوق النقد الدوليّ، والذي من دونه، لا حلّ على المدى الأطول. كما يُفترض في هذه الفترة الزمنيّة أن تكون فرصة لا تفوّت أمام المجتمع الدوليّ لإرغام الزعماء اللبنانيين على تقديم تنازلات جدّية من حيث الشفافية والمحاسبة والمسؤوليّة.

قد يكون لبنان حَظِي بفسحة للتنفّس. لكن، ثمّة أمر ينبغي ألّا ينساه زعماؤه – والعالم من حوله - وهو أنّ أزمة لبنان الوجودية لم تنطوِ بعد.

*نشر في "بلومبرغ"
- كبير باحثين، مقيم في معهد دول الخليج العربيّة في واشنطن
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم