السبت - 11 أيار 2024

إعلان

البابا فرنسيس عند باب الهيكل (صور)

المصدر: "النهار"
بابا الإنسانية (أ ف ب).
بابا الإنسانية (أ ف ب).
A+ A-
 
خليل عجمي
 
من مدينة أور التاريخية (عاصمة الدولة السومرية) في بلاد الرافدين... من مسقط رأس أبي الأنبياء (النبي إبراهيم)، جاء بريئاً يطلب السماح والعفو عن جرائم لم يرتكبها، ويقيم صلاة الأديان ليعيد رسم قاسم مشترك، ليس بين أبناء العراق فقط، بل بين أهل هذه المنطقة، ليتم البناء على هذا القاسم لحياة كريمة يسودها التسامح، بعد حقبة من العنف.
 
لتكن قراءة طوباوية لهذه الزيارة غير المسبوقة إلى العراق، فقد بدا البابا فرنسيس كطفل يقتحم جدار هيكل مارد الموزاييك الطائفي والمذهبي والعرقي في هذه المنطقة، غير آبه بتدحرج كتل حجارة هذا الحصن المقيت... لبس ثوب ذنب لم يقترفه، وجاء يطلب المغفرة ويعيدنا إلى سيرة أبينا إبراهيم (ألفا عام قبل الميلاد) علّنا نعيد من جديد، كتابة قصة هذه البقعة من العالم، والتي خصّها الله بميزة مهد الأديان السماوية.
 
 
جاء إلى العراق في زيارة غير مسبوقة، يبحث عن سلام مفقود في هذا الشرق المتنوّع، حاملاً رسالة ثلاثية الأبعاد: فهي رسالة تضامن إلى إحدى أكثر المجموعات المسيحية تجذراً في التاريخ في المنطقة، والتي عانت لعقود، ظلماً واضطهاداً... و"رسالة مصالحة ومصافحة" مع الطوائف الأخرى من الشعب العراقي الذي عانى الكثير من الخوف والظلم والحروب والنعرات الطائفية... وكذلك رسالة إلى أهل هذه المنطقة بأكلمها، تدعو إلى إعادة الأمن والأمان.
 
بزيارته بغداد والنجف وذي قار ونينوى وإقليم كردستان، جازف البابا فرنسيس بزيارة محفوفة بالمخاطر الأمنية، في ظل تفشي وباء كورونا، ليؤكّد أبعاد أخرى لا تقل أهمية، ويدعو من القصر الرئاسي العراقي، المجتمع الدولي لأداء دور حاسم في تعزيز السلام في العراق وكل الشرق الأوسط.
 
 
وقال بابا الفاتيكان في كلمة ألقاها أمام القادة العراقيين وفي مقدّمهم الرئيس العراقي، برهم صالح، في قصر بغداد "إن التحديات المتزايدة تدعو الأسرة البشرية بأكملها إلى التعاون على نطاق عالمي لمواجهة عدم المساواة في مجال الاقتصاد، والتوترات الإقليمية التي تهدد استقرار هذه البلدان". 
 
وأضاف: "فلتصمت الأسلحة"، "وليكن الدين في خدمة السلام والأخوّة"، مشجعاً على القيام بالخطوات الإصلاحية المتخذة في العراق، وضمان مشاركة جميع الفئات السياسية والاجتماعية، وعلى ضرورة التصدي لآفة الفساد واستغلال السلطة.
 
ثم انتقل الحبر الأعظم إلى النجف، قارعاً باب منزل المرجع الشيعي الأعلى السيد علي السيستاني في النجف، ليكمل ما سطّره مع شيخ الأزهر الإمام الأكبر أحمد الطيب في أبوظبي في شباط 2019، حيث وقّعا في حينه "وثيقة ̍الأخوّة الإنسانية̍" التي تشدد في بنودها الأساسية على حرية المعتقد، واحترام هوية كل ديانة لأننا جميعًا إخوة. 
 
 
السيد السيستاني أكد للبابا "اهتمامه بأن يعيش المواطنون المسيحيون كسائر العراقيين في أمن وسلام وبكامل حقوقهم الدستورية"، بحسب بيان صادر عن مكتبه أعقب اللقاء الذي جمع بينهما في النجف.
 
"وحول التحديات الكبيرة التي تواجهها الإنسانية في هذا العصر ودور الايمان بالله وبرسالاته والالتزام بالقيم الأخلاقية السامية في التغلب عليها"، دار الحديث بين البابا فرنسيس وآية الله السيستاني، بحسب بيان صدر عن مكتب الأخير.
 
وشكّل اللقاء "فرصة للبابا ليشكر آية الله السيستاني لأنه رفع صوته، مع الطائفة الشيعية، إزاء العنف والصعوبات الكبيرة التي شهدتها السنوات الأخيرة، دفاعاً عن الضعفاء والمضطهدين"، بحسب المكتب الصحافي للكرسي الرسولي، في بيان صدر بعد اللقاء.
 
وجاء في نص بيان الفاتيكان أن البابا "شدد خلال اللقاء، على أهمية التعاون والصداقة بين الطوائف الدينية كي تتمكن من خلال تنمية الاحترام المتبادل والحوار، المساهمة في مستقبل يسوده السلام والأخوة لأرض العراق الحبيبة والمنطقة والعالم أجمع".
 
في أور، وبعدما أنصت البابا بخشوع لقراءات من الإنجيل والقرآن خلال صلاة الأديان مع ممثلين عن الشيعة والسنة والأيزيديين والصابئة والكاكائيين والزرداشتيين، ثم ألقى كلمة ندد فيها بـ"الإرهاب الذي يسيء إلى الدين"، داعياً إلى "احترام حرية الضمير والحرية الدينية والاعتراف بها في كل مكان".
 
وأكد البابا "أنها حقوق أساسية، لأنها تجعل الإنسان حراً للتأمل في السماء التي خلق لها". وحضّ على السير من "الصراع إلى الوحدة"، طالباً "السلام لكل الشرق الأوسط" و"بشكل خاص في سوريا المجاورة المعذبة".
 
وختم: "نحن المؤمنين، لا يمكن أن نصمت عندما يسيء الإرهاب إلى الدين. بل واجب علينا إزالة سوء الفهم"، وذلك بعد نحوأربع سنوات من دحر تنظيم "داعش" الذي سيطر بين 2014 و2017 على أجزاء واسعة من العراق.
 
ومن إربيل في الشمال، حيث أحيا الحبر الأعظم قداساً في الهواء الطلق ضمّ الآلاف، قبل أن يتوجّه إلى الموصل وقرقوش اللتين عانتا سنوات انتهاكات تنظيم "داعش" الإرهابي. 
 
 
وحظيت قرقوش بأهمية خاصة في زيارة البابا، حيث اجتاحها إرهابيو "داعش" صيف عام 2014، فدمروها ودمروا كنيستها، فيما استقلّ سكانها البالغ عددهم 55 ألفاً، الشاحنات هرباً، ولجأ معظمهم إلى إقليم كردستان العراق.
 
وفي كلمته إلى أبناء قرقوش، قال البابا: "قد يكون طريق الشفاء الكامل ما زال طويلاً، لكنني أطلب منكم، من فضلكم، ألا تيأسوا". وأضاف: "يتطلّب الأمر القدرة على المغفرة، وفي الوقت نفسه، الشجاعة للكفاح".
 
 
أقفل البابا عائداً إلى الفاتيكان، بعدما اسقطت زيارته مقولة "لنبني على الشيء مقتضاه"، فالشيء بات بين الأيدي، بعدما كان قد رسم عناوينه الأساسية عندما أعلن في كلمة مسجلة إلى العراقيين قبل أن يصل إلى بلادهم، قائلاً: "سآتي إليكم كحاجّ سلام، لأكرر أنتم جميعاً أخوة. نعم، أنا ذاهب كحاجّ سلام بحثاً عن الأخوة، مدفوعاً بالرغبة في الصلاة معاً والسير معاً، بما في ذلك مع الأخوة والأخوات من الديانات الأخرى، للأب إبراهيم الذي يوحد في عائلة واحدة المسلمين واليهود والمسيحيين".
 
ربما تتطلب المرحلة في هذا "الشرق الغريب"، رجالاً استثنائيين ليبنوا المقتضى بعدما بات "الشيء" بين الأيدي... أو ستبقى الحال في سياقها المتدحرج ككرة ثلج، وتدخل الزيارة في غياهب التاريخ.
 
 
 
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم