العام الأول لبايدن في الشرق الأوسط: أهداف مقبولة لكن حافلة بالتناقضات

الدكتوره مهى يحي*


استكملت الولايات المتحدة، في السنة الأولى من عهد إدارة بايدن، السياسة التي انتهجتها الإدارتان الأميركيتان السابقتان وقوامها خفض الالتزامات العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط. فاستبدلت الأهداف الطموحة التي سعت إليها في الماضي، مثل إحداث تحوّل في المنطقة ونشر الديمقراطية فيها، بأولوية متواضعة أكثر هي ضمان الاستقرار الإقليمي، كي لا تنزلق الولايات المتحدة من جديد في "مستنقع" نزاعات الشرق الأوسط.

إضافةً إلى أولوية تحقيق الاستقرار الإقليمي، ركّزت إدارة بايدن على هدفَين محدّدَين: أولًا، هي تسعى إلى إحياء خطة العمل الشاملة المشتركة، أي الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة الدول الخمس الدائمة العضوية في مجلس الأمن، إضافةً إلى ألمانيا، كوسيلة لتجنّب سباق تسلّح في المنطقة. وثانيًا، تُواصل واشنطن التركيز على مكافحة الإرهاب، ولا سيما الأعمال الإرهابية التي من شأنها تهديد الأراضي الأميركية.

لكن المشكلة الأساسية هي أن الإدارة الأميركية ماضيةٌ في تنفيذ كلٍّ من هذه الأهداف دون احتساب أثرها على بعضها بعضاً. فالتحديات التي تواجهها واشنطن في المنطقة مترابطة بشكل وثيق، إلا أن سياساتها ليست كذلك. لذا، قد تتسبّب التدابير التي تتّخذها لتحقيق مجموعة معيّنة من الأهداف بانعكاسات متسهم في تقويض استراتيجية واشنطن.


إرساء الاستقرار في المنطقة
هناك تناقضات بين الهدف الأميركي الأساسي المتمثّل بإنشاء بيئة إقليمية مستقرة، بالتزامن مع تقليص الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط. ففي ضوء تفكك النظام الذي فرضه السلام الأميركي (أو ما يُعرَف بـPax Americana) الذي ساد بعد الحرب الباردة في المنطقة، لم تُطلق واشنطن أي مسار يرمي إلى ملء الفراغ الذي تخلّفه وراءها. نتيجةً لذلك، تبنت دول المنطقة تعريفاً أوسع لأمنها القومي ونفوذها ، وذلك من خلال التدخّل في تحديد النتائج العسكرية والسياسية في بلدان أخرى يقع بعضها على مسافة جغرافية بعيدة منها. وأصبحت المنطقة، نتيجة هذه التدخلات، أقل تماسكًا وأكثر تشرذمًا، ولا تزال آفاق تحقيق الاستقرار فيها بعيدة المنال.

على سبيل المثال، باتت الإمارات العربية المتحدة، التي كانت في السابق لاعبًا إقليميًا صغيرًا نسبيًا، تضطلع بنفوذ في مختلف أنحاء القرن الأفريقي، وفي اليمن وتونس وليبيا والسودان وحتى مصر. أما تركيا التي كانت تتطلّع للانضمام إلى أوروبا قبل عقدٍ من الزمن، فتنشط راهنًا في شرق المتوسط وشمال أفريقيا والصومال وسورية والعراق وقطر. ولعلّ المسألة الأهم هي أن إيران تواصل استغلال التصدعات التي تعتري الكثير من المجتمعات العربية لتوسيع نفوذها الإقليمي.

يُعبّر الصراع العربي-الإسرائيلي خير تعبير عن تعقيدات المشهد الإقليمي. لقد اتّخذت دول عربية عدة وإسرائيل خطوات عدة لتعزيز التفاهم في ما بينهما، أبرزها اتفاقات أبراهام التي أيّدتها إدارة بايدن، لكن هذه الإجراءات ليست كفيلة بتحقيق الاستقرار. فأحد دوافع إبرام هذه الاتفاقات كان بناء تحالفات ضد إيران، ما قد يسهّل إطلاق عملات عسكرية في المستقبل. علاوةً على ذلك، أسقطت هذه الاتفاقات مبدأ الأرض مقابل السلام الذي كان في ما مضى محوريًا في المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، الذي أنتج دولة قائمة على نظام الفصل العنصري (الأبارتيد) تسمح بانتهاك حقوق الفلسطينيين على نحو سافر فيما تواصل إسرائيل بناء المستوطنات في الضفة الغربية وحول القدس، ما يقوّض إمكانية التوصل إلى تسوية للصراع ويجعل حل الدولتين مجرّد أضغاث أحلام.

وعلى مستوى العلاقات بين القوى العظمى، فالفراغ الأمني الذي يخلّفه الأميركيون في الشرق الأوسط سمح للصين وروسيا، الخصمَين الأساسيين للولايات المتحدة على الساحة العالمية، بتحقيق مكاسب عدة. قد لا يبقى هذا التطور بالضرورة من العوامل المُخلّة بالاستقرار في المدى الطويل - إذ إن الترتيبات بين القوى العظمى قد تؤدّي في نهاية المطاف إلى التخفيف من حدّة التشنجات في المنطقة – لكن في الوقت الراهن، غالب الظن أنه سيحوّل الشرق الأوسط إلى ساحة مواجهة، ولا سيما بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط/فبراير 2022. تُعوّل روسيا، منذ العام 2015، على تردّد الولايات المتحدة في التدخل في النزاع السوري، وقد حصدت نتائج دبلوماسية وعسكرية مهمّة بكلفة منخفضة نسبياً. ووسّعت موسكو أيضًا امتدادها في مختلف أنحاء العالم العربي، حتى إنها بنت علاقات وثيقة مع شركاء الولايات المتحدة المخضرمين، وقلّصت خسائرها عبر الاستعانة بمرتزقة مقرّبين من الدولة الروسية لتحقيق أهدافها السياسية والاقتصادية والأمنية.

في غضون ذلك، واصلت الصين ترسيخ روابطها الاقتصادية والديبلوماسية مع بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، موسّعةً شراكاتها الاقتصادية والتجارية، وكذلك مبادراتها في قطاعات البنى التحتية والمال والتكنولوجيا والطاقة. وأطلقت أيضًا منتديات دبلوماسية متعددة الأطراف، منها منتدى التعاون الصيني-العربي، ووقّعت اتفاقات عدة مع مصر وإيران والسعودية، حتى إنها قرّرت مساعدة المملكة في العمل على إنتاج صواريخ بالستية. ترى بلدان الشرق الأوسط في روابطها مع الصين وسيلةً لتنويع آفاق تعاملها مع القوى العالمية، ما قد يحوّل المنطقة قريبًا إلى ساحة مواجهة في إطار التنافس الأميركي-الصيني.
يُعتبر تجاهل قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان أحد العيوب البارزة التي تشوب عملية خفض الالتزامات الأميركية في الشرق الأوسط. صحيحٌ أن هذه المسائل لم تكن مطلقًا في رأس قائمة الأولويات التي تتوخّاها واشنطن في المنطقة، لكن الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان شكّل جانبًا أساسيًا من جوانب الهوية الأميركية، ويعتبره المسؤولون الأميركيون ضروريًّا لتحقيق الاستقرار الاجتماعي والسياسي.

لقد تراجعت قدرة واشنطن على الدفع نحو التغيير الديمقراطي، في ظل التغليب الدائم للمصالح على القيم. فعلى سبيل المثال، عبّرت واشنطن عن هواجسها بشأن سجل مصر في مجال حقوق الإنسان، إلا أنها وافقت في كانون الثاني/يناير على صفقة كبرى لبيعها أسلحة بقيمة 2.5 مليار دولار أميركي. وقد أتاح هذا السلوك هامشًا أكبر أمام دول عدة للانخراط في أنشطة مناهضة للديمقراطية وتجاهل حقوق الإنسان.

تحوّلت قيمٌ غالبًا ما اعتبرتها الولايات المتحدة مهمّة، مثل وضع حدٍّ لحالة الإفلات من العقاب عن الجرائم المُرتكَبة، إلى مجرّد كلام فارغ في نظر المنطقة. مع ذلك، يبقى التغاضي عن الجرائم التي يُفلت مرتكبوها من العقاب محفّزًا أساسيًا للتململ الاجتماعي. وخصوصاً في سورية حيث ارتكب نظام بشار الأسد جرائم مروّعة خلال خلال الحرب القائمة. وفيما بدأت دول عربية حليفة للولايات المتحدة تطبيع علاقاتها مع النظام السوري، بموافقة ضمنية من واشنطن، يبدو أن ما من اكتراث فعلي بمحاكمة المسؤولين السوريين. ويغيب أيضًا الزخم اللازم لتسوية أزمة اللاجئين. ففي ظل غياب العدالة الانتقالية، ما من رادع فعلي يثني القادة في مختلف أنحاء المنطقة عن ارتكاب جرائم ضد شعوبهم أو شعوب أخرى، ما يفاقم هشاشة الوضع ككُل.


الاتفاق النووي المتقطّع مع إيران
لم تسفر المفاوضات التي تستضيفها فيينا لإحياء خطة العمل الشاملة المشتركة عن أي نتائج حتى الآن. وفي غضون ذلك، تواجه الولايات المتحدة تحدّيًا مزدوجًا يتمثّل في فتح حوارٍ مع إيران من جهة واحتوائها من جهة أخرى. في الوقت الراهن، ليس واضحًا بعد ما إذا كانت طهران ستلتزم من جديد بالشروط التي فرضها الاتفاق. وفي حال لم يتم التوصل إلى اتفاق واقتربت إيران من مرحلة تصنيع سلاحٍ نووي، ستسعى الدول المحيطة بها على الأرجح إلى تطوير برامجها النووية الخاصة، وقد تزداد احتمالات تنفيذ إسرائيل هجوماً على المنشآت النووية الإيرانية مما سيودي الى تداعيات كارثية تلقي بظلالها على المنطقة.

لكن هل السيناريو المعاكس صحيحٌ؟ بعبارة أخرى، هل سيتحقق الاستقرار إذا استؤنِف العمل بالاتفاق النووي، أو حتى إذا تم التوصل إلى اتفاقٍ أقل طموحًا ينصّ على تعليق إيران تخصيب اليورانيوم مقابل إعفائها من بعض العقوبات؟ كلّا، على الأرجح. فغالب الظن أن تخفيف العقوبات سيُدرّ تمويلًا إضافيًا لحلفاء إيران وأذرعها في المنطقة، وتحديدًا في لبنان واليمن والعراق وسورية. تعتبر دول عربية كثيرة، وتحديدًا دول الخليج، أن الأنشطة التي تضطلع بها هذه المجموعات مُخلّة بالاستقرار إلى حدٍّ كبير، وقد تستدعي من هذه الحكومات ردودًا تسهم بدورها أيضًا في زعزعة الاستقرار.

وتكمن المفارقة في أن التوصّل إلى اتفاق يرمي إلى تجنّب حدوث سباق تسلّح في المنطقة، وبالتالي إلى توطيد الاستقرار الإقليمي، قد يؤدي في الواقع إلى قدر أقل من الاستقرار، وبالتالي إلى زيادة عمليات شراء الأسلحة. فما يتجاهله صناع السياسات الأميركيون هو أن إيران، بعد عقود من المواجهة مع الولايات المتحدة وعدد من الدول العربية، باتت تضع نُصب أعينها هدفًا أساسيًا هو الحفاظ على بقاء نظامها القائم وعلى ديمومة منظومتها السياسية والاجتماعية. ولضمان ذلك، ترى طهران أن عليها الحفاظ على النفوذ الذي اكتسبته في عددٍ من الدول العربية.


إبعاد شبح التطرّف
أخيرًا وليس آخرًا، لا تزال مكافحة الإرهاب في صُلب الأولويات الأميركية في الشرق الأوسط. لكن إذا اكتفت إدارة بايدن بتناول هذه المشكلة من زاوية أمنية وحسب، فستكرّر بذلك أخطاء الإدارات السابقة. حين تتناول الولايات المتحدة مسألة الإرهاب بمعزل عن الديناميكيات الإقليمية –- فهي تركّز على تجلّيات العنف، وليس على الأسباب الكامنة التي تدفع كثيرين نحو التطرّف. وللأسف، تتعدّد العوامل التي ستؤدي في بعض الحالات إلى حشد المجموعات المتطرفة العنيفة دعمًا شعبياً متناميًا، وأبرزها مشاعر السخط الاجتماعي الناجمة عن التوترات والصراعات الإقليمية المتواصلة، وفقدان ثقة الشعوب في قادتهم السياسيين وفي مؤسسات الدولة، وتسييس الانتماءات الطائفية، والتفاوت الكبير في الدخل، والتأخّر الفادح على مستوى التنمية، وتفاقم تبعات التغير المناخي، وغيرها.

إذًا، من غير المجدي الاكتفاء بمكافحة الإرهاب من دون السعي إلى اجتراح حلول طويلة الأجل. لا بل ينبغي التركيز على تكثيف البرامج التي تُساعد على إرساء الاستقرار في المرحلة اللاحقة، وذلك عبر اتّخاذ خطوات عدّة أبرزها: تحسين الحوكمة، وإطلاق عمليات إعادة إعمار عادلة ومنصفة، وإعادة دمج السكان الذين عاشوا تحت نير هذه الجماعات في دولهم عبر توفير فرص مناسبة لهم.

على الرغم من التحديات العالمية والأولويات المتزاحمة التي تواجهها الولايات المتحدة، تبرز الحاجة اليوم وأكثر من أي وقت مضى، إلى التزام سياسي أميركي أكثر تماسكًا في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فمواصلة السعي خلف أهداف متضاربة سيؤدي حتمًا إلى السيناريوات نفسها التي تحاول واشنطن تجنّبها. في غضون ذلك، بدأت الدول المتنازعة في المنطقة بملء الفراغ الذي تخلّفه الولايات المتحدة. لكن الأحداث التي ستنجم عن ذلك قد تدفعها للعودة مجدّدًا إلى منطقةٍ يشعر الأميركيون بأنها استنزفت قدرًا مُفرطًا من طاقتهم.


*مديرة مركز مالكوم كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت