الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

...وما لله، لله

المصدر: "النهار"
لوحة "مادونا بورت ليغاتا" لسالفادور دالي. (تعبيرية)
لوحة "مادونا بورت ليغاتا" لسالفادور دالي. (تعبيرية)
A+ A-

باسم عون

 

 "اُصمتْ! قلتُ لك اُصمت!"

صاحتِ الأمُّ وقد نفَد صبرها. ولكنَّ المراهقَ المشاكس لم يصمت. لم يعد يطيق الصمت. لقد صمت كثيرًا فيما مضى، أمّا اليوم فها هو قد اكتفى...

وخرج أنطونيو غاضبًا دافعًا الباب وراءه، فارتجّت درفتاه ارتجاجًا تراقصت من جرّائه أيقونات الأرملة على الجدار؛ فهرعت مرتاعةً ترفع ما تداعى منها، وتعيد تسوية ما مال، آسفةً على هذه "الخِلفة العاطلة". وراحت الأمّ والدّمع يملأ جفونها، تناجي القدّيسين المشدوهين الذين لم يستفيقوا بعد من هول الصدمة، وترجوهم أن يرأفوا بوحيدها، فلا يحسبوا له ما أتى به من خطايا مميتة...

كانت لتقبلَ كلَّ شيء، وقد قبلت بالفعل بكلّ شيء: من الفقر، إلى العوز، فذُلّ السؤال، وأخيرًا الموت... أمّا أن يتداعى الإيمان في صدر ولدها، فهذا ما لم تكن لتقبله على الإطلاق... وخاصّة في هذه السنة المباركة، هذه السنة التي توافق سنة اليوبيل الفضّي لانتسابها إلى أخويّة الحبل بلا دنس. وها هي اليوم، وللعام الثالث على التوالي، رئيسة مبجّلة لهذه الأخويّة. لكن، يبدو أنّ المعلِّم- له المجد- قد عرف منذ الأزل بما سيُسْند إليها من مسؤوليّات جمّة، فقال: "ما من نبّي مكرّم في وطنه"؛ وهذا ابنها أنطونيو خير دليل على ذلك. وفي هذا الصباح، طفح الكيلان معًا: كيل الأم، وكيل المراهق، على السواء.

وتفصيل الخبر أنَّ أنطونيو دأب منذ فترة على الخروج ليلًا بمعيّة رفاقه- "رفاق السوء"، على ما تزعم أمّه الأرملة، فقد كان يسوءُها أن ترى ولدها المراهق وقد مزّق شرنقته الوالديّة ليفردَ جناحيه للنور والحرّيّة في دنيا الله الواسعة .

وعندما حاولت استجوابه اليوم- شأنها في كلّ صباح- عمّا يفعله وأترابه كلَّ ليلة خارج البيت، جاءت الصفعة مدوّية، تفوق المعقول والمُتوقَّع، فقد أجابها بكلّ وقاحة قائلًا،إنّهم بصدد إنشاء جمعيّة كجمعيّتها، ولكن، من دون "لا" النافية للجنس.

  • "أيّا جنس؟ وشو بتقصد يا صبي؟" قالت الأم.
  • "يعني... شيلي الـ لا".
  • "أيّا "لا"؟ مش عم بفهم!"
  • "جمعيّة الحبل بلا دنس، شيلي الـ "لا" يا ريسي، شو بتصير؟"

    قال أنطونيو بحذرٍ. وفيما كانت رئيسة الجمعيّة تقلّب الأمر في رأسها الأشيب محاولةً حلَّ هذه الأُحجية، كان المراهق قد تسلّل بخفّةٍ متجاوزًا الباب، بغية النجاة بنفسه.

    وبعد لحظاتٍ بدت طويلة، انفجرت الأمّ صائحةً:

  • "الحبل بدنس يا كافر؟! بدنس؟! الله يلعن الساعة يللي خلّفتك فيا!"

    وعندما حاول الكافر أن يقول شيئًا، ليوضحَ لأمّه أنّها ما فهمت من قصّة هذا الحبل ودنسه شيئًا، رغم أنّها رئيسة أخويّته الموقرّة، اهتاجت الأمُّ وراحت تُسكت ابنها بحركاتٍ هستيريّة،أدّت إلى خروجه من البيت على هذه الصورة.

    وعلى الأريكة قرب النافذة، ارتمت "أوجيني"، بعدما أسدلت الستائر، وراحت تنشج نشيجًا يقطّع نياط القلوب... ماذا فعلَتْ لتتلقّى مثل هذه الضربة الموجعة؟! ألعلّها لم تحسن التربية؟! ألعلّها لم تلقِّن وحيدَها من التعاليم الروحيّة ما يكفي؟ أم تراها قد غالت في التوجيه والإرشاد؟ فهي ما حرصت على شيء مثل حرصها على أن يحفظَابنُها، منذ صغره، الكتاب المقدّس كاملًا، حتّى المزاميرٍ التي أجبرته- رغم حداثة سنّه- أن يغيّب منها العشرات، ما جعل نساء الأخويّة يحسدنها عليه، فينغّصن بدورهنّ طفولة أولادهنّ القاصرين عن مثل هذا الإبداع...

  • الحبل بدنس" يقول! اِرحميني يا عذراء! اِرحميني إذا ما كانت الرحمة تجوز على من أنجبت هذه المصيبة. ترأّفي بي، أنا المسكينة التي ما أخلّت بصلاة مسبحتك يومًا، وردّي هذا الجاهل إلى حظيرة الإيمان المباركة.

    وبعد سحابة من البكاء، وفيضٍ من الدموع، تنبّهت، وتذكّرت أمَّ أغسطينوس التي ابتلاها الله بما ابتُليت هي به؛ فجاءها بعض العزاء، إذ تكلّلت صلوات نظيرتها في المُصاب بإكليل المجد، حين تاب ابنُها وأصبح من ملافنة البيعة...فمن يعلم طُرُق الله؟

    وهنا، عاد إليها الأمل"بملفانها"؛ أولم يقل الكتاب أن ليس عند الله أمرٌ مستحيل؟

    وعندما وجدت في ركبتيها من القوّة ما يُمَكّنها من الوقوف، قامت عن الأريكة لتنهضَ ببعض شؤونها. وإذا بصوت جرس الظهيرة يصدح معلنًا التبشير الملائكي. فخرّت على الأرض مجدّدًا تتلو التبشير، راجية من العذراء أن تُبعدَ عن ابنها الهلاك وسوء المصير.

    في المطبخ، لم تستطع أن تصنعَ شيئًا،إذ غاب كلّ كيانها في لجّةٍ من الغضب والضّياع. فلا طبخَ اليوم ولا نفخ، وليأكل الآثم عند أحد أفراد عصابته المدنّسة تلك... الحبل بدنس! آه، رحمتك يا ربّ...آه! ولكنّها تذكرت... لقد سمعت شيئًا مماثلًا من قبل! نعم! وعادت إليها الذكرى... تلك الذكرى الأليمة القاسية التي طالما تمنّت لو أصبحت نسيًا منسيًّا، غير أنّ هذا الولد الجاهل أعادها إلى الوجدان من جديد.فمنذ أكثر من خمس سنوات، وقبل أن يفتقدَ الله زوجها بمرض عضال، قال لها هذا الأخير بنبرةٍ تهكّمية :

  • "يا عمّي، أنا زلمي بدّي مرتي طبيعيّة. بدّي ياها بجمعيّة "الحبل بدنس"، منيح هيك؟ كتير عليّي مرا طبيعيّة؟!"...

     وراحت تفكّر وتتذكّر. ربّما قد غالت أو تمادت في سُبُل الارتقاء الروحي، فجعلت من المنزل الزوجيّ- على ما زعم المرحوم- ديرًا بمزاراتٍ كثيرةٍ. فهي قد لا تنكر ذلك، وها هي الأدلّة "الجرميّة" أمام ناظريها: فها هنا، في الصالون، يحتلّ مار الياس الحيّ الحيّزَ الأكبر، شاهرًا سيفًا رهيبًا يبعث الرعب في القلوب، وقد تهاوى على قدميه طُغمة من كهنة البعل، بين قتيل وجريح؛ وهناك في غرفة الطعام تحوّلت المائدة إلى مزارٍ لمار شربل قدّيس لبنان الأحبّ. أمّا الطّامة الكبرى- والقول للمرحوم طبعًا- فقد تجلّت بأبهى صورها في غرفة الجلوس، حيث اكتست الجدران بثُلَّة من صور القدّيسين، ابتداءً بالقدّيسة بربارة أيقونة القرن الأوّل الميلادي، مرورًا بقدّيسي القرون الوسطى، وعلى رأسهم الأّسّيزي، وصولًا إلى "بادري  بيو" ونعمة الله الحرديني... ممّا حدا بالمرحوم إلى الزَّعم أنَّ رائحة الشّياط (الشوشطة) تفوح أبدًا من هذه الغرفة. ولطالما ردّد أمام زائريه طرفة، بقصد الغمز من جهة الزوجة التقيّة، مفادها أنّ أحد الفلّاحين قد غُلب على أمره في تدبير أموره فصعُبَ عليه أن يهتمَّ بحقله: حراثةً وزرعًا وجنًى، بالموازاة مع اهتمامه ببقرة حلوب كان قد اشتراها، فأعملَ الفكرَ طويلًا لحلّ هذه الأزمة،حتّى تفتّقت فطنته عن حلٍّ تَقَويّ يقضي بأن يرسل البقرة في حال سبيلها لترعى في الحقول، بعد أن يعهد بها إلى أحد القدّيسين، بحسب ترتيبهم اليوميّ في السنكسار. ولمّا كان لكلّ يومٍ قدّيسه، جرت الأمور على هذا المنوال، فكانت البقرة تسرح بشفاعة قدّيسها اليوميّ، ولا تلبث أن تعود عند المساء سالمة غانمة؛ إلى أن جاء ذلك اليوم، وكان تذكار جميع القدّيسين، فتهلّل وجه الفلّاح، وازداد غبطة، وطمأنينة على البقرة الحبيبة. لكن، في ذلك النهار المجيد، بالتحديد، ذهبت البقرة بلا عودة...وكانت الخلاصة واضحة: "كثرة الطبّاخين شوشطت الطبخة". ورغم كلّ ذلك الغمز واللّمز، فإنَّ الزوجة أبت أن ترعوي، بل ازدادت حَرَدًا،  وأبت أن تنتصِح.

    ويُكمل المرحوم في شرح ظُلامته لسُمّاره، قائلًا: لَكان الموضوع اتَّخذ طابعًا هزليًّا لو توقّف عند هذا الحدّ، ولكنّه ما لبث أن اتّخذ منحًى تراجيديًّا، عندما اقتحم القدّيسون بأيقوناتهم الملوّنة، وعيونهم الكبيرة الواسعة، جدرانَ مَخدع الزوجيّة، فغدوا، ككاميرات اليوم الموزّعة في كلّ مكان  لرصد الآثمين... وإن نسيَ، فإنّه ما نسي قطّ ليلة عرسه في أحد الفنادق الجبليّة، حيث كانت بداية المأساة؛ إذ شاء القيّمون على الفندق أن يعطوا فندقهم طابعًا روحيًّا، فقاموا بتعليق صُوَر كبيرة لقدّيس المنطقة فوق الأسرّة في الغرف، وغدت الصور كما الرَّصد فوق رأس العريس، فتعطّلت بذلك لغة الكلام، وخمدت جذوة الرغبات، ونام كلّ ما في الجسد على رجاء القيامة، إلّا العينان، فقد تسمّرتا في السقف تنتظران بفارغ الصبر انبلاج صبحٍ جميل.

    نعم، إنّها تتذكّر كلّ ذلك، وتعيه. وقد غفرت للمرحوم هناته أكثر من مرّة،  فهي لم تتغيّر، وعندما اختارها الراحل إنّما اختارها لما بلغه من ورعها وتقواها، ولأنّها خارج البيت الوالدي ما عرفت غير دربين  اثنين: درب المدرسة ودرب الكنيسة. نعم، هو الذي تغيّر. وهذا الكلام الذي سمعته من وحيدها اليوم، إنّما كان لأبيه، وليس من اختلاقه؛ فلا بدّ أنّه دأب على استراق السّمع في الأوقات المتشنّجة ما بين والده ووالدته، فحفظ ما حفظ... وعندما واجهته أمّه، رماها بما اختزنت حافظته، دونما وعيٍ أو تفكير، فأدمى فؤادها.

    ما لها إلّا الصلاة... الصلاة وحدها هي الحل... ولا شيء غير الصلاة قادرٌ على انتشال الصبي من جنوحه. ستصلّي، وستصبر، أسوة بزميلتها والدة أغسطينوس التي كان ابنها فيلسوفًا ماكرًا زنديقًا، قبل ارتداده؛ أمّا ابنها هي، فليس سوى ولدٍ غِرٍّ أحمق، حفظ بضعة أمورٍ عن والده وراح يردّدها ببّغائيًّا، وبالتالي، هذا يكفي الربَّ مؤونة اجتراح أعجوبةٍ كبرى، بل إنّ لمسةً صغيرةً من لدنه تكفي .

    ...و عكفت على الصلاة في السّحَر وفي الضحى، عند الغسَق وفي هجعة الليل. وفاحت رائحة البخّور في جميع أركان المنزل، وعمّ دخان المجامر أركان البيت، ممّا جعل "يوسفيّة"- الجارة "الحشورة" تهرع غير مرّة، مخافة أن تكون "أوجيني" قد تعرّضت لحريقٍ داخل "كنيستها"...

    وعملًا بقول الربّ: "كلّما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي أكون بينهم"، دعت "أوجيني" بعض زميلاتها في الأخويّة، ممّن لقّبهنّ المرحوم يومًا بـ "مَجْمَع العقيدة"، للصلاة في منزلها. وكان لقاءٌ، فصلاة، وبحثٌ في شؤون الأخويّة. وفي الختام، أكّدت المُجتمعات على أنّ ما تلقّينه منذ صغرهن على يد الـ"بونا مطانيوس"، ما زال ساري المفعول، وقد تمّ تأكيده- على ما زعمن- برسائل بابويّة مفادها أنّ الجنس ليس إلّا للإنجاب ولحفظ النوع، عملًا بقول الكتاب: "انموا واكثروا واملأوا الأرض"، وما زاد على ذلك كان من الشرّير! وهنا تدخّلت "صوفيا"- فيلسوفة الجمعيّة، لتضيف:

  • "والدنس أيضًا... أمّا عند الضرورة، ومنعًا للمشاكل الزوجيّة، إذا ما تفاقمت، فلا بأس من ترك الرجل على سجيّته، مع التحفُّظ على مبادلته النزوات بمثلها، ما أمكن، على أن يليَ ذلك اعترافٌ كاملٌ عند الكاهن، فيما لو ارتُكب ذلك الفعل يومَي الأربعاء أو الجمعة، أو في زمن الصوم المبارك."

    وربما قد حسدْنَ الرئيسة في سرِّهن على ترمّلها، الذي أراحها من حمل ذلك الوزر. وختمت الفيلسوفة، وهي عزباءٌ قد ذرّفت على الخمسين، بالقول:

  • "نعم، هذه هي عقيدة الجمعيّة، ولهذا سمّيت عقيدة الحبل بلا دنس"!

    وهناك في المقهى، حول طاولة البيلياردو، كان "الابن الشاطر" يشنّ حربًا شعواء على كلّ ما هو غيبيّ، تؤازره في ذلك عصبة من الرفاق، لو حظي الشيطان بمثلهم لكان له في هذا العالم وفي العالم الآخر الفتحُ المبين. ودارت الأحاديث، وقد عاثت الخمرة في العقول، حول ما يتخبّط به الوطن من الانهيار من جرّاء فساد حكّامه، وتحامل الدول القريبة والبعيدة عليه...

    ولم يكد صاحب المقهى يدلي بدلوه مجاملًا، إذ قال إنّ لبنان بات بحاجة لأعجوبة سماويّة كي يستعيدَ بهاءه، حتّى انبرت سهام الردود تمطره من كلِّ حدبٍ وصوب، فقال أحدهم:

  • ويحك! ألم ترَ أنّ السماء قد تركت لبنان لمصيره؟

    فانبرى آخر،بدا في حديثه واسع الثقافة، قائلًا :

    دعِ السماء في سمائها يا صديقي، فهذا الكوكب عصيّ على الإصلاح، فمذ كانت أرضٌ ومذ كانت سماء والكوارث تعصف بنا: من عصورٍ جليديّة إلى زلازل وبراكين، إلى فيضانات، إلى حروب، إلى احتباسٍ حراريّ... وهكذا يمضي العالم بثبات نحو نهايته المحتومة.

    فاعترض أصغرهم محتجًّا:

  • ولكنّ لبنان وقفٌ لله كما يقول أبونا مطانيوس، وقدّيسوه هم حرّاسه حتّى يوم القيامة! لا ينفعنا سوى الصلاة...

    وهنا صاح أنطونيو:

  • وهل الصلاة شرطٌ ليتنفّس أبناء هذا الوطن الصعداء؟ وكأنّ الصلاة هي التي جعلت بلاد العالم بلادًا راقية! اُنظر، كيفما قلّبت الطرْف: في أميركا قَلّ من يعرف الله، إلّا ذاك المكتوب على العملة الوطنيّة، وفي كندا بات الإيمان من الماضي، وفي أستراليا غاب الدين، دعك من بعض جالياتٍ مشرقيّةٍ حملت معها آلهتها القديمة إلى الأرض الجديدة، وفي الاتّحاد الأوروبّي مُنعتْ المَظاهر الدينيّة على أنواعها، حتّى أنّهم اليوم في صدد منع ذكر احتفالات الميلاد، ليحلّ محلّها ما يسمّى باحتفالات الأعياد... هذا، وقد تحوّلت كاتدرائيّاتهم العريقة إلى متاحفَ وملاهٍ. فبربّك قل لي، أين هي الصلاة التي عصم الله أوطانهم بقدرتها؟ أم تراه لم يبقَ إلا "طنسى" في الجيش؟ أنظروا إلى أمّي، لقد جنّدت قدّيسي العالم برمّته من أجل الشفاعة لوالدي المحتضَر، من دون جدوى، فقد استفحل المرض في الجسم العليل حتّى أودى به إلى القبر، حيث الراحة الأبديّة .أَذكر عندما كنت في الصفّ السابع، حين فاجأنا الأستاذ بامتحان خطّيّ في التعبير الكتابي، فأُسقط في يدي، ولم أعثر على فكرة واحدة، أو أنجح في صياغة جملة مفيدة، وكانت العلامة مخيّبة جدًا (واحدٌ على عشرين)، وعندما سلّمني الأستاذ المسابقة قال:"لقد أعطيتك هذا الواحد ثمن الحبر فقط"... نعم يا أصدقائي، لو أعطتنا السماء لقاء صلوات أمّهاتنا منذ ما يقارب الألفي سنة، ثمن ما أعطانيه أستاذي فقط، لأُنقِذَ هذا البلد من مصيبته. وعندما عاتبت المحترم اليسوعي مدير مدرستنا- بوصفه من ممثّلي السماء وقدّيسيها- فيما راودني من أفكار، قال باسمًا:"إذا أردت أن تكون صديقًا للقدّيسين فحذار أن تطلب أعجوبةً من أحدٍ منهم." ورغم ذلك، ما زالت أمّي تصلّي وتطلب شفاعة أصدقائها، وأظنّها اليوم تدعوهم من أجلي وأجلكم جميعًا. لتكن صلاتها معنا، آمين!

    فعلَتِ القهقهات، وارفضّ الأصحاب السكارى، بين ثائرٍ ومداجٍ وشكّاك.

     في نهاية  إحدى الليالي التي ضاقت بمثل هذه الأحاديث، بعدما عاد أنطونيو  إلى المنزل وقد تعتعه السكر، ما كاد يغطّ في نومه حتّى انتشله من رقاده صوتٌ عميق هاتفًا:

  • "قُم نظّف ما في داخلك... قم فلا تعلم متى يأتي السارق"...

    فقام من نومه، يقوده ما لا يعرف كنهه إلا الله. ومشى حافيًا في طريقٍ غشيه الشوك والعوسج والحصى. وبعد مسيرٍ شاقّ، وجد نفسه في مزارٍ دينيّ لقدّيس عظيم. وهناك هاله ما رآه من الأقذار والأوساخ وقد تناثرت في أركان المزار، وراعه ما نسجت العنكبوت من حبائل على الجدران وحول الأيقونات! أمّا بقايا الشموع، فقد غيّرت ملامح المكان، وقد غطّى "الشحتار" الألواح الزجاجيّة بطبقة سوداء صفيقة. وبأوامر غير محسوسة، راح أنطونيو يعمل في ورشة النظافة تلك حتّى كلّت يداه، وتصبّب العرق من جبينه. فاتّسخت ثيابه، وبانت بقعٌ من الزيت على وجنتيه. كان العمل شاقًّا، والأوامر صارمة. وقبل بزوغ الفجر بقليل، وكان العمل لمّا ينتهِ بعد، أتاه صوت القدّيس صاحب المزار يقول:

  • "هذا يكفي! قمت بواجبك، فاترك الباقي عليّ".

    فأغمض عينيه من التعب، ولم يستفق إلّا على صوت أمّه تدعوه إلى الفطور. وهنا كانت المفاجأة للأمّ والابن مجتمعَيْن، إذ نهض الشابّ وقد غطّت البقع السوداء محيّاه وبعضَ ثيابه! ولما استفسرت الوالدة عمّا حدث، صرخ ابنها هاتفًا:

  • آه...لم يكن حلمًا، لم يكن حلمًا...كان إذًا حقيقة! والدليل ظاهرٌ على وجهي وثيابي!

وأخبر أمّه بكلّ شيء، وكيف طلب منه القدّيس أن ينظِّفَ نفسه، أمّا ما تبقّى فالسماء كفيلة به.

ولا تسل عن فرحة الأمّ بعودة وحيدها إلى الحضن السماوي! وكانت منها ابتسامة اعتزاز، إذ تساوت بالنعمة مع والدة أغسطينوس، وبفترة وجيزة! مع فارق أنّ عديلتها تلك قد أنجزت ما أنجزته ببَرَكَة ومساعدة أمبروسيوس- أسقف ميلانو، في حين أنّها هي لم تنطق أمام الخوري مطانيوس ببنت شفة!

ولمّا كان هذا اليوم المبارك- يوم الارتداد  موافقًا بداية تساعيّة الميلاد، حيث يقوم أحدُ الكهنةِ اليسوعيّين بالوعظ والإرشاد، تحضيرًا للعيد المبارك، اصطحبت "أوجيني" "أغسطينها" للاعتراف، ولسماع المحاضرة...

وما زالت الأرملة إلى اليوم تتساءل عن أمر تلك الصدفة الغريبة التي حدت بالكاهن إلى الانعطاف في عظته الميلاديّة، حين طرق موضوع "الحبل بلا دنس"، والذي قال فيه:

  • إنّ ظهور العذراء في لورد حصلَ ليُثبتَ ما كان يناقشه مجمع العقيدة في الفاتيكان، من أنّ سيدتنا مريم العذراء قد حُبل بها بعلاقة جسديّة طبيعيّة بين أبويها، إنّما قد عصمها الله، غبّ تكوينها، من دنس الخطيئة الأصليّة، أي خطيئة المعصية التي ارتكبها أبوّانا الأولان في الفردوس؛ ولا علاقة للدنس بهذا التواصل الجسدي بين رجل وامرأته، بل إنّ هذه العلاقة هي علاقة مباركة، قد رفعها الرب إلى رتبة السرّ، فغدت سرًّا من أسرار الكنيسة. أمّا حبل سيّدتنا العذراء بيسوع، فهو الحبل الوحيد الذي تمَّ من دون زرعِ رجل، لأنّ الله قد تجسّد من العذراء، أي قد أتّخذ منها جسدًا. وهذا هو فحوى عيد الميلاد الذي سنحتفل به بعد أيّام قليلة...

    وهنا، أجهشت رئيسة الأخويّة بالبكاء، وراحت تكفكف دموعها بطرحتها، لكن دون جدوى ...

    عند انتهاء الزيّاح، اقترب الكاهن المحاضر ليسأل صاحبة العينين الدامعتين عن سرّ تأثّرها  بعظته إلى هذا الحدّ، ففوجئ بجوابٍ غريبٍ عجيب، لم يفهم منه شيئًا، إذ قالت أوجيني :

  • إنّما بكيت لأنّني تذكّرت المرحوم، رحمة الله عليه، فقد مات مظلومًا ...

أمّا أنطونيو، فلم يتذكّر شيئًا من أمر تلك العَجَلة التي تعطّلت في سيّارته عشيّة الحلم الغريب، واقتضى تصليحها ساعةً، أمضاها تحت المطر، وهو يعمل بمشقّة لاستبدالها.

 

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم