الأحد - 28 نيسان 2024

إعلان

خلف جارتي... لحظةٌ هاربةٌ

المصدر: "النهار"
نجم الدين خلف الله
خلف جارتي... لحظةٌ هاربةٌ
خلف جارتي... لحظةٌ هاربةٌ
A+ A-

أقبعُ، منذ دقائق قليلة، في سجن انفراديٍّ رَطبٍ. لحظاتٌ معدودة كانت كافيةً لإكسابي وضعَ "مُجرم"، بعد أن كنتُ، لسنين طويلة، أحظى بوضع "مُواطن عادي": أدفع الضرائبَ بإذعانٍ، أتحاورُ مع أهالي مدينتي على اختلاف جنسياتهم، آخُذُ قِطارات الأنفاق المُظلمة، وأعاني من تأخّرها وإلغائها بإيجابية لا مثيلَ لها. فجأةً، انتقلتُ إلى شخصٍ موقوف بتُهمة القتل، بعد أن كنتُ مُوظفاً محبوبًا لدى رئيستي الشقراء. هي لم تسمع مني كلمة "لا" قطُّ. كنتُ أحتفل بعيد الجيران بانتظامٍ وأقدِّم لهم الحَلوى الشرقيّة بابتسامة.. صفراويّة. نيّتي أن أشجّعَهم على السياحة إلى مُدن الساحل التونسي، معتبرًا ذلك، بيني وبين نفسي، نهوضًا بواجبي الوطني هناك، وإسهامًا منّي في تحريك عَجلة الاقتصاد الراكد منذ "الربيع العربي".

لا أدري ما الذي حصل في تلك اللحظة الحاسمة. نَسيتُها كلياً وغابت عن ذاكرتي صورُ الجريمة، وهُوية الضحيّة أو الضحايا. لم أعدْ أذكرُ لا عدَدَهم ولا جِنسَهم. كلُّ ما يظهر لي الآن، وفي غموض شديدٍ، أنّ جارتي ازدَرَدت طبقَ الحلوى الشرقية بابتسامة مَقيتة، ثم ما لبثت أن انتقلت بالحَديث، ودون مقدماتٍ، عن "أولئك"، هكذا بلا تَحديدٍ، الذين لا يحترمون القانون، يصفّون سياراتهم كما اتفق، ولا يُربّون أولادهم على قيم الجمهورية، بل ويَختَنونهم دون شفقة. ما أسخفها! "تأكل الغَلَّة وتسبّ المِلّة". في الحقيقة، لم أقدّم لها الحلوى احتفاءً بعيد الجيران ولا تشجيعًا للسياحة في بلدي. كلاهما آخر همّي. قمتُ بذلك فقط لأغالط مصلحة الإحصاءات في البلديّة، التي تُجري دراسة سنويّة حول "عيد الجيران" وعدد المحتفلين به وأصولهم. "ولغاية في نفس يعقوب"، تعمّدتُ أن تكون أرقامُهم خاطئة. فهذا العيد بائخٌ بكل المقاييس.

منذ أن اشتريتُ بيتي، لم تقبَلْ جارتي أن يجاورها عَربي، "أنَ أغَاب" (un Arabe)، كما تقول هي بلهجةٍ مُتكبّرة واحتقارٍ صريحٍ. بدأت المناوشات لما حاولتُ صيانة حائطٍ متقادمٍ، داخل حديقتي الصغيرة، يُطلُّ على صالونها. وإذا بسيارة الشرطة البلدية تأتي سريعاً. تنزل منها شرطيّة شقراء أيضًا، يتبعها شرطيّ أسمر. يُداهمان معًا حديقتي. وتطالبني هي برخصة الأشغال وبخمسين وثيقة سواها، كأنني سأهدم بُرجَ إيفلــ(هم). أما هو فينظر بصمتٍ وتشفٍّ.

لا شكّ أنَّ جارتي هي التي وَشت بي لدى الشرطة البلدية. هذا اختصاصُها. قالت الشرطيّة وهي تبتسم: "لا بد من مَلء استمارة ودفع الرسوم. وبعدها قد يحقُّ لكَ إجراء أعمال الترميم والصباغة وحتّى البناء ما دام الحائط لا يتجاوز الخمسة أمتار. ولكنْ، انتظر رأيَ اللجنة العمرانيّة". بالصدفة، كان لا يزال لديّ بعضُ قطع الحلوى الشرقية. قلتُ في نفسي: سأقتَرحُها عليهما، في بادرة حسن نيةٍ. وبابتسامة خبيثة أضفتُ: مَادَام (Madame)، في الحقيقة، ما بدأتُه من ترميمِ الحائط لا هدفَ له سوى الحفاظ على البيئة وتجميل واجهات المباني في مدينتِـــــــ(نا). وشدّدت على ضمير (ـــــــــنا) حتى أقنعها بالتِزامي الحَضاري والوطني. لا أظنها صدَّقت كذبتي السخيفة. ومع ذلك، ازدَرَدتْ الحلوى وخَرجَتْ مسرعةً، يتبعها الشرطي الأسمر. هو لم يَنبس بِبنت شفة. مجرّد ديكور. ومن يومها، لم تهدأ المناكفات مع جارتي. بسبب وبلا سبب.

المهم أنني فارقتُ الآن وَضعي كمواطن عادي. في انتظار التحقيقات، عليّ أن أتعلّم العيش داخل زنزانتي الرطبة، محاولاً استيعاب صِفتي الجديدة هذه. ولكن الأخطر في الأمر أنّني لم أعد قادرًا على التحكم في ذاكرتي. تَتَوالى الصور دون انتظامٍ، ولا تساعدني على استرجاع لحظة الصفر، تلك التي صرتُ فيها "مُجرماً". هذا هو الذي لا يطاق. كلّ ما عدا ذلك، تعودت عليه. أنا أتأقلم مع كل الوضعيات والأدوار التي تُنسَبُ إليَّ. لا أقول "لا" أبدًا. لست انهزاميا ولا مخذولاً. فقط أجتهد في أن أكونَ مواطنًا عاديًّا، وربما "صالحاً" حتى. تَصَوَّرْ أنني، ومنذ زيارة الشرطة البلدية، أصبحتُ أضعُ أصُصَ الأزهار أمام بيتي وأرفقها بمُعَلّقات خَضراء تحثّ على احترام البيئة والمحافظة عليها. وأما الحائط فقد عَدلتُ عن ترميمه نكايةً في الشرطيّ الأسمر وفي رسومهم الغالية.

قال لي جاري المغربي، من الجهة الشرقية، بعد أن رآني، من وراء السور، أُهدي طبقَ الحلوى للشرطية: كيف تُؤاكل النصارى؟ هذا أصلاً حرام. إلا إذا كانت نيتك دعوتَهم إلى الدخول في دين الإسلام، آنذاك يجوز. لا بد من إخلاص النية".

تتملكني الآن الرغبة في ملامسة تلك اللحظة المفصليّة. أودُّ أن أمسكَها، وربما أن أعود بها إلى الوراء. أعجبني المبدأ: أن تعيد لحظةً من الزمن إلى الوراء، لحظة واحدة، لا أكثر ولا أقل، بِنِية العَبَث: أن تلاعب الماضي بعد استرجاعه. هل كانت نيتي إلغاء لحظة القتل التي نسيتُها أصلا؟ لا أظن. هذا أيضا آخرُ همومي. ولكن بودي أن أتعقّب الزمن الذي تحرّك فيه جَسدي فتهاويت على الضحية أو الضحايا، دون أن أتمكن من التحكم في حركاتي، خاسرًا بذلك، وربما إلى الأبد، وضعي المريح السابق: "موظفٌ محبوبٌ من رئيسته، متأقلمٌ مع جيرانٍ غريبي الأطوار، يسافر بقطارات الأنفاق ويَدفع الضرائب".

أستعيد الآن كيف أهانتني جارتي حين قالت لي: "لي زاغاب"، (وتعني: "العَرب") يَلدون الأولاد للاستفادة من نظام المساعدات الاجتماعية فقط. يساوي الطفلُ عندهم مبلغاً شهرياً من اليوروهات". لم أستأ من كلامها هذا. كليشيهات مُتداولة لدى الجميع. أنا نفسي أعيش على الكليشيهات وأقتاتُ منها. لا أجد أيَّ غضاضة في ذلك. ولكن ما أثارني أن نظريتها لا تنطبق عليّ: أنا وحيد والديَّ وأعزب دونَ أولاد. وحتى جاري المغربي، في الجهة الشرقية، لم ينجب سوى بنتٍ واحدة. وهي مُتفوّقة في الدراسة إلى درجة أنّ البلدية أهدتها جائزة ثمينة. وانتُخبت في المجلس البلدي للأطفال حيث اشتهرت بدفاعها الصادق عن البيئة. على فكرة، أنا وضعتُ أصصَ الأزهار تلك، أمام بيتي، حتى أعطي هذه البنتَ اليافعةَ حجّةً إضافية: "لي زاغاب"، (Les Arabes) كما يَصموننا، يحترمون البيئة أيضًا. نسيتُ. كنتُ قد اشتريتُ تلك الأصص من سوق الأشياء القديمة بأورو واحدٍ فقط. وهي من أسوأ النوعيات، نكايةً في الشرطي الأسمر الذي يتبع رئيسَتَه الشقراء بخنوعٍ.

ماذا لو تحكّمت قليلاً في أعصابي؟ وواصلتُ مجهوداتي في الاندماج فلم أذعن لسطوة الزّمن الذي انساب بمكرٍ. مرّت تلك اللحظة كأنها حُلم، غَيبةٌ، تَجَلٍّ. لم أعُدْ أذكر. دمٌ. صياح. وجهٌ مُهشّم. لا أدري إنْ كانت قد حَصلت جريمة أصلاً أم أنا هنا بسبب خَطأ قضائي.

طيلة السنوات الماضية، لم أحاور جارتي إلا مرّات قليلة. مع أنني لا أسعى إلى تفاديها. في كلّ مرة ألتقي بها، أراها غاضبةً شاحبة، كأنها تُهدِّدُ بالقتل. تارةً تستخدم عباراتٍ من السجلّ القانوني، تلك التي أمقتُها لوجه الله. وتارة أخرى، تتبجَّح بكلماتٍ من سجل "الجمهورية"، التي أمقتها أكثر، مع أنني أتطوّع لشَرحها لابنة جاري النابغة، كلّما صادف أن مرّ بنا أحدٌ من أهالي المدينة. أتظاهر بالجدّية. أرفع صوتي: "لا بدّ من احترام الاختلافات. كلنا سواسية أمام قيم جمهوريتــــ(نا)". وكالعادة، أمَطِّطُ ضمير الوصل.

أما جاري، أبوها، فلا كلامَ على لسانه إلا: كُفارٌ، نصارى، قْوِر، وهي تعريب لــ guerrier أي "مُحارِب" في إشارة إلى الفرنسيين الذين يَعيشُ بين ظَهْرانيهم. أحيانا أتساءل كيف تحمَّل العيش هنا لأكثر من أربعين سنة ؟ لا أظن أنَّ الزمن طال عليه، كما يطول عليَّ الآن في زنزانتي الرطبة. بدأتُ أتحسس المَقعد الحجري البارد والبطانية الوحيدة، المطوية بجانبي. أخذتُ أشاهد الكتابات المحفورة على الحائط. بعضها حُفِرَ بأحرفٍ عربية. وأغلبها منقوش بالحرف اللاتيني: أسماء وانعراجات وأشكال متشابهة. وبينها تتجلى: "جي تام ناتالي"، أي "أحبك ناتالي". آه. تذكّرت الآن: جارتي اسمها ناتالي أيضاً. هل أحبها في باطني؟ أستبعدُ هذا، مع أنّها فاتنة.

أمسكتُ برأسي جيدًا. قرّرتُ أن أستعيدَ اللحظةَ الهاربةَ. أن أواجِهها مهما كانت فظاعتُها. بدأتِ الصورُ تَتّضح تدريجياً بفضل الرسوم والأسماء على حائط الزنزانة. قادتني نحوَ مَكتب رئيستي. تتراءى ملامحُ وجهها وهي تصرُخ. أهانتني طيلة عشر سنوات. لم أعد أحتمل. هي أيضا تقول: لي-زاغاب، مع أنني كنت أهديها الحلوى في الأعياد.

اقرأ للكاتب أيضاً: لنْ أقتَلَ، وفاءً لحديقتي

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم