الجمعة - 26 نيسان 2024

إعلان

مقهى الكرّاسة الزرقاء

المصدر: "النهار"
مقهى (تعبيرية- جوليان سوليه).
مقهى (تعبيرية- جوليان سوليه).
A+ A-
 
رزان نعيم المغربي- كاتبة ليبية مقيمة في هولندا
 
ما زلت واقفة على ناصية المبنى حيث دعتك صديقتك إلى مقهى جميل في مدينة أمستردام، المساء في هذه المدينة ليس هادئاً، تعبر السيارات ببطء بسبب الازدحام، مصابيحها المتوهّجة خلف بعضها البعض، تؤنس انتظارك الذي مضى عليه دقائق فقط، ثم فضولك يدفعك لتأمّل المقهى من الخارج، النافذة العريضة تظهر رواده يجلسون باسترخاء شديد، قريباً من النافذة يجلس رجل يرتدي بذلة داكنة، ويبدو أن لديه شالاً صوفياً مرمياً على ذراع الكرسي المقابل، أجواء المقهى تمنح الشعور بالدفء، وأنت في الخارج تتحرك نسمات الخريف الباردة، ثم تتساقط بضع قطرات من المطر على معطفك. 
لا شيء يجبرك على انتظارها في الخارج الآن، حتى لو لم يكن المقهى عينه الذي قصدته حينما أرسلت لك العنوان، تعودين خطوتين نحو الوراء لقراءة اسم المقهى، يفاجئك اسمه Blue Note (الكراسة الزرقاء)، كنت على وشك أن تدفعي الباب والدخول، عندما خرج نفس الرجل الذي راقبت جلوسه قبل لحظات، ابتسم وسألك على الفور هل تملكين شعلة، كان يحمل في يده علبة سجائر، فتشت الحقيبة على الفور، وقدمت له ولاعة وعبَرتِ الباب، استقبلتك رائحة القهوة مختلطة برائحة عطر رجالي قوي، كان في الزاوية مقابل طاولته التي كان يجلس إليها، مكانٌ مميز، قريب من النافذة، يسمح لك برؤية الشارع من الاتجاهين ومن النافذة الأخرى المقابلة، والتى تنفتح على الشارع الجانبي. 
 
جاء النادل مسرعاً في الوقت عينه عاد الرجل الذي استعار الولاعة، كنت تتحدثين مع النادل باللغة الانكليزية التي تفضلينها أكثر، ويفضلها كل العاملين في المقاهي والفنادق في أمستردام، يعتقدون أن جميع من فيها هم زوار للمدينة إلا إذا تكلم أحدهم الهولندية، وفي وسط المدينة نادراً ما يحدث. الهولنديون يبتعدون عن الضجيج قدر المستطاع. 
 
بينما تنتظرين وصول القهوة، تذكرت اسم المقهى وأنت تمسكين بقائمة الطلبات على الطاولة، ارتسمت ابتسامة لا إرادية على ملامحك، تذكرت بأن الكراسة الزرقاء كان عنوان مقال لك، يومها حدثك كثير من الاصدقاء عن تفضيلك الكتابة على كراسة زرقاء، بأنك متأثرة بكاتب أميركي لم تكوني قد قرأت له بعد هو بول أوستر، وكان الأمر مثار ضحك بينكم، وخطر لك الآن بأن صديقتك صاحبة المقالب المضحكة اختارت هذا المقهى لتستعيد ذاكرتكما القديمة. 
 
وصلت القهوة، يتصاعد منها بخار كثيف، إلى جانبها وضعت قطعة حلوى، أزحتِها جانباً، ومع أول رشفة شعرت بطعم البن المحمص بشكل جيد، في اللحظة التي اتجهت فيها لتأمل الشارع الجانبي، كان هناك فندق يقابل المقهى، وعادت الابتسامة ترتسم على وجهك مجدداً، وأنت تتهجين الاسم الغريب (فندق ليلة واحدة).
 
كان باب الفندق واسعاً، وله باب دوار بمقابض نحاسية، تتوقف بجانبه سيارة يترجل منها أحدهم ومعه حقيبة يتجه إلى الباب ويختفي ثم يخرج منه زوجان يحملان مظلتيهما، السماء صارت تمطر بقوة الآن، قطرات المطر تسيل على زجاج النافذة، لكن لا تمنعك من رؤية ملامح الناس، الذين تظهر أجسادهم المتحركة سواء وهم يمشون على الرصيف المقابل أو يدخلون الفندق ويخرجون منه، وأولئك العابرون بمحاذاة المقهى. 
 
تأخرت عشر دقائق، تتفحصين هاتفك، لعلها أرسلت لك رسالة صوتية أو نصية، لا شيء يظهر أنها متصلة بالشبكة، لكنك لست قلقة، المكان مثالي حولك، معظم الرواد يجلسون بمفردهم ما عدا طاولة واحدة تضم رجلاً وامرأة في منتصف العمر، تتذكرين أن صديقتك وصفت المقهى بأن على أحد جدرانه لوحة جميلة، وأضافت أنها لا تتذكر اسمه بشكل جيد، لكنها تعرفه حالما تراه، دار جسدك بنصف التفافة مستندة إلى ذراع الكرسي الجلدي بلون نبيذي داكن، كان هناك رف صنع من خشب الجوز لامع وعليه مطحنة قهوة قديمة لها ذراع يلتف، ودرج صغير لتخزين حبب القهوة المطحونة، ومفرش من قماش الخيش المثقب، بجانبه ثلاث حبات يقطين مختلفة الأحجام، الكؤوس اللامعة تصطف وفناجين القهوة خلف البار وضعت على رف مستطيل، وتحته زجاجات النبيذ المختلفة. 
 
في ركن قصي قريب من البار كان بيانو عتيق لونه بني، وفتاة شعرها أشقر تعزف عليه موسيقى خافتة، الرشفة الثالثة للقهوة ذات الطعم اللذيذ مختلطة بروائح المكان، شعرت بحاجة إلى تدخين سيجارة، شالك الملون على ذراع الكرسي، وأنت في الخارج تحتمي بمظلة المقهى شعرت بتيار ساخن قريب. انفتح الباب مرة ثانية، وخرج الرجل الجالس مقابلك ليشاركك تدخين سيجارة أخرى. امتدت يدك تلقائياً إلى الولاعة من دون أن يطلبها هذه المرة، مشى خطوات وقف على الناصية تأمل باب الفندق من الناحية الآخرى وعاد، يسألك بلغة إنكليزية بلكنة أميركية، هل تقيمين في هذه المدينة؟ أم زيارة مثلي؟ أشار بيده للفندق صاحب الاسم الغريب، ابتسمت لفضوله وخمنت أنها فرصة لحوار قصير ريثما تأتي صديقتك، إجابتك المقتضبة، لم تثنِه عن الاستمرار في متابعة الكلام، في هذه اللحظة شعرت بأن لديه وجهاً مألوفاً، استمر يعرف بنفسه أنه سيكون هنا ليوميْن وليلة واحدة سوف يغادر فجراً أمستردام، وبينما كنتما تهمّان بالدخول تعبران الباب مجدداً باتجاه المكان الدافئ، لمحت حقيبة صغيرة تحت طاولته فيها مجموعة كتب صغيرة، دعاك للجلوس معه ريثما تحضر صديقتك التي تأخرت عن موعدها، تأملتِ شعره الفضي، وجهه نحيل الابتسامة ثم أزحت خاطراً مر ببالك أنك التقيت به في مكان ما، أمسكت بقائمة المشروبات لاختيار جديد، وابتسمت مرة آخرى بشكل خجول هذه المرة لكنه سريع الانتباه، استفسر عن الأمر.
 
كان المساء في نهاية فصل الخريف طويلاً والوقت يمضي مع رفيق غريب سوف يغادر هذه المدينة بعد ساعات، ولا بأس أنت تخبرينه بأنه لم يمض وقت طويل على إقامتك في هذه البلاد، وأنك في شوق لملاقاة صديقة أخبرتك بأنها في زيارة قصيرة، صديقة رافقتك في عدد كبير من أسفارك سابقاً، تعرف كيف تضحك تحوك المكائد الضاحكة، وتتمنى أن تكون بطلة إحدى رواياتك، بكل ما تحمل من عبث وجنون في شخصيتها. 
 
في هذه اللحظة امتدت يده إلى الحقيبة، أخرج كتاباً قدمه لك، على غلافه صورة شخصية له، وأنت تتأكدين من الاسم المطبوع على الغلاف، أخبرك أنه كان في حفل توقيع لنسخة من كتابه مترجماً إلى اللغة الهولندية، كدت تصرخين من الدهشة أو المصادفة الغريبة، اسم المقهى، وكاتب صاحب رواية "ليلة التنبؤ" التي لم تكملي قراءتها لشدة ما رأيت فيها نفسك، بول أوستر الآن يدعوك لفنجان قهوة في مدينة لم تفكري يوماً بأن إقامتك ستكون قريبة منها، وفي مقهى اشتق اسمه من محبتكما للكتابة على كراسة زرقاء، وذلك الشبه الغريب في تفاصيل الكتابة وطقوسها، أنت من تعرفين هذا الأمر فقط، بينما كنت بالنسبة له كاتبة بانتظار صديقة، ترسل لك هذه اللحظة اعتذاراً برسالة نصية، بأنها قرأت عن حضور بول أوستر لتوقيع كتابه، وغالباً ما يستقبل الزائرين للعاصمة في فنادق وسط المدينة، ولو تسنى لك الوقت ربما تلتقينه في المقهى المقابل "الكراسة الزرقاء". 
 


 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم