الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

أين وكيف يمكن القضاء اللبناني أن يستعيد الزمام في مكافحة الفساد؟

المصدر: "النهار"
الفساد الداخلي (تعبيرية- "النهار").
الفساد الداخلي (تعبيرية- "النهار").
A+ A-
 
المحامي الدكتور بول مرقص*
 
 
من الآن نقول، لن يستعجل السياسيون إقرار قانون السلطة القضائية المستقلة. كما لم يقرّوا قانون الانتخابات النيابية، كذلك لن يقرّوا قانون السلطة القضائية. فهل سيخوّلون القضاء أن يحاسب متوّلي السلطة بموجب قانون السلطة القضائية المستقلة إن لم يخوّلوا الناس محاسبتهم بموجب قانون الانتخابات النيابية؟ بالطبع لا.
 
على القضاء التحرّك إذاً لمكافحة الفساد في ظلّ التشريع الحالي، وريثما يتطوّر التشريع، عبر خطوات ثلاث:
 
أولاً: إعلان مجلس القضاء الأعلى وتوقيع رئيسه وأعضائه على مدونة شرعة سلوك يتعهّدون بموجبها عدم تبوّء أي مركز عام في الدولة اللبنانية لقطع المجال أمام مسايرة القضاة للسياسيين لطمع في منصب وزير أو نائب أو سواه. وهذا شأن مبدئي لا يسّأل عنه المجلس الحالي.
 
ثانياً: على القاضي تلقّف أي شكوى أو إجراء من أي نوع كان لمكافحة الفساد والمضي بها حتى الخاتمة السعيدة، إن لم يقدُر القاضي على فتح الملفات من تلقائه خشية على مستقبله.
 
ثالثاً: اتخاذ كل قاضِ ما يلزم من تدابير وإجراءات تتيحها له القوانين الحالية على تواضعها ومحدوديتها.
 
هل يُعقل أن يلزم قانون الإثراء غير المشروع المعدّل عام 1999 على عجل دون أن يحظى ولا لمرة بفرصة التطبيق طيلة 70 سنة من صدوره، هل يعقل أن ينص على كفالة مصرفية بقيمة 25 مليون ليرة يودعها الشاكي ضمانةً لشكواه تلك؟ وهل يعقل أن يحكم بالغرامة بما لا يقلّ عن 200 مليون ليرة وبالحبس معاً إن كُفت التعقبات أو منعت المحكمة عن المشكو منه؟
 
هل أودع جميع المعنيين بالتصريح عن الإثراء غير المشروع، الإيداعات المطلوبة منهم قانوناً فور تبوئهم مراكزهم، بمقتضى قانون الإثراء غير المشروع، تحت طائلة إعلان القضاء سقوط ولايتهم بأثر رجعي، حكماً؟
 
أين دور القضاء بعدما جرى السعي الجاد لتكبيل دور المواطن في مكافحة الفساد؟
 
نعم ثمة قضاة جريئون ورياديّون. فليتحرّكوا، أقلّه فقط ضمن الهامش القانوني الضيّق المتاح.
 
إن مكافحة الفساد لا تكمن في الانصراف إلى سنّ مزيد من القوانين فحسب، بل في تطبيق القوانين القائمة، رغم حاجتنا إلى قوانين خاصة بمكافحة الفساد وبشفافية الحياة الاقتصادية والسياسية وتنظيم تمويل الانتخابات العامة وإنشاء مصلحة مركزية قضائية لكشف أعمال الفساد Service Central de Prévention de la Corruption وإحالتها إلى النيابة العامة، على غرار التجربتين الفرنسية والأميركية.
 
أما بالنسبة إلى النصوص القانونية لمكافحة الفساد، فثمة تُخمة من النصوص القديمة المبعثرة التي تنظّم عمل الإدارة إلى جانب آليات للرقابة والمحاسبة الإدارية والسياسية غير قابلة للتطبيق، معظمها يعود إلى أواسط القرن الماضي وهي اصلاً منقولة عن قوانين فرنسية قديمة رغم التعديلات الطفيفة التي أُدخلت على بعضها في لبنان في مقابل تعديلات وإضافات جذرية في فرنسا. فإذا ما أخذنا الإثراء غير المشروع، نلاحظ أن القانون اللبناني القديم الصادر عام 1953 لم يطبّق مطلقاً.
 
كذلك يصعب تطبيق القانون الجديد الصادر عام 1999 خصوصاً بالنظر إلى أنه يُشترط على الشاكي عند تقديمه دعوى الإثراء غير المشروع إيداع كفالة بقيمة 25 مليون ليرة لبنانية، الأمر الذي يُثني الكثيرين عن تقديم هذه الشكاوى! أما نصوص المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء ولجان التحقيق البرلمانية، فتشوبها عدم قابلية للتطبيق لأن انطلاقها مرهون بتوافر قرار سياسي للإحالة إلى المحاكمة وكذلك توافر قرار سياسي عند الإدانة. وهذا يُعيب العملية الإصلاحية.
 
هذا إضافةً إلى غياب النصوص المتعلّقة بالشفافية المالية في الحياة السياسية في لبنان لاسيما لناحية تنظيم التبرّعات السياسية، وسقف التمويل الانتخابي، وتكافؤ المرشحين في الدعاية الانتخابية (نصوص قانون الانتخاب لهذه الجهة غير كافية)، والافتقاد إلى تشريع خاص وموحّد Code لمكافحة الفساد على غِرار البلدان المتقدّمة كفرنسا، حيث ثمة تشريعات خاصّة بهذا الخصوصTransparence financière de la vie politique et prévention de la corruption. ويمكن الارتكاز في عملية تحديث قوانين الإدارة -واستحداث قوانين لشفافية العمل السياسي في لبنان، إلى القوانين الفرنسية والقانون النموذجي الصادر عن الأمم المتّحدة. كذلك من الملائم إقرار نص يمنع الجمع بين عضوية السلطة التنفيذية (الوزارة) والترشّح للانتخابات للحؤول دون استغلال النفوذ.
 
إنما ليس ما يمنع، ريثما تتمّ الورشة التشريعية المطلوبة، من تطبيق النصوص الحالية لقانون العقوبات الصادر عام 1943 حيال جرائم الرشوة وصرف النفوذ واستثمار الوظيفة وإساءة استعمال السلطة المعدّدة في المواد 350 وما يليها من هذا القانون وفي سائر القوانين الموجودة من طريق تحرّك النيابة العامة وتفعيل الأحكام القضائية.
 
على مستوى النصوص القانونية إذاً، يلاحظ أن هناك:
 
أولاً- تخمة في النصوص القديمة المبعثرة التي تنظّم عمل الإدارة (معظمها يعود إلى أواسط القرن الماضي بالرغم من التعديلات الطفيفة التي أُدخلت على بعضها. ولكنها بالأصل منقولة عن قوانين فرنسية قديمة).
 
ثانياً- نصوص وآليات غير قابلة للتطبيق أو بحاجة إلى استكمال وتعديل:
 
1- قانون الإثراء غير المشروع: لم يطبّق القانون القديم الصادر عام 1953 مطلقاً. كما يصعب تطبيق القانون الجديد الصادر عام 1999 بالنظر إلى أنه يُشترط على الشاكي عند تقديمه دعوى الإثراء غير المشروع ايداع كفالة بقيمة 25 مليون ليرة لبنانية كما أسلفنا.
 
2- المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء ولجان التحقيق البرلمانية: عدم قابليته للتطبيق لأن ذلك مرهون بتوافر قرار سياسي للإحالة إلى المحاكمة وبتوافر قرار سياسي عند الإدانة.
 
3- غياب النصوص التي تنظّم العمل السياسي والحزبي: كالشفافية المالية في الحياة السياسية لاسيما لناحية تنظيم التبرّعات السياسية، سقف التمويل الانتخابي، وتكافؤ المرشحين في الدعاية الانتخابية (نصوص قانون الانتخاب لهذه الجهة الأخيرة غير كافية)...
لهذه الأسباب ولسواها أصبح لبنان في مراتب متدنية عالمياً بحسب "المؤشر العالمي لمدركات الفساد" الذي تنشره "منظّمة الشفافية الدولية".
 
4- ضرورة سنّ قانون حماية كاشفي الفساد Whistle blowing law: سبق أن أعدت جوستيسيا دراسة وافية عنه.
 
5- مراجعة قانون سرية المصارف: قانون سرية المصارف تاريخ 3/9/1956 لم يوجد لحماية المجرمين بل لجذب الأموال النظيفة وحماية خصوصيات عملاء المصارف. سبق أن تقدّمت بسلّة اقتراحات عليه لتسهيل مكافحة الفساد منها تمكين القضاء الجزائي من كشف السرية.
 
6- قانون مكافحة تبييض الأموال: تعديل قانون مكافحة تبييض الأموال رقم 318/2001 لإدراج جرم الفساد في عِداد جرائم مكافحة تبييض الأموال جاء نزولاً عند طلبات دولية أكثر منه لحاجات الإصلاح الداخلي. ولعلّ أبلغ دليل على ذلك أنه لعلمي لم يُفعّل لهذه الجهة لتاريخه.
 
مع الإشارة إلى أنّ مكافحة تبييض الأموال غالباً ما تجري للامتثال إلى متطلبات دولية أكثر منها لمكافحة الفساد الداخلي.
 
تبدأ مكافحة الفساد بقرار شخصي يتخذه كل مواطن بالتصدي للممارسات الفاسدة والتمرّد على واقعها، ومن ثم يجري البحث عن آليات قانونية مساعدة. تبدأ المحاسبة أولاً عند المواطن الذي يسهل عليه مثلاً أن يراقب ويُسائل البلدية عن وسائل صرف الأموال البلدية وجدواها في المحلّة حيث يقيم، أكثر ممّا في وسعه مراقبة صرف اعتمادات الموازنة العامة على مستوى الوطن.
 
فالمحاسبة تبدأ من المواطن في الانتخابات العامة الاختيارية والبلدية والنيابية ولا يمكن التعويل على محاسبة السلطات لبعضها البعض فحسب إلا عند اصطلاح النظام الديموقراطي وهو أمر متعذّر في لبنان حاضراً. واستطراداً فإن المحاسبة حتى في أحسن الأحوال الديموقراطية لا ترتكز على السلطة السياسية المؤلّفة من أصحاب مصالح سياسية فحسب، بل خصوصاً على قضاة أفراد شجعان يتّخذون قرارات جريئة لإعادة تفعيل النصوص الجزائية في لبنان في موضوعات الرشوة وصرف النفوذ واستثمار الوظيفة وإساءة استعمال السلطة كما حصل في تجربة القضاء الإيطالي (حملة "الأيادي النظيفة" Mane pulite)، وقد سبق أن أطلقنا مرصداً لرصد هذا النوع من الأحكام في لبنان ونشرها وحض الحقوقيين والناشطين المدنيين على التعليق عليها تحفيزاً لمثل هذا المسار القضائي وكذلك حضّاً للمواطنين على تقديم الشكوى والمساءلة عند ملاحظة المخالفة. وهذا من شأنه على المدى المتوسّط تطوير ذهنية المسؤولية والمحاسبة عند المواطنين والردع عند المسؤولين.
 
 
* رئيس منظمة "جوستيسيا" الحقوقية
 
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم