السبت - 18 أيار 2024

إعلان

البندقية 80 - "كائنات مسكينة": انبعاث امرأة وتحررها

المصدر: "النهار"
هوفيك حبشيان
"كائنات مسكينة" من أحبّ الأفلام إلى قلوب النقّاد في مهرجان البندقية هذا العام.
"كائنات مسكينة" من أحبّ الأفلام إلى قلوب النقّاد في مهرجان البندقية هذا العام.
A+ A-
أصبح يورغوس لانثيموس "قيمة" في مجال الفنّ الصوري الذي يفتح أبوابه على فكرة ان المستحيل ليس سينمائياً. بعد سلسلة أفلام تحرض المُشاهد على نبذ المعتاد والمكرور، بدأ هذا اليوناني يبحر في محيط أوسع من ذلك التي كان مجاله في بداياته، واللافت انه لم يخسر شيئاً من حسّه الابتكاري، خلافاً للعديد من أسلافه الذين خسروا شيئاً ما، عندما انتقلوا من الهامش إلى المتن. سُرق لانثيموس من بلده اليونان، لكن لم يُسرق من نفسه وهواجسه التي لا يزال يمارسها بحرية وبموازنات ضخمة وممثّلين كبار من الذين يمتلكون حسّ المغامرة. الموهبة خلف الأطلسي، تُعتبر منجم ذهب، لا عاقل يفرط فيه.

لا يُمكن ان نجزم ان جديده، "كائنات مسكينة"، الذي يتنافس حالياً على "الأسد الذهب" في مهرجان البندقية السينمائي الـ80 (30 آب - 9 أيلول) يذهب أبعد من أي وقت مضى، في بثّ مشاعر الاضطراب والقلق والسقم التي عوّدنا عليها في أعماله السابقة. نكتفي بالقول انه مختلف، يمدّنا بإحساس ان مخرجه ينبعث من جديد، خصوصاً في ضوء النسوية التي اكتشفها.
 
(إيما ستون في قمّة عطائها الفنّي). 
 
جنس وعمليات جراحية، مَشاهد عنف وتوحّش وأشكال مخيفة، جلود ولحوم بشرية ودم… هذا بعض ممّا جاء في "كائنات مسكينة" الذي نال تصفيقاً حاراً لدى عرضه الصحافي، وذلك فور صعود الجنريك وظهور اسم المخرج (بات له العديد من الهواة حول العالم)، وبدا هذا التصفيق الأقوى على مدار المهرجان. لم يتوقف الحضور عن الضحك طوال مدة العرض التي تجاوزت الساعتين وعشرين دقيقة. يجب التوضيح ان هناك ما يُضحك في الفيلم، ضحك ينبع من أماكن عبثية. أما المقالات التي أثنت على الفيلم، مشبّهةً إياه بـ"فرنكنشتاين" نسخة نسائية، فهي تأكيد إضافي اننا أمام عمل يملك مقومات الاغواء.

اقتبس لانثيموس فيلمه هذا من رواية للكاتب الاسكتلندي ألازدير غراي، وفضلها كبير في نجاح الفيلم وتفوقّه. فنحن أمام عمل فانتازي علمي-خيالي سوريالي مشغول بالسرد وبقول حكاية، بقدر اهتمامه بالتعليق والإضافة، وربط هذا كله بتاريخ سينما معينة، هي سينما الكائنات المشوهة والغامضة من ذوات القلب الكبير. يأتينا لانثيموس بحكاية يرويها بشكل خطي، واضح، محترماً عقل المُشاهد، فنغرق حتى الرأس في تفاصيلها الكثيرة والمثيرة، ولا فكاك من تأثيرها الضاغط علينا حتى بعد الخروج من الصالة. لا فذلكات ولا تعقيدات! وبالتأكيد، لا مصادفة، إذ ثمّة تشابه كبير بين الرواية والأجواء والتفاصيل والأفكار التي قدّمها لانثيموس في أفلامه الماضية.

باكستر (ويلَم دافو في دور يبرع فيه) هو دكتور غريب يعاني تشوّهات في وجهه تحوّله مسخاً. تبدأ الحكاية مع انتشاله جثّة سيدة (إيما ستون في ذروة عطائها) ألقت بنفسها من أعلى الجسر هرباً من زوجها. تتمّة القصّة من أغرب ما يكون: سيبدل الدكتور مخ مَن سيسمّيها بيلا، بمخ جنينها، وفي النتيجة سيعيدها إلى الحياة. من متخلّفة عقلياً، بعد خضوعها للجراحة العجيبة، ستغدو بيلا تدريجاً، وهي خلاصة اختراع علمي مجنون، إنسانة جديدة لها قرارها الخاص وحرة في اختياراتها الحياتية، ممّا سيجعلها تنتقل إلى باريس حيث ستسلّم نفسها لرغباتها الجنسية. وكلّما تحررت، تحرر الفيلم معها، إطاراً وألواناً وعلى المستويات كافة، فتخلّى عن الأسود والأبيض لمصلحة الألوان الفاقعة المبهجة. وهذا يغدو مناسبة للانثيموس ليؤكد مرة جديدة هوسه الشكلاني. الارث البصري لكوبريك حاضر كثيراً في سينماه، خصوصاً في استخدامه الزوم.
العالم الذي تجري فيه الأحداث يتناسل من مخيلة لا تنضب، بألوانه وجمالياته وارتباطه الوثيق بالقصص الخرافية أو حتى بالقصص المصوّرة، وإنْ أُعطيت بعض الأماكن أسماء كلندن أو الإسكندرية، لشبونة أو باريس، وهي المدن التي ستحط فيها بيلا. أما النبرة التي صاغ بها لانثيموس فيلمه، فهي تلك المترددة بين الكوميديا والسوريالية وصنفٍ من الأفلام يحرص على تصوير أحشاء الإنسان وتقطيع الأطراف وإجراء أغرب العمليات الجراحية من دون أي اعتبار لأصحاب القلوب الضعيفة. من هذا الكونتراست بين مستوى هزلي وآخر أكثر سوداويةً في مقاربته للطبيعة البشرية، يستمد الفيلم جماله ورونقه، فهو مزيج من هذا وذاك، وأغلب الظنّ ان هذا النهج هو سبب إعجاب النقّاد به، خصوصاً انه غير معلَّب ولاخطابي ويأتي بروح مختلفة.
 
(يورغوس لانثيموس وإيما ستون خلال التصوير). 
 
في النهاية، هذا فيلم عن امرأة، كيف تموت وتنبعث من جديد، وكيف تبني نفسها من حطام وبقايا ما كانته، وكيف تستعيد ادارة حياتها، وكيف تتعرف الى السعادة والرغبة. لكن، بدلاً من ان يذهب لانثيموس إلى الترويج للنسوية على نحو مبتذل، وجد السبيل إلى ان يجذبها إلى عالمه ليتحدّث بمفرداته هو. أما إيما ستون، التي نكتشف لها هنا طاقة كوميدية غير متوقعة (هي أيضاً منتجة الفيلم)، فتتحرر كممثّلة بقدر تحرر شخصيتها. قدرتها على المزج بين طفولة في أولى مراحل اكتشافها للحواس، مقابل تحررها الجنسي كامرأة، ستبقى "مدرسة".




الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم