الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

كوريسماكي: دعابة شمال أوروبية تفوح منها رائحة الخمر!

المصدر: "النهار"
هوفيك حبشيان
آكي كوريسماكي في مهرجان كانّ 2023.
آكي كوريسماكي في مهرجان كانّ 2023.
A+ A-
عندما سُئِل آكي كوريسماكي عن سبب الوجود المتواصل للكلاب في أفلامه، كان جوابه: "الكلاب لا تطلب مكافأة مالية وليس لديها نقابة!". في جملة واحدة، لخّص المخرج الفنلندي الكبير، المولود قبل 66 عاماً في مدينة تقع في جنوب فنلندا، نوع الدعابة التي كان ولا يزال سيداً فيها سواء داخل أفلامه أو خارجها.
لم يدرس كوريسماكي، عاشق "الموجة الفرنسية الجديدة"، السينما دراسة أكاديمية، بل تعلّمها من خلال مشاهدة الأفلام في نوادي السينما في محيط العاصمة هلسنكي التي كان عضواً فاعلاً فيها. يُقال انه لم يتم قبوله في مدرسة السينما لأنه كان لئيماً. لكنه التحق بكلية الإعلام لثلاث سنوات، وكان هذا على حد تعبيره وقتاً مهدوراً من حياته، كان الأجدر به ان يمضيه وهو يتعلّم النجارة.
 
في مقابلة تعود إلى العام 1990، يقول انه بدأ في "بزنس" الأفلام بالمصادفة، ذلك انه كان يجهل ماذا يفعل في حياته و"لم يكن يصلح لشيء". قبل السينما كان يعمل في البناء، كشخصية فيلمه الأحدث "أوراق ميتة" المعروض في مسابقة كانّ 2023، ثم دخل مجال الفن عبر التأليف والتمثيل (لا سيما في أفلام شقيقه الأكبر ميكا). لم يدرس لا الإخراج ولا الفنّ الدراماتيكي. في البداية، تورّط في أفلام كان مصيرها الفشل ولكن مع "الثلاثية البروليتارية" بدأ يلفت الانتباه، في أوروبا عموماً، وفي فرنسا خصوصاً. أفلامه الأولى حملت هموماً اجتماعية، بيد انه لم يكن يوماً مسيساً بالمعنى الإيديولوجي. رغم انه لا يعطي أجوبة مباشرة على مثل هذه الأسئلة، يُعرِّف عن نفسه كشخص غير محافظ.
 
“يوها”.
 
 إيجاد عنوان عند كوريسماكي يسبق عملية كتابة السيناريو. يجد عنواناً ثم يكتب الفكرة التي في رأسه وهي لا تتطلب أحياناً أكثر من بضعة أيام بعد ان تكون قد تخمّرت في مخيلته أشهرا عدة. عندما سأله محاور برنامج "سينما سينما" الشهير اذا كان ممكناً ان ينجز "ثلاثية بورجوازية" على نسق "ثلاثيته البروليتارية"، كان رده انه لا يستطيع فعل ذلك حتى لو كان راغباً. "أخسر الموهبة القليلة التي أملكها حين أذهب إلى مكان بورجوازي"، يقول ساخراً. أما عن تسمية بروليتاريا، فيقول ان تسمية "لوزر" (خاسر) في الإشارة إلى شخصياته أصح وأدق. "هؤلاء درجة تحت البروليتاريا. لا يملكون الوعي الانتمائي الكافي. خاسرون فحسب، يعيشون حياتهم هكذا. ينضمون إلى النقابة اذا طلب أحدهم منهم ذلك، لكن اذا لم يقترب أحد منهم، فلن يعرفوا شيئاً عن العمل النقابي. أقرر دائماً أن أنهي أفلامي نهاية تعيسة، ثم أنظر إلى الشخصيات وأشعر بشفقة تجاهها، ثم أغيرها إلى نهاية سعيدة في اللحظة الأخيرة".
 
لم يختر كوريسماكي السهولة منذ بداياته، رغم البساطة الشديدة في أفلامه، ذلك انه قرر أفلمة "الجريمة والعقاب" لدوستويفسكي في اقتباس سينمائي كان لافتاً. نحن الآن نتحدّث عن مطلع الثمانينات، وكوريسماكي في بداية العشرينات من عمره. فيلمه التالي، "نقابة الكالاماري" انحراف عن مسار الفيلم الأول، أنجزه كي يمنع أي محاولة لتجاوز نفسه مقارنةً بباكورته. الا ان "فتاة أعواد الثقاب" (1990) محطة في مسيرته وبداية تكريسه دولياً. الفيلم يروي حكاية فتاة تتعرض للاستغلال في العمل وفي الحب. التسعينات كلها ستكون حافلة بالأفلام، وصولاً إلى رائعته "الرجل البلا ماضي" الذي سيفتتح به الألفية، وهو عن رجل يفقد ذاكرته بعد تعرضه لاعتداء جسدي، قبل ان يحاول بناء حياته مجدداً مع المتشردين وبمساعدة جمعية خيرية. الفيلم فاز بالجائزة الكبرى في مهرجان كانّ السينمائي.
 
من اللقطة الأولى، يدرك المُشاهد النبيه أنه أمام فيلم لكوريسماكي الذي يفضّل ان ينعت اسلوبه بالميلودرامي. اللون، الكادر، الوجوه، النحو الذي يتحرك فيه الجميع داخل المساحة، الإيقاع، نوعية الحوارات، نظرات الشخصيات بعضها لبعض، الديكورات الحزينة… هذا كله يتكرر من فيلم إلى فيلم ليصنع عالماً كاملاً متكاملاً. العين تعتاد على التفاصيل ولا تخطئ مع السينمائيين الذين يجروننا إلى عوالهم. هذا شأن مخرجين عديدين مثل روي أندرسون وجاك تاتي وترنس ماليك وغيرهم.
 
“الرجل البلا ماضي”.
 
برنار جيني أجرى هذه المقابلة العبثية القصيرة مع كوريسماكي في بداية التسعينات عن فيلمه "رعاة بقر لينينغراد يذهبون إلى أميركا".
- فيلمك عظيم. طريف.
 
- لا، انه تراجيديا.
- لماذا تراجيديا؟
- لأنه فيلم فاشل.
- لماذا فيلم فاشل؟
- لأنني فاشل.
- ولماذا أنتَ فاشل؟
- لأنني حزين.
- ولماذا أنت حزين؟
- لا أعرف، انا هكذا منذ ولادتي.
- لهذا السبب أنت فاشل؟
- لا، لأنني فنلندي.
- ماذا تقصد؟
- أقصد إنني أعيش في بلد متلف.
- مَن أتلفه؟
- المصارف، شركات التأمين، أفسدوا الغابات مقابل أجهزة كومبيوتر ومراكز نووية.
- التطور التكنولوجي ألا يقدّم بعض الجوانب الإيجابية؟
- لا، ليس عندنا.
- لماذا؟
- لأننا شعب حزين.
- كيف يُترجَم هذا الحزن؟
- الناس يشربون الخمر أكثر فأكثر، يتعاركون أكثر فأكثر، ينتحرون أكثر فأكثر.
- انه الأبوكاليبس!
- لا، انها فنلندا.
 
“الجانب الآخر للأمل”.
 
 كوريسماكي الذي ظلّ المخرج الفنلندي توفو توليو مثله الأعلى، حنون إلى أقصى درجة مع شخصياته، حتى عندما يصوّر شخصاً خاسراً. هناك تيمة تعزّ على كوريسماكي الذي يحلم بعالم أفضل وفي الحين نفسه يعرف استحالة تحقيقه: التكاتف البشري، خصوصاً عندما يصوّر شخوصاً تتساوى أحوالهم، وإن أتوا من بيئات مختلفة. لا يصعب إيجاد تاجر قمصان يترك زوجته (هي أيضاً تحلم بالرحيل إلى مكان آخر)، ليبدأ حياةً جديدة ومهنةً أخرى (المطعم). بيد ان فكرته الصغيرة عن التضامن البشري يطعّمها بالمواقف الهزلية المينيمالية المتأصلة في "هيومر" شمال أوروبي تفوح منه رائحة الخمر.
 
هذا ما يحدث تحديداً في "الجانب الآخر للأمل"، فيلمه ما قبل الأخير الذي عرضه قبل ست سنوات في برلين، وهو حكاية عادية للاجئ سوري يصل إلى هلسنكي على متن باخرة، بعدما طمر نفسه في الفحم. ولكن مع كوريسماكي لا شيء عادياً، فهو بليغ في قدرته على جعل الآخرين يطبّعون معه ومع عالمه السينمائي. الوافدون الجدد يتحرّكون مثلما تحرّكت دائماً شخصياته داخل الكادر تاركين مسافة بين الفعل وردّ الفعل. وهناك في طبيعة الحال، كلّ تلك الأشياء التي حفلت بها أفلامه: أثاث البيوت الكيتش والعتيق التي أكل عليها الدهر وشرب، الوجوه الحائرة المترددة، الكادر الخانق، الأجواء الرمادية الكئيبة.
من دون إيمان كبير في الإنسانية التي يذكّرنا بضرورة العودة إلى قيمها السامية، يدعو كوريسماكي إلى التقاط بعض أشعّة الضوء التي تتسرب من الظلام. وهو في ذلك شاعرٌ وسياسي!
 
“أوراق ميتة”.
 
عُرض "يوها" (ريمايك لواحدة من كلاسيكيات السينما الفنلندية) في لبنان العام 1999. فيلم فنلندي، صامت، وبالأسود والأبيض. استقطب عدداً لا بأس من السينيفيليين. انها هذه الاعجوبة التي اسمها كوريسماكي. وكان مهرجان السينما الأوروبية في بيروت يحرص على الاتيان بآخر ما خرج من مخيلة هذا المخرج. في مقابلة لي مع كاتي أوتينن، الشقراء ذات الحضور الململم والأداء المقتصد في الحركة والتعبير، التي أطلت في عشرة أفلام لكوريسماكي، روت لي كواليس عملها مع كوريسماكي: "آكي تعلّم إنجاز الأفلام وهو يشاهدها. هو هاوٍ كبير للأفلام الصامتة. لديه أيضاً هوسٌ بالأفلام المصوَّرة بالأسود والأبيض وتدرجاتهما، بسبب الظلال التي تحويها. في اعتبارك مُشاهداً، هذه الأفلام تتيح لك إطلاق المخيلة. فيها جانب محض سينمائي. فهذا كان حلمه. استعددنا للفيلم ونحن نشاهد أفلاماً صامتة (ضحك). استمتعنا جداً ونحن نصوّره، مع أنّه لم يكن سهلاً. فالأسود والأبيض يحتاجان إلى إضاءة كثيفة للحصول على الظلال التي تغطي الجدران، وإلى ما هنالك من تفاصيل جمالية. أتذكّر أنّنا صوّرنا أحد المَشاهد من زاوية، ثم من زاوية أخرى، بيد أنّ الظلال اختفت فجأة من الجدار، فاضطررنا أن نرسمها بأيدينا، وصوّرنا من جديد. كنا نقوم بأشياء مذهلة، يصعب القيام بها اليوم. آنذاك، كنّا نصوّر بالـ35 ملم. حتى يومها، لم يكن ثمة في أوروبا سوى شخص واحد يعمل على تحميض أفلام الأسود والأبيض، وكان رائجاً تصوير الفيلم بالملوّن ثم نقله إلى الأسود والأبيض”.
 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم