السبت - 27 تموز 2024
close menu

إعلان

من هي السلطة في لبنان اليوم ومن هي معارضتها؟

المصدر: "النهار"
تعبيرية.
تعبيرية.
A+ A-
غسان صليبي

جاء في جريدة "النهار" بتاريخ ٢٢ آب ما يأتي: "أعلنت شركة "توتال إنيرجيز"، إلى جانب شريكتيها "إيني" الإيطالية و"قطر للطاقة"، إطلاق أنشطة الاستكشاف في الرّقعة رقم 9 في لبنان من خلال زيارة إلى منصّة الحفر Transocean Barents، بحضور رئيس مجلس النواب نبيه بري، ورئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي، ووزير الطاقة والمياه وليد فياض، يرافقهم وزير الأشغال العامّة والنّقل علي حمية، وممثلون عن هيئة إدارة قطاع البترول".

في المشهد أربعة أطراف سياسيين محليين: رئيس الحكومة (نجيب ميقاتي)، "حركة أمل" (نبيه بري)، "حزب الله" (علي حمية) و"التيار الوطني الحر" (وليد فياض). الأطراف الأربعة كانت المقرّر الأول والفاعل الأول في ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، وها هي تطلّ معاً ممثلةً للحكومة وللمجلس النيابي، أي للسلطتين التشريعية والتنفيذية، في مرحلة البدء باستكشاف الغاز والبترول بعد الترسيم. هل يقول المشهد شيئاً عن تركيبة السلطة الفعليّة اليوم في لبنان؟

في مقال بعنوان "ترسيم السلطة"، نشرته في "النهار"، بعد ترسيم الحدود البحرية، أوضحت فيه أن اتّفاق الترسيم لا يضمن ديمومة السلطة مالياً فحسب، بل أمنياً وسياسياً. فالجار الشمالي، أي نظام الأسد، حليف، والجار الجنوبي، أعطى مباركته، من خلال الاتفاقية، للسلطة ولنواتها الصلبة، أي "حزب الله". يُمكن للسلطة اللبنانية أن ترفض تسمية اتفاقية الترسيم تطبيعاً مع إسرائيل، لكن هذه الاتفاقية هي بالتأكيد تطبيع مع لبنان بالنسبة إلى إسرئيل. وبالتالي مع الحزب الذي يحكم لبنان أي "حزب الله". وهي أيضاً تطبيع مع "حزب الله" وحلفائه من جهة أميركا وأوروبا، اللتين دعمتا مسار الترسيم بكلّ قوّة وباركتا الاتفاق. وبلدان الخليج العربي لم تكن غائبة عن مسار الدعم، وها هي قطر تقود المشاركة الخليجية في استخراج النفط والغاز.

وقد أنهيت نصّي بما يأتي: "بعد ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، وترسيم السلطة الذي رافقه، أصبح مُلحّاً على أطراف المعارضة بجميع تلويناتها التخلّي عن نظرية الفصل بين السلطة و"حزب الله" بحجة مقاومته لإسرائيل، وعلى أساس التميّز بين السلطة المالية والسلطة العسكرية، والعمل بالتالي على فهم النظام الريعيّ النفطيّ الجديد الذي يجري تكوينه كأداة مالية واقتصادية لحكم "سلطة الترسيم" في المستقبل".

عقبتان إيديولوجيّتان تحولان دون تحديد من هي "المعارضة" في لبنان اليوم. الأولى تتجسّد بشعار "كلن يعني كلن"، وهو شعار يضع جميع القوى السياسية في خانة واحدة. كرّرت مراراً أنه صحيح أن جميع القوى السياسية تتحمّل جزءاً من مسؤولية ما وصلنا إليه في حقبات تاريخية معيّنة، لكن بعضها فقط، يحكم فعلياً اليوم، وهو بالتالي يتحمّل مسؤولية معالجة الأزمة. بهذا المعنى، "السلطة" تتمثّل اليوم بحكومة تصريف الأعمال ومَن فيها من أطراف سياسية. هذه السلطة هي التي جرى ترسيمها مع ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل. وهي السلطة نفسها المطلوب معارضتها اليوم بشتى الوسائل، لأنها المسؤولة عن المعالجات.

العقبة الثانية أمام تحديد "المعارضة" هي الاعتقاد الخاطئ بأن الطرف السياسي الذي سبق وكان في السلطة لا يمكن أن يصبح معارضة. هذا الاعتقاد لا يصلح في النظام الديمقراطي البرلماني كما في لبنان، وكما في الأنظمة الديمقراطية في العالم، حيث يجري تبادل السلطة من خلال الانتخابات، فتصبح السلطة معارضة والمعارضة سلطة، حتى ولو تقاربت السلطة والمعارضة في طروحاتهما السياسية والاقتصادية-الاجتماعية. فأهمية المعارضة في النظام الديمقراطي لا تكمن فقط بطروحاتها التغييرية، بل بكونها تحدُّ من نزعة التسلّط لدى أيّ حكومة أو حكم. وإنّي أفترض أن "الاعتقاد الخاطىء" حول مفهوم المعارضة، يمكن أن يكون سببه واحداً من اثنين: إمّا أن أصحابه لا يريدون مواجهة السلطة الحقيقية المتمثلة بـ"حزب الله" وحلفائه فيلجأون إلى التلطي وراء شعار "كلن يعني كلن"، أو أن أصحابه لا يزالون يعيشون وكأنهم في حالة ثوريّة أنتجتها الانتفاضة، وتقتضي القضاء على كافة القوى من دون تمييز، خاصّة تلك التي ساهمت في مراحل معيّنة في الانهيار الحاصل.

بعيداً من الجدل الإيديولوجيّ، تجمّعت بعض القوى السياسية البرلمانيّة واعتبرت نفسها "معارضة" للسلطة الحالية المتمثّلة بالحكومة الحالية، وعلى رأسها "حزب الله". إن تتبّع تشكّل هذه المعارضة وتوسّعها، لتشمل إلى جانب القوات والكتائب والأحرار نواباً "تغييريين" ومستقلّين، مسلمين ومسيحيين، يسمح لنا بإبداء الملاحظات الآتية:

- في غياب أيّ شكل آخر منظّم وموحّد من أشكال المعارضة، تتشكّل المعارضة الحالية من نواب، أي إنها معارضة برلمانية، تعمل في إطار النظام الديموقراطي البرلماني.

- قوى المعارضة جميعها خارج التمثيل الحكوميّ ممّا يُعطيها شرعيّة من حيث موقعها خارج إطار السلطة التنفيذية.

- هذه المعارضة لا تزال أقليّة، وهذا ما يتبيّن من عدد الذين يعارضون فعلياً دعوة بري إلى الحوار .

- تشكّلت هذه المعارضة على أثر أحداث محدّدة. شهد لبنان في ٢٧ كانون الثاني ٢٠٢٣ بداية تشكّل معارضة نيابيّة، من ٤٢ نائباً من أصل ١٢٨. الإعلان عن المعارضة الجديدة جاء على شكل نداء وجّهه النواب المعنيّون من قاعة المجلس النيابي. قام التحالف بين النواب على قضيّتين رئيسيّتين: تفجير مرفأ بيروت، وانتخابات رئاسة الجمهورية. الموقف من قضية تفجير المرفأ تركّز على التمسّك بالقاضي طارق البيطار كمحقق في القضية، وإدانة ما قام به النائب العام التمييزي بحق البيطار، والمطالبة بمحاسبته. أمّا الموقف من انتخابات رئاسة الجمهورية، فقد استند إلى الموادّ الدستورية 49 و74 و75، التي تنصّ صراحةً على أنّه متى خلت سدّة الرئاسة يُصبح المجلس النيابي هيئة انتخابية ملتئمة بشكلٍ دائم من أجل انتخاب رئيس للجمهورية، بدورات متتالية، وبشكلٍ متواصل من دون انقطاع حتى تحقيق هذه الغاية. الانطلاقة الثانية جاءت نتيجة "تقاطع" المواقف على انتخاب جهاد أزعور رئيساً للجمهورية، بوجه سليمان فرنجية، مرشّح الثنائي الشيعيّ. معظم النواب الـ٤٢ أيّدوا أزعور، كما انضم إلى هذا "التقاطع"، فريق من السلطة، هو "التيار الوطني الحر".

- بموازاة محاولات دؤوبة لمعالجة الخلاف بين "حزب الله" و"التيار الوطني الحر"، ومباشرتهما حواراً قد يفضي إلى تفاهم سياسيّ جديد، جاءت الانطلاقة الثالثة للمعارضة البرلمانية، مؤلفة هذه المرة من ٣١ نائباً، وأصدرت البيان الآتي: "توصّلت قوى المعارضة اللبنانية في المجلس النيابي إلى وضع الإطار السياسي للمواجهة في المرحلة الراهنة، فقد آن أوان الحسم، ولم يعد هناك أيّ مجال لإضاعة الوقت، أو إلى ترتيب تسويات ظرفيّة تعيد إنتاج سيطرة حزب الله على الرئاسات الثلاث والبلد، بل بات لزاماً على قوى المعارضة كافة التحرّي الجادّ عن سبلِ تحقيق سيادة الدستور والقانون، وصون الحريات على كلّ الأراضي اللبنانية، وحصر السلاح بيد الدولة وقواها العسكرية الشرعية، وعن طرق الوصول إلى سياسة خارجيّة تعتمد الحياد حماية للبنان، وإيجاد سبل لإنقاذ القضاء والإدارة والاقتصاد والوضع المالي وإصلاحها. الأطراف السياسية الأساسية التي وقّعت النداء هي: كتلة "القوات" وكتلة "الكتائب" وعدد من النواب التغييريين والمستقلّين.

- التركيبة الطائفية للتحالف المعارض تشير إلى أكثرية مسيحيّة وأقلية سنية ودرزية، مع غياب كامل لنواب شيعة. إن تحليلاً سوسيولوجياً يعطي الأهمية للعامل الطائفي في فهم التوجّه السياسيّ للتنظيمات أو للتحالفات في لبنان. قد يرى في الأمر معارضة مسيحيّة ضدّ سلطة مسلمة، وتحديداً شيعية. وهذا يتقاطع مع الانطباع العام، حول ما آلت إليه الأوضاع السياسية في لبنان. غير أن تحليلاً أعمق للواقع العام في البلد، ولأهداف البيان، تسمح بقراءة سياسية للصراع القائم، أبعد من مدلولاته الطائفية، وإن كانت لا تستطيع أن تقفز كلياً فوق هذه المدلولات. فصحيح أن تركيبة المعارضة تحمل أكثريّة طائفيّة،
وصحيح أن هذه الأكثرية الطائفية تمثل أقليّة طائفيّة على مستوى الوطن، لكن المرء لا يحتاج إلى استطلاع رأي علميّ ليعرف أن معارضة تواجه "سيطرة حزب الله على الرئاسات الثلاث"، تحظى بدعم ضمنيّ من الأغلبية الساحقة من اللبنانيين
عند المسيحيين والسنة والدروز. حتى ولو كان البارز أكثر علنياً، معارضة البيئة المسيحية لهذه السيطرة.

- الصراع السياسيّ الفعليّ على أرض الواقع هو ما يساهم في تكوين المعارضة، أي معارضة. ويُمكن للمعارضة أن تتغيّر، بتغيّر علاقات السلطة وطبيعة النظام الذي يحكم البلاد، ويتبلور الصراع السياسي في إطاره. كذلك يمكن لهذا النظام أن يكون مزيجاً من أنظمة عدّة، متعاونة أو متصارعة، ولكلّ نظام معارضته: مثلاً، معارضة للنظام الرأسمالي، معارضة للنظام الطائفي، ومعارضة لنظام من نوع آخر من مثل النظام اللبناني الحالي، الطائفي في تركيبته الدستورية، لكن العسكري-الطائفي- الديني في الممارسة، بسبب هيمنة "حزب الله" الطائفي-الديني-العسكري على القرارات السياسية، وتمدّد هيمنته على المجال الاقتصادي والثقافي على مستوى البلاد. المعارضة البرلمانية الحالية تعارض تحديداً هذا النظام الذي يهيمن عليه "حزب الله"، في حين أن من الملاحظ عدم تكوّن معارضة فعلية، علمانية بوجه النظام الطائفي الخام، ولا يسارية بوجه النظام الرأسمالي بنموذجه الريعي، القديم والمستجد. وليس مستبعداً أن يصبح جزءاً من المعارضة البرلمانية الحالية شريكاً في المستقبل، في صيغة طائفية متجدّدة، لكن من دون هيمنة كاملة لـ"حزب الله" كما اليوم، أو في محاصصة قيد التشكّل، في النموذج الريعيّ الجديد القائم على النفط والغاز. لكن ذلك لا يعني على الإطلاق ألا تكون هذه المعارضة البرلمانية صاحبة دور أساسيّ في محاولة التفلّت من هيمنة "حزب الله" على النظامين الطائفي والاقتصادي-الريعي قيد التشكّل، مع ما تحمله هذه المعارضة أيضاً من قيم برلمانية تعيد بعض الأهمّية للدستور المعطّل بمؤسّساته ومبادىء الديمقراطية والحرية التي يتضمنها. ولعلّ التمسك بالدستور يفتح الباب أمام تشكّل معارضات من نوعٍ آخر، تحمل قيم العلمانية والعدالة الاجتماعية.
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم