الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

كيف تدفع أوكرانيا ثمن تأجّل انهيار الاتحاد السوفياتي؟

المصدر: "النهار"
جورج عيسى
مشهد من محطة قطار في منطقة دونباس (3 نيسان 2022 - أ ف ب).
مشهد من محطة قطار في منطقة دونباس (3 نيسان 2022 - أ ف ب).
A+ A-

يمكن كتابة الكثير عن الخوف الروسي من توسّع حلف شمال الأطلسيّ (ناتو) وصولاً حتى الحدود الغربية لروسيا. تبدو الحرب الروسية على أوكرانيا، أو "العملية العسكرية الخاصة" بحسب تسمية موسكو، ردّ فعل على استمرار الناتو في الزحف نحو الشرق، أقلّه بالاستناد إلى أحد الأسباب التي يعدّدها الروس في تبرير العمليّة.

على الضفة الأخرى، يمكن كتابة الكثير أيضاً عن ظاهرة انضمام الدول السوفياتية السابقة إلى الناتو بعد تفكّك الاتحاد. إنّ مسارعة دول أوروبا الشرقية إلى اللجوء للمظلّة الأطلسيّة بدلاً من الحفاظ على أوثق العلاقات مع موسكو، أو بالحدّ الأدنى البقاء على مسافة متساوية بين موسكو وبروكسل، تطرح أسئلة عدة عن الدور الروسي نفسه في الجوار القريب.

ما ينساه بعض المراقبين حين يلومون الناتو على توسّعه هو أنّ انضمام الدول إلى صفوفه تمّ عبر إرادة الحكومات المحلية، لا عبر إكراه من القادة الأطلسيّين أو الأميركيّين. وإصرار تلك الحكومات على الخيار الأطلسيّ يعني، في جانب منه، وجود نظرة ريبة إلى سياسات موسكو الإقليمية. وفي الجانب الآخر، هو يشير إلى وجود مصلحة في المؤسّسات الغربيّة لا الروسيّة. خلال أكثر من عقدين، فشلت روسيا في جذب الدول السوفياتية السابقة إلى معسكرها. تدفع روسيا وأوكرانيا اليوم ثمن هذا الفشل.

 

الاتحاد السوفياتي يتفكك اليوم... "أمام عيوننا"

عند محاولة معرفة بعض أسباب هذا الإخفاق، يقدّم المدير العام لـ"المجلس الروسي للشؤون الدولية" أندريه كورتونوف في مجلة "السياسات الدولية" الألمانية، أسباباً وجيهة. أوّلاً، وعلى عكس الشائع – إن لم يكن على عكس الإجماع – يرى كورتونوف أنّ "الاتحاد السوفياتي لم ينهَرْ في الواقع نهاية 1991، بل دخل عملية طويلة، معقّدة ومتناقضة من التفكّك الإمبريالي التدريجي". وأوضح: "منذ ثلاثين عاماً، أعلن قادة الجمهوريات السوفياتية التي أصبحت سابقة أساساً عن هدف إنشاء دول مستقلة على مسرح المؤسسات السياسية والاقتصادية والاجتماعية السوفياتية المنهارة ببطء، لكنّ عملية بناء دول جديدة دامت عقوداً عدّة وتستمرّ حتى هذا اليوم... الانهيار الحقيقي للاتحاد السوفياتي لا يحصل إلّا اليوم، حرفياً أمام عيوننا..."

عادة ما يترافق تفكّك الإمبراطوريات مع حروب داخلية. لهذا السبب، تحدّث كورتونوف عن دهشة المراقبين من التفكّك السوفياتيّ "السلميّ" و"حتى المنظّم" خصوصاً أنّ أحداً لم يضع خطة طوارئ للتعامل مع هذا الحدث.

بالفعل، ليس النزاع بين روسيا وأوكرانيا سوى جانب من جوانب انهيار الاتحاد السوفياتيّ. أوكرانيا تريد التوجّه غرباً بينما تسعى روسيا إلى نفي هذه الإمكانية عنها. بذلك، هي تنفي، بشيء من الضبابية، حق أوكرانيا بالوجود كدولة سيّدة في علاقاتها الخارجية. ينبغي تذكّر أنّ ما يحزن صنّاع القرار الروس في انهيار الاتحاد السوفياتي ليس فشل انتقال الاشتراكية السوفياتيّة إلى المرحلة الشيوعية. جوهر الأزمة قوميّ لا طبقيّ. يطمح الكرملين إلى جمع السلاف الشرقيين (المنحدرين من إرث الـ"كييفان-روس") في دولة واحدة، أو في اتحاد دول مركزه روسيا الأم (رودينا).

ترفض أوكرانيا، بشكل متفاوت بين الشرق والغرب والجنوب، الطروحات الروسية. سعي كييف للانضمام إلى الناتو هو أحد تجلّيات رفض هذا الطرح. السعي للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، بعد القبول المبدئيّ بالحياد العسكريّ، هو تجلٍّ ثانٍ. لسبب أو لآخر، فشل الرابط الحضاريّ والتاريخيّ في جذب كييف إلى موسكو. يبقى الرابط التنمويّ.

 

زيادة مشاعر انعدام الأمان

أشار كورتونوف إلى عدم تمكّن روسيا من العثور على نموذج فعّال من التنمية الاقتصاديّة يمكن تصوّره كمثال تتطلّع إليه الدول المجاورة. ليس الأمر أنّها لم تحاول. لكن تغيّر الديناميّات في اقتصادات روسيا ورابطة الدول المستقلّة ودول أوروبا الشرقيّة أدّت إلى تآكل الروابط التي صمدت بعد انهيار الاتحاد. كذلك، كانت موسكو تخسر التنافس مع الاتحاد الأوروبي في الغرب، والصين في الشرق، وتركيا في الجنوب ممّا ساهم في زيادة مشاعر العزلة وانعدام الأمان كما أوضح.

وأضاف أنّ النتيجة المفارقة لسياسة روسيا الخارجية خلال العقود الثلاثة الماضية هي تحوّل البلاد إلى قوة عالمية نشطة جداً من دون أن تتحوّل إلى زعيم إقليميّ شرعيّ، معتبراً أنّ روسيا العالميّة هي نوع من التعويض عن الفشل في بناء علاقات مستقرة مع أقرب جيرانها.

لكن إذا فشلت موسكو في بناء هذه العلاقات مع كييف قبل الحرب، فسيصعب تخيّل نجاحها في ذلك بعد نهايتها، خصوصاً إذا تحوّلت إلى حرب استنزاف. حتى الشرق الأوكرانيّ الناطق بالروسيّة والمرتبط بعلاقات قربى مع العائلات الروسية على الجانب الآخر من الحدود بات يعبّر عن حالة غضب شديد من موسكو. وثمّة خشية من تحول روسيا إلى التركيز على تدمير البنية التحتية الأوكرانية انتقاماً لخياراتها السياسية ولمقاومتها الغزو.

 

مهمّتها الأساسيّة المقبلة

لم يكن تغيّر الديناميّات في اقتصادات روسيا والدول المجاورة السبب الوحيد الذي أفقد روسيا جاذبيّتها الإقليميّة. ثمّة بعد آخر يمكن أن يدخل المعادلة. كقوة عظمى، لم تخض روسيا تنافساً مع الغرب انطلاقاً من أرضيّة متساوية. في وقت انطلق الغرب بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي في عملية بناء نموذج تنمويّ يحقّق الازدهار لشعوبه، كانت روسيا ترزح تحت ثقل انعدام الاستقرار الاقتصادي والأمني الناجمين عن هذا التفكّك، وهو أمر استمرّ حتى أوائل الألفيّة الحاليّة. استغرقت روسيا وقتاً طويلاً حتى بدأت نهضتها التي لمّا تكتملْ بعد. سبقها الغرب في النموذج التنمويّ وبالتالي في جذب الدول الاشتراكية السابقة إلى صفوفه. علاوة على ذلك، احتاج الاستقرار الروسيّ إلى قبضة أمنيّة قويّة من موسكو ممّا أفقدها المزيد من الجاذبيّة لدى جيرانها. لأسباب خارجة عن إرادتها إلى حدّ معيّن، سبق الزمن روسيا في هذا الإطار. من خلال الحرب على أوكرانيا، يمكن استنتاج وجود محاولة للّحاق به، لكنّها محاولة بالأدوات والمسارات الخاطئة.

بعد هذه الحرب، ستضطر روسيا إلى إعادة تحديث جيشها وانتشال اقتصادها من تحت أثقال العقوبات الغربية. لكنّ مهمّتها الأساسيّة التي لن تقلّ إلحاحاً ستهدف إلى بناء نموذج اقتصاديّ جديد يرفد روسيا بمزيد من الشركاء خصوصاً في دول الجوار. إنّ فشل روسيا في هذه المهمّة سيؤثّر سلباً على سياساتها الخارجيّة بشكل عامّ. وهذا على الأقلّ ما يراه كورتونوف.

 
*نُقل عن "النهار العربي"

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم