الخميس - 25 نيسان 2024

إعلان

سينما مرفوضة سياسياً

المصدر: "النهار"
هوفيك حبشيان
"هجوم على المركز الثالث عشر" لجان فرنسوا ريشيه.
"هجوم على المركز الثالث عشر" لجان فرنسوا ريشيه.
A+ A-
من سينما السبعينات ومدرسة "السلسلة باء"، استعان المخرج الفرنسي جان فرنسوا ريشيه، المعروف بهامشيته وعدائيته، عوالم فيلمه “هجوم على المركز ١٣” الذي لم ينل حصته من الاهتمام الجماهيري والنقدي عند صدوره في العام ٢٠٠٥. هذا عمل متقن على قدر من التميّز إخراجاً وتصويراً وتأليفاً عُرض هنا وهناك، ودفع ثمن ارتباطه المكشوف بمجموعة انتاجات أثقلت على "جانر" يأتي في المقام الثاني، وهو السينما التي أتنجت أفلاماً كبيرة بانحيازها إلى صغائر الأمور، تاركة القضايا الإنسانية الكبرى لفنّ أرقى من المنظور الإنتاجي والاجتماعي. فمحدودية المسألة المطروحة، زماناً ومكاناً وامكانات، وغياب الإثارة والإنترتنمنت المطلوب في أفلام المعيار الأميركي، بالاضافة إلى شح الموازنة، زاد مشروع ريشيه غموضاً وإرباكاً: فيلم حركة من دون نجوم فعليين، لا مطاردة على أحد الخطوط السريعة، ولا قصّة انجذاب جنسي بين نادلة وبطل مدجج بالأسلحة. هذه مكونات الستاندار الذي بهت مع كثرة ما دار على نفسه.

ريشيه تمرّد على الاطر الإنتاجية الصارمة. فيلمه شكّل اقتحام لثوابت تيماتيكية أفقدت السينما ميزة التصادم المفترض انه أساس كلّ عمل فني يستمد مشروعيته من نظرة الآخر. تفرد في جميع المجالات، أبرزها ما هو متصل بالخطاب السياسي الضمني الذي يظهر انفتاحاً شديداً يكاد يبلغ حدود الوقاحة، وما هو مرفوض سياسياً، عبر فضحه التحالف المنظم والمدروس بين السلطة وأجهزتها والجريمة المنظمة المتمثلة في الخارجين على القانون من رجال مافيا ورؤساء عصابات. عبر رفع الستارة على جرائم الأشرار من جانب وفساد السلطة العميلة والمتواطئة والمتعاونة التي تعمل تحت وصاية زمرة من قطّاع الطرق، يحمل الفيلم همّ الجواب على أسئلة من نوع: هل وُضعت القوانين لحماية البشر، ومن المخوّل في حماية الآخر، القانون أم الإنسان؟ في سعيه إلى مناقشة نقاط ساخنة يسعى العمل ابراز صورة قبيحة عن السلطة المتحكمة بمفاصل الحكم.

مستنسخاً الفيلم الذي أطلق موهبة جون كاربنتر قبل نحو ٤٥ عاماً، في زمن كان خط أحمر يحمي الفساد السياسي في ظلّ عدم اختلاف أصحاب النفوذ عن العصابات التي كانوا يطاردونها بحجة الانضباط والرقابة، قدّم ريشيه نموذجاً سينيكياً للصراع بين أطراف تختلف شكلاً وتتوحد مضموناً. فسرعان ما يأخذ الصراع الأزلي بين الخير والشر، الذي يصوّره السينمائي الفذ واضعاً في مشروعه جرعات من التهكّم والقسوة، أبعاداً غير مألوفة، اذ يجبر كلا الطرفين المتخاصمين المحاربة من الخندق نفسه. في ديكور ثلجي يسود عليه اللون الانطباعي الأدكن، يخلط ريشيه أوراق اللعبة السيناريستية، ومنذ اللقطة الأولى يضعنا في مواجهة مع كاراكتيرات قاسية، بعدما يدس في معالمها جوانب تمتاز بها أفلام الدرجة الثانية، من الشرطي الذي لا غبار على أدائه المهني، والذي يعاني عقدة ذنب يعوق تحركه الحر، إلى المافيوزي الذي يخون كلّ شيء سوى مبادئه، فرجال البوليس الذين يجهدون لطمس الجريمة المنظمة، وهم مستعدون لمواجهة الدنيا كلها كي لا تظهر الحقيقة علناً.

كالعادة في هذا النمط السينمائي، فإن العنف حظى بحصّة الأسد في أغلب المَشاهد التي تظهر استعداد المرء للتأقلم مع الأوضاع التي يواجهها، واسقاط مبادئه خشيةً من ان يهدد اعتداء الباقي عليه وجوده. ولعل أسرع طريق لقول كلام منطقي ومتوازن عن هذا الفيلم، هو الاعتراف ان ريشيه اختزل في سينماه الخطابية السياسية المعتمدة في الكثير من الأفلام الأميركية، والتي تتجلى في صفحات حوارية طويلة، عبر دس مضامين تمرر "الرسالة" أكثر من لو اعتمد الأساليب الصارخة والفضاحة والكاشفة.

وكم هذه السينما تنطوي على ايحاءات معبّرة عن حالات إنسانية وسينمائية. بيد ان ريشيه لم يفلح في اعطاء الفيلم أبعاداً سوسيولوجية بقدر ما فعله كاربنتر في الفيلم الأصل، واكتفى في ترابط الأحداث على نحو يرفع من التوتر الذي يزداد مع كلّ جثّة تسقط تحت رصاص القناصة ومع كلّ واقع جديد يظهر، اذ يُعاد صوغ المعطيات والاعتبارات كافة. وخلافاً لما أقدم عليه كاربنتر، لا يكشف ريشيه عن أي اهتمام بالنظرة الأخلاقية، أقله ليس على نحو مباشر. فيدع الأمور تأخذ مجراها “الطبيعية”.

 
الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم