الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

رحلت ولم يبقَ شيءٌ على حاله… أفتقدك بشدّة ماما

المصدر: "النهار"
ايسامار لطيف
ايسامار لطيف
من ذكرياتي القليلة مع أمّي.
من ذكرياتي القليلة مع أمّي.
A+ A-

"الدني ما بتساع قلب الأمّ"… عندما كنت طفلة كانت أمي تردّد هذه العبارة دائماً، وأنا من جهلي كنت أتجاهلها وأقول في قرارة نفسي: "ما الذي تقوله هذه المرأة… تبّاً لحياتي كم تحبّ والدتي الدراما"، ثمّ أحمل كتبي وأذهب إلى غرفتي وأغلق الباب تاركةً إيّاها جالسة على الأريكة تراقب خطواتي.

 

ولسخرية القدر كُتب لي أن أراقب قبل 12 سنة رحيلها بصمت وكأن الدنيا تعاقبني على عدم فهمي قصدها آنذاك، لأجد نفسي أنا الجالسة أمام تابوت خشبي بداخله أقرب شخص إلى قلبي ترتدي فستان الزفاف الأبيض الذي كنت أشاهدها تلبسه في الصور القديمة، التي أصبحت مثلها… ذكرى جميلة تدمع لها الأعين!

في مثل هذا اليوم يحتفل كثيرون بعيد الأم، فيما نحن "الأيتام" نحترق بلوعة الاشتياق والحنين. في مثل هذا التاريخ اللعين من كلّ عام أعيد حساباتي، وأنظر إلى الصور المعلّقة على الجدران وألعن قدري ألف مرّة، فلمَ عساي أختبر هذا الفراق؟ لمَاذا لا أحتفل به كغيري؟ ما الخير والحكمة يا الله من هذا الأمر؟… كل هذه الأسئلة تراودني في لحظات ضعفي، لأعود وأستذكر كلمات ملاكي المؤمنة وهي تقول: "لتكن مشيئتك يا ربّ".

أحياناً أشكّ في إيماني، فأنا القويّة أو كما يقولون "بنت أمّها"، ولكنّهم لا يعلمون أنّني ضعيفة وعكس أمّي "البطلة"، فكيف يقارنونني بها؟ وبأيّ حقّ؟ "ماما" كانت تتلقّى جرعات الكيماوي وتذوق المرّ وهي على يقين بأن كلّ هذا لن ينفع والموت محتّم، إلّا أنّها كانت تحتضننا وتواسينا وكأنّنا نحن المرضى... أتعلمون ما القوّة؟ هي أن نحبّ حتّى لو كنّا على فراش الموت، هي أن تتصل بنا من المستشفى في كلّ يوم وهي في العلاج لتطمئن على نتيجة امتحان الرياضيات أو إذا "حبّينا الطبخة". القوّة هي أن تنظر في أعيننا لتودّعنا ونحن أغبياء ظننّا أنّها تخشى المرض بينما هي كانت تخشى فقداننا!

 


في شتاء ممطر وعاصف بدأت أمّي تشعر بالتعب، كانت تستلقي كلّ النهار وتنظر إلينا وكأنّها تودعنا، إلّا أنها كانت عنيدة ترفض دخول المستشفى أو إجراء الفحوص اللازمة خوفاً أو هروباً من الحقيقة، إلى أن أجبرها الوجع ذات يوم على ذلك، فقال الأطباء إن "مشكلتها بسيطة، وما من شيء مخيف ولكن ثمّة كيس في رحمها يجب استئصاله". على الفور بدأنا بإجراءات الدخول والتحضيرات للعملية، وفي اليوم المحدّد توجّهنا إلى المستشفى على أساس أن الأمور على ما يرام ولا داعي للهلع، فأمسكت بيدي وشدّت عليها قائلة: "إذا حدث لي مكروه انتبهي الى البيت وإلى أخيك"، فردّدت ساخرة: "بلا هالحكي يلّا بدّنا نرجع سوا". أنزلوها إلى غرفة العمليات وبعد مرور ساعات قليلة راودني شعور غريب، ومن بعده مباشرة خرجت الممرّضة تطلب منّا تأمين الدم لأنهم يواجهون مفاجأة غير متوقعة في غرفة العمليات وأن الطبيب سيخرج ليتحدّث معنا لاحقاً. 7 ساعات مرّت دهراً، 7 ساعات من الخوف والانتظار والبكاء، 7 ساعات قلبت حياتي رأساً على عقب وحلّت الكارثة… غصّ المستشفى بالمحبّين وكلّهم يردّدون: "حرام بعدا صبيّة شو رح يصير بأطفالها"، وعلى الرغم من أصواتهم العالية كنت لا أسمعهم، أو ربّما أرفض ذلك، أليس تقبّل الواقع صعباً بالأساس؟

 
 

عند خروج الطبيب أخبرنا بأنّ أمّي مصابة بالمرض اللعين الذي أتى على ذهنكم الآن، وأنّه خبيث وفي مرحلة متقدّمة، كنت أستمع إليه كراشدة وفي داخلي طفلة خائفة تبكي وتبحث عن أمّها في كلماته، وكأنّني أنتظر منه أملاً واحداً ولو ضئيلاً يُبرّد قلبي ويهدّئ من روعي، ولكن هذا لم يحدث، بل حصل العكس ووقع ما كنت أخشاه لتبدأ رحلة الألم وجلجلة العذاب والكيماوي.


لطالما كنت أشاهد في الأفلام والمسلسلات أو أقرأ في الكتب عن السرطان والعذاب الذي يتسبّب به للمريض وأحبّته، لكنّني لم أتوقع اختباره بتاتاً، وللصراحة؟ لا أتمنّاه لعدويّ، فما من وجع أكبر من رؤية من تحبّ يصارع الموت وأنت عاجز عن القيام بأيّ شيء، فلا الصلاة تنفع ولا العلاج، وحده أنين أمّي كان يعلو في الغرفة وهي تحاول إخباري ببعض الأمور أو بأوجاعها. كنت أراقبها ليلاً خشية أن يطلّ الصباح ولا تفتح عينيها، في الواقع كنت أنتظر بزوغ الشمس وأن تأتي الممرّضة إلى الغرفة لتعاينها لكي أتأكّد من أنها على قيد الحياة.



 

"صرتي صبيّة وبتفهميني، ما تبكي، كوني قويّة"، تقول أمي بصوت يرتجف ونظرة لا أنساها، فكيف لها أن تطلب القوّة من ابنة الـ14 عاماً التي علّمتها كلّ شيء إلّا كيف تحيا بدونها؟ كيف لها أن تطلب مني القوّة في لحظة ضعفي من فقدان قوّتي؟ كيف لها أن تكون أنانية وترحل؟ فأنا، نحن، بحاجة إليها؟! ألا تريد أن تفرح بنجاحي بـ"البريفيه"؟


في 17 تموز 2010، صدرت نتائج الامتحانات الرسمية، وكانت أمي حينها نصف مشلولة ولا تستطيع التكلّم، إلّا أنّني رأيت الفرحة في عينيها والفخر بي، فازداد وجعي، لأنني كنت على يقين من أنها لن تكون في المرة المقبلة، فلعنت نجاحي الذي أوجعني ومزقني من الداخل إرباً، فهل يمكن للإنسان أن يحزن في لحظات الفرح ويبكي ألماً عند نجاحه؟



 

بعد أيّام قليلة رحلت ملاكي بعدما استسلم جسدها للمرض المشؤوم، رحلت بعدما فرحت بنجاحي وكأن الله عوّضها بذلك قبل أن يتمّم مشيئته، لأتسلّم "الدفّة" وقيادة السفينة التي تركتها هي، والتي لا تزال راسية في بحر الدموع والألم منذ ذلك الوقت حتّى اليوم، فلا الرياح ساعدتني على تحريكها ولا قوّتي كانت كافية لذلك. فعذراً ماما، لم أكن ثابتة كما طلبتِ لأن فراقك هزّني وهزمني… ولست نادمة.

رحلت أمّي، وفي عيدها أقبّل حجارة المدافن الباردة لعلّها تشعر بحرارة اشتياقي إليها، فليتني أستطيع إخبارها أنني أفهمها الآن أكثر من أيّ وقت مضى، ليتني أتمكّن من أن أسرد لها قصصي المملّة بحلوها ومرّها، أن أحتضنها، أن أناديها "ماما"، فأنا منذ 12 سنة لم أتلفظ هذه الكلمة التي لا يعرف قيمتها الكثيرون اليوم، ولا عجب في ذلك فأنا كنت مثلهم في أحد الأيام، ويا ليت شخصاً واحداً على الأقل أخبرني بما كان ينتظرني، لكنت جلست تحت قدميها أراقبها ولا أتكلّم، فحتى السكوت معها كان جميلاً…

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم