قد يكون ما طرحه المفكِّرون في لبنان من أبحاث حول خاصيّة هوية الوطن وتاريخه وانتماء أبنائه، مفيدًا وجميلًا؛ لكنّ ناجي نعمان اختلف عنهم، إذ قارب هذا الأمر بشكل يستسيغه القارىء، وتغتبط به الحقيقة. وقد بان هذا جليًّا في كتابه "لبنان الوجود والعدم"، الذي تتهلّل به الثقافة، وينشرح الأدب، ويتألّق الوطن بمضامينه الفكرية.
بعد المقدّمة، يطالعنا بابان: الأول بعنوان "لبنان الوجود والعدم"، ويحتوي ثلاثة عشر فصلًا؛ والثاني بعنوان "آفاق لمستقبل"، وقد ضمّنه المؤلف ستة ملاحق، كانت قد نُشرت في صحف وعلى مواقع إلكترونية.
في هذه الفصول والملاحق، قارع نَعمان الواقع المشؤوم، منذ فجر لبنان، ليستشرف جوهر الوطن والمواطَنَة، في محاولة لوضع الحلول الناجعة. فجاء ما ورد في كتابه، بمثابة تعليمات لتطبيق قوانين منسية في الأدراج، وأخرى تحلم بحبر كياني يتحقّق من خلاله الوطن المرتجى.
ولكي يكون متصالحًا مع ذاته، وربّه، ومجتمعه، ووطنه، انكبّ نَعمان على معضلة شائكة، متمثّلة بعنوان الكتاب "لبنان الوجود والعدم"، هذه المعضلة التي تؤرِق الكثير من المفكرين والمحلّلين وعلماء الاجتماع والسياسة؛ مشيرًا إلى دالّة هذا الوطن المسمّى "لبناننا"، بمصطلحات: الغاية، والهدف، والآمال المنوطة بشبابه. فقد عرض جميع الوقائع التي كبّلت تقدّمه، من دون تخصيص، وبطريقة مغايرة لما تفعله المنظّمة الدولية (ويكيليكس)، التي تنشر تقارير وسائل الإعلام الخاصّة والسريّة، من مصادر صحفية أو تسريبات أخبارية مجهولة المصدر، مسمّية الأشخاص بأسمائهم، خدمةً لمصالح دول وأنظمة، على حساب مجتمعات فقيرة يتحكّم بها فكرٌ سياسيّ معاق. عمّم نَعمان المشكلة على كل الذين اعتلوا سدة المسؤوليّة، منذ نشوء دولة لبنان، فاستحوذت الأحداث والأنظمة والتشريعات والاتفاقات وقوانين الانتخابات، منذ عام 1840 إلى تاريخ تدوينه الكتاب، على مجمل السطور. وقد قصدَ عرضها مجرّدة إلّا من الحقيقة، من أجل الوصول إلى وطن أفلاطوني.
ما انفكّ النَّعمانيّ، في محاولة كشفه مكامنَ التاريخ، متجرّدًا من الهوى السياسي المتّبع، فلم يكن في سرده ضحيّة الوقائع التاريخية المغلوطة، أو المعطيات السياسية غير الدقيقة والمأساوية في آن معًا؛ عبّر تعبيرًا حيًّا عن فرادة الكيان اللبناني وبُعده الإنساني والتاريخي، واصلًا بين الماضي العريق والحاضر الغريق، عند قوله: "ولا شكَّ أيضًا، في أنَّ لبنان قد سُكن، سهلًا وجبلًا، منذ القدم؛ و(إنسان لبنان الأول)، وبقاياه في بلدة حالات بالقرب من مدينة جبيل على الشّاطئ اللّبناني، تشير إلى وجود بشريّ متميِّز منذ أكثر من مئةٍ وخمسين ألف عام، كما تفيد الحفريات، ولا سيّما في مدينة جبيل، أنّ الألف الخامس قبل الميلاد عرف جماعات تعمل في الخشب والتّجارة في هذه المنطقة".
فإذا ما عرّجنا على واقع نظامنا الاجتماعي اللّبناني، نلحظ الصبغة الفريدة التي يمتاز بها الأفراد والمؤسسات، وقد سبر الكاتب غور هذا المعطى بالتحليل الموضوعي، وحدّد بشكلٍ لا خلل فيه مشاكل هذه المجتمعات، المطبوعة على النرجسية في العمل كما في الأدب، عندما قال: "... وذلك لِـ (التّشاوف) وكسب ثقةٍ غير موجودة في النّفس كما في الوطن، من قبل مؤسّسات، هامّة كالمصارف والجامعات، وحتّى المستشفيات، وأخرى أقلّ أهميّة قد تنتهي بحانوتي المحلّة! وهكذا، لا اندهاش أمام لافتاتٍ تحمل أسماءً من مثل: (أمير الشّاورما)، و(ملك الفلافل)، وربّما (إمبراطور الطّاوُوق)."
عند قراءة هذه الفقرة "واللّبنانيُّ في تقليده الآخرين، قد يكون صاحب نكاية: (تَيِنكي جارو بْيِحْرُأ شِرْوالُو)؛ فيفتح مثلًا مكتبة، لا لحاجة المحلّة لها، بل ليضايق جاره لأنّه خالفه في أمر ما، وقد ينتقل ولاؤه من زعيمٍ سيّىء إلى آخر، أسوأ، للسّبب عينه!"، يحضرنا قولٌ للدكتور أنيس فريحة في كتابه "القرية اللّبنانية حضارة في طريق الزوال": "في كلّ قرية لبنانية حزبان أو ثلاثة أحزاب متطاحنة، وقصّة اللّبناني الفقير الّذي أشعل اللّحاف الوحيد الذي يغطي به أبناءه ليلًا ابتهاجًا بفوز حزبه، يعرفها كلّ لبناني. عندما سُئل إذا كان يعرف الحاكم أو النائب الذي فاز قال: لا، ولكن نكاية بجاري".
وقد انسحب الحديث على الأحداث التاريخية ومسبباتها، مرورًا بنرجسية المجتمع، ورؤيته القاصرة للمستقبل، وصولًا إلى لعبة الطوائف التي لا تقبل الخروج من وهادها، وحصونها، ومتاريسها؛ كما تناول واقع الوطن الذي وُضعت مقدّراته بعهدة سياسيين منتخَبين و/أو معيَّنين على أساسٍ طائفيّ غير وطنيّ. فكيف لبلد بهذه الخاصّية السّلبية الهمجية، أن يتطور ويتقدّم، في ظل صراع مستدام بين طوائفه المتعددة؟! وهذا جليّ في الأقوال المدرجة ضمن الكتاب ومنها: "لعلّ العصبيّة الدّينيّة والطائفيّة والمذهبيّة هي أبغض ما يستخدمه السّياسيون في إرساء زعاماتهم، وفي تنشيطها، كلّما خبا شأنهم، وضعف شأوهم؛ ولطالما جهلوا ما هو الدّين، وإلامَ يدعو. لهؤلاء أقول: لو عاد الأنبياء لبكوا أبناء مللهم. وفي المناسبة لو عاد العقيديّون لبكوا ما كتبوا وناضلوا من أجله؛ أو رجع تقليديّو الزّعماء، بكوا الأبناء الّذين تركوا خلفهم، وأورثوا".
إذا كان مالك أبي نادر قد خطَّ كتابه "قوانين انتخاب المجلس النيابي في لبنان منذ المتصرفيّة حتى 2008"، بروحٍ عاشقة للقوانين والديمقراطية، فإنّ ناجي نَعمان دأب على وضع قوانين انتخابية تضاهي بالكمّ والنوع والمضمون والمفعول جميع قوانين الانتخاب المذكورة في كتاب أبي نادر، والتي اعتُمدت منذ المتصرفية إلى ما قبل القانون النسبيّ الأخير. لقد أرسلَ نَعمان هذه القوانين إلى رؤساء الجمهورية والمجالس النيابية والحكومات، وكوكبة من النّواب ووزراء الداخلية، لكنّهم أهملوها؛كانت النسبيّة ظاهرة في معظمها، جزئيًّا أو كليًّا، بشكلٍ يخدم التمثيل الصحيح، خلافًا للقانون النسبيّ الأخير الّذي يخدم الديمقراطية ومصلحة المواطن في الظّاهر، ولكنّه سمح بتحالفات واصطفافات مروحية متناقضة، لا تخدم إلّا الطائفيّة والمحسوبيّة والتبعيّة على حساب الوطن. وكانت جميع القوانين السابقة، على غرار القانون النسبي المعمول به حاليًّا، أوراقًا رابحة بيد الزعماء الطائفيين، في حين أنّ المواطن المقهور لم يكن يملك أي ورقة رابحة سوى الورقة التي يُسقطها في صندوق الاقتراع بعدما قبض ثمنها بعض المال، لا تشريعًا عادلًا يحفظ حقوق جميع المواطنين الأساسية، وبصورة مستدامة.
إنّ مشروعيّة السؤال عن أهمية لبنان، تقودنا بشكل حثيث إلى طرح سؤال في المنحى ذاته: فكيف لبلد مثل لبنان أن ينهض، وأبناؤه متعلقون بوهم مفردات لا تُفضي إلى سوى التقاعس والاتكّال على الغير، كمصطلح "لبنان ضرورة وجودية"؟! أجاب ناجي نَعمان عن هذه الأسئلة بوضوح: "لم يكن لبنان، على الأرجح، ولم يعد، على الأكيد، مصلحةً حيويّةً للغرب إلّا في ما يتعلق بأمن إسرائيل، ذلك أنّه مجالٌ شبه مستباحٍ لاستخبارات دول هذا الغرب، كما لغير دول في أربعة أصقاع الأرض".
هل يعمل جميع السّياسيّين اللبنانيّين لمصلحة الشّيطان؟ فرَفعُ الدعم عن المواد الأساسيّة، وخاصّة المحروقات، ومنها مازوت التدفئة، سيجعل لبنان يسير بسرعة قصوى على طريق التّصحّر؛ فالصقيع لا يرحم، وكلّ ربّ أسرة ملزم بتأمين الدفء لأولاده، وعليه سيذهب شطرَ الأحراج، قاطعًا منها المعمّر والطريّ العود. فمن من هؤلاء السياسيين تُراه يدخل نادي الألوهية الّذي تحدّث عنه نَعمان؟ إذ قال: "وأجد، شخصيًّا، أنّ أيَّ مسؤول في لبنان، يَستطيع إعادة تشجير البلد إلى الثلث، على كلّ اللّبنانيّين أنْ يجعلوا منه نصف إله".
هل ضاع الشباب اللّبناني بين قناعة البقاء وحلم الهجرة؟ فكيف لأولادنا أن يستمروا بعدما نُهبت ثروات الوطن؟! وكيف لمجتمعٍ أن يُهجر بكامله؟ وما هو الحل لهذه المعضلة؟ "ألا فليكن معلومًا أنّ الفساد والهدر تسميتان (تخفيفيّتان) للسّرقة الموصوفة. والسّرقة، هنا، ليست عاديّة، ولا تظلم إنسانًا واحدًا كيما يستسمحه السّارق يومًا. ويعوّضه منها، بل تظلم شعبًا بأكمله، حيث لا يعود الاستسماح ممكنًا، وكذا التعويض".
عرض نَعمان في كتابه مجمل الموبقات الوطنية في لبنان، من عدم مبالاة شعبه، إلى جشع سياسييه... طارحًا معادلة عادلة، أوجدت خارطة طريق نقاطها من ألوان النسيج اللّبناني المحبوك بخيوط المكونات البشريّة اللّبنانيّة؛ ووضعت فكرة الوطن الدّولة، في صورة مثالية تسعى لاكتساب شرعيتها من خلال العمل المؤسّساتي الدؤوب؛ كما لحظَت تطوير مؤسّسات دستورية (مجلس الشيوخ على سبيل المثال لا الحصر)، وإدارة رشيدة ومنهاج حكم يُعلي من شأن كلّ المؤسّسات، ويضمن الحرّيات العامة، والتشريع الصحيح، والحقوق الفرديّة، والحق العام، واحترام القانون... بالرغم من أن اتفاق الطائف قيّد المجتمع بقيود الطائفيّة.
في سرده، نحت ناجي نَعمان بيراعه صخور لبنان، راسمًا تضاريسَ وطن مثالي. كان قاضيًا نبيهًا، فبرغم الواقع الظّالم الذي يحوي الإهمال المتعمّد، والجشع الذي لا حدود له، عبَر إلى أهدافٍ محدّدة، نستطيع من خلالها البدء بمعالجةٍ حقيقية وعلمية لواقعنا السياسي المجتمعي المتفرّد. لقد حلّق بأجنحة فكره ليشمل مجالُ رؤيته الوطن، فوقع على أجمل بقعة جغرافيّة، ولكن بدون أساس لدولة تحميها.
طالما ظلّت الفكرة القاتلة، بأنّ طائفتك أيّها اللّبناني، هي المعبَر الحقيقي للحصول على حقوقك الأساسيّة في بنية دولتك، سيبقى المُدِرك المتيقظ، والوطني الفطن، يردّد إلى ما لا نهاية مع ناجي نَعمان: "وَطني، سيَذْكُرُ التَّاريخ في جُرْحِكَ، أنَّ شَعبَكَ لَم يَسْتَحِقَّكَ".