الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

المقاومة ليست فقط في حمل السلاح، لا بل في عدم حمل حقائب الرحيل

المصدر: "النهار"
من انتفاضة 17 تشرين (نبيل إسماعيل).
من انتفاضة 17 تشرين (نبيل إسماعيل).
A+ A-
رولان طنب
 
-ترجمة نسرين ناضر 
 
في الآتي، تنشر "النهار" كلمة البروفسور رولان طنب، عميد كلية الطب في الجامعة اليسوعية، لمناسبة إطلاق الاحتفالات في الذكرى المئوية الأولى لمستشفى أوتيل ديو دو فرانس

هذا المساء سأحدّثكم عن المعجزات.

معالي الوزير، سعادة السفيرات والسفراء، السيد رئيس الجامعة، الزملاء والأصدقاء الأعزاء،

هذا المستشفى يحمل الله وفرنسا في اسمه وفي جيناته. يضعنا هذا الانتماء المزدوج أمام مسؤولية كبيرة. ففكرة المستشفى كما ولادته ضربٌ من المعجزة، لأن الأجواء لم تكن مهيّأة بتاتاً لتقارب بين الجهات التي كانت وراء تأسيسه. في الواقع، انكبّ الآباء الروّاد والبُناة على العمل بكل ما يمتلكون من شغف وعزيمة، ولكن لم يكن ليتحقق شيءٌ لولا فرنسا علماً بأنها كانت مناهضة للإكليروس في تلك الحقبة: فقد ساهمت جهودهم المتضافرة على الرغم من صعوبة التقارب بينهم، والتي كانت قد وُظِّفت في بناء كلية الطب وكلية الحقوق وكلية الهندسة – ساهمت إذاً في استئناف العمل في ورشة مستشفى أوتيل ديو دو فرانس عند نهاية الحرب الكبرى، بعد ما تعرضت له من نهبٍ ودمار، كما ذكّر رئيس الجامعة في كلمته. مثلما رأينا في صور الأرشيف وفي الفيلم، لم يسبق أن كان التحالف بين الجيش والكنيسة مثمراً إلى هذه الدرجة. فقد تعاونت الجمهورية والكنيسة (التي كانت تُسمّى ازدراءً "القلنسوة" في ظل الجمهورية الثالثة) معاً، كما الساحرات الخيّرات المنحنيات فوق مهد المولود الجديد.

ثم بعد نصف قرن على انطلاقة المستشفى، كانت المعجزة أيضاً في صموده خلال الحرب الأهلية، وأقولها لأول مرة في العلن وبتأثّر شديد: كنتُ بلا شك من أوائل الجرحى الذين استقبلهم. أنقذ مستشفى أوتيل ديو حياتي. لم يكشف هذا المستشفى، من خلال نهوضه بواجبه وتحدّيه للمخاطر، عن مرونةٍ فحسب، إنما أيضاً عن مقاومة حقيقية في مواجهة غضب الإنسان واستقواء المحتل.

في خضم الحرب، في عام 1984، انتفض جان دوكرويه. رفضَ الانهزامية، وعارض رفاقه الذين أرادوا إغلاق الجامعة، وعرض على فرنسا أن يتولّى بنفسه إدارة مستشفى أوتيل ديو الذي كان يعاني من الاستنزاف الشديد. الرهان الذي قام به دوكرويه آنذاك هو معجزة أيضاً. فقد وقّع عقد الإيجار الطويل الأجل الشهير مع الحكومة الفرنسية: لقد نشرتُ صورة مطابقة عن ديباجة العقد في الكتاب الموجود بين أيديكم والذي سررت بإعداده مع شريكي كريستيان توتل. بنود العقد واضحة لا لبس فيها: أوتيل ديو هو المستشفى التطبيقي لكلية الطب في جامعة القديس يوسف. أقولها وأكررها لأن بعض النفوس البائسة تساءلت قبل بضع سنوات: بأيّ حقٍّ يتدخّل عميد كلية الطب؟ بأيّ حقٍّ يتدخّل رئيس الجامعة؟ الوقائع دامغة: هذا المستشفى هو ثمرة إرادة الأب كاتين، رئيس معهد الطب آنذاك، ونتاج عزيمته، فقد أراد أن يكون لجامعته مستشفى تطبيقي خاص بها. وبعد 61 عاماً، أُعيد التذكير بوضوح برسالة مستشفى أوتيل ديو، من خلال توقيع اتفاق بين الحكومة الفرنسية والأب دوكرويه، رئيس جامعة القديس يوسف التي أصبحت مركزية وخضعت للترميم. إذاً كانت معجزة إعادة التأسيس صدىً لمعجزة التأسيس.

- من أجل احترام الالتزامات التي قطعها الآباء المؤسسون والحكومة الفرنسية، سيبقى هذا المستشفى جامعياً أو لا يعود له وجود. هذا ما أشار إليه رئيس الجامعة للتو بوضوح لا لبس فيه.

- لأنّ المرضى هم من مسؤولية الأصحاء، سيحترم مستشفى أوتيل ديو دو فرانس رسالته الاجتماعية في خدمة جميع المتألّمين، لا سيما الأكثر عوزاً بينهم، وإلا لن يعود له وجود.

- ندافع عن الفرنكوفونية – وهي المهمة الأكثر جحوداً – دفاعاً أكبر وأفضل من الفرنسيين في معظم الأحيان: سيبقى هذا المستشفى شاهداً حيّاً على الطب الفرنكوفوني في بلادنا، أو لن يكون له وجود.

- ينبغي على المستشفى أن يتطلع بعزمٍ إلى المستقبل، متسلّحاً بجذوره التي تَعبُر الآن مئويتها الأولى، وأن يواكب الابتكارات كي يبقى مركزاً مرجعياً وقطباً للتميّز، أو لن يكون له وجود.

قلتها في مستهل كلمتي، كانت ولادة هذا المستشفى معجزة. صموده واستمراره وتطوره على الرغم من كل الانتكاسات التي تعرضت لها بلادنا على مر قرن من الزمن، هي أيضاً معجزة. عن هذه المعجزة اليومية، أتقدّم بالشكر إلى جميع مَن لهم دورٌ في هذا المجال، صغاراً كانوا أم كباراً، مجهولين أم معروفين، أطباء ومقيمين ومتدرّبين وممرّضين وإداريين وموظفين. وأتمنّى، سعادة السفيرة الفرنسية، أن تنطلق بأسرع وقت عملية إعادة التفاوض على عقد الإيجار الطويل الأجل كي تستمر هذه المعجزة.

لكن المواطن ينتظر معجزة أكبر: قبل عامَين، احتفلت الدولة اللبنانية أيضاً بمئويتها الأولى. وإذا كان مستشفى أوتيل ديو بيتنا، لدينا واجبات تجاه وطننا لبنان، البيت الحقيقي الذي يضمّنا جميعاً تحت سقفه. نتذكّر جميعنا، أصدقائي الأعزاء، الأمل الكبير الذي انبعث في 17 تشرين الأول 2019. تمرّ أمامي من جديد مشاهد المدّ البشري، والأعلام الخافقة، والعاملين في القطاع الطبي الذين شاركوا في الاحتجاجات بصورة شبه يومية. يتذكر الجميع، سعادة السفيرة، الطاقة الاستثنائية التي أظهرها الرئيس ماكرون في عام 2020 لمساعدتنا. لكن لسوء الحظ، تبددت جميع آمالنا. لذلك، الخيبة أكبر. لكننا لن نستسلم للانهزامية، وسنبقى صامدين. لقد تبخّرت آمالنا، كما قلت، إلا أننا متمسّكون بالرجاء من أعماق قلوبنا وبكل ما أوتينا من قوة. للأسف، لن نتمكن أبداً من الخروج من هذا الوضع من تلقاء أنفسنا. والسبب ببساطة هو أن اللبناني ليس سيّد قراراته؛ فالإرادة الوطنية مصادَرة.

لذلك أناشد جميع أصدقاء لبنان، وأناشدكم أيضاً سعادة السفيرات والسفراء، بألا تيأسوا أبداً منّا ومن قضيتنا ومن لبنان-الرسالة كي لا يصبح مجرد شعار فارغ.

أدعو اللبنانيين في بلدان الاغتراب، إنما أيضاً في الداخل، إلى عدم الرضوخ والاستسلام. أفكّر في هجرة اللبنانيين، لا سيما هجرة الأطباء التي قيل الكثير عنها. الإحباط والانهزامية اللذان تفشّيا كما الوباء، أشد فتكاً من جائحة "كوفيد-19". لقد تبيّن أن الهلع أشد عدوى وضرراً من الفيروس.

فلنقاوم كل هذه الشياطين، نعم لنقاوم كل هذه الشياطين لأن المقاومة ليست فقط في حمل السلاح، لا بل إن المقاومة في زماننا هذا هي خصوصاً في عدم حمل حقائب الرحيل.

نعم، الكلمة الأخيرة ستكون دائماً للرجاء.

إياكم أن تتوقفوا عن الإيمان بالمعجزات.

عاش مستشفى أوتيل ديو دو فرانس! عاشت فرنسا! وقبل كل شيء عاش لبنان!
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم