الجمعة - 19 نيسان 2024

إعلان

لنْ أقتَلَ، وفاءً لحديقتي

المصدر: "النهار"
نجم الدين خلف الله
لنْ أقتَلَ، وفاءً لحديقتي
لنْ أقتَلَ، وفاءً لحديقتي
A+ A-

بعد ثلاث ساعاتٍ، سيُنفَّذُ فِـيَّ حكمُ الإعدام. تَقع زنزانتي في قبوٍ مظلم رَطبٍ. أشاركها مع شخصٍ صامتٍ. أنتظر لَحظة "التنفيذ" مَذعورًا. اعترفتُ بجريمتي كاملةً مع أني لم أفْهم أدنى إجراءٍ فيها. فما كنتُ أعي الكثيرَ مما ينقُلُه الـمُترجم الجزائريّ على مسامعي. كان يَخلط الفُصحى بدارجِتِه. لا أتْقِن لا هذه ولا تلك، عدا كلماتٍ متناثرة هنا وهناك. أعلم أنَّ كلمة exécution التي نَطق بها القاضي، تعني في الفرنسية: "حُكم الإعدام". حَفظتها من شريط "الـمُحاكَمة" الذي كنتُ شاهدته، منذ أعوام، في تونس مُتَرْجَمًا. ولا أدري لماذا عَلقت الكلمة بذهني. هل ما زالَ بإمكاني استئنافُ الحكم أو نَقضُه؟ لا أعرفُ. بصراحةٍ، لا أدْرِكُ أصلاً الفرقَ بين الكلمتيْن، ولكنني أردِّد ما سمعتُه من الـمترجم الذي كان يَنقل لي كلامَ الـمحامي حرفيًا وبِلامبالاةٍ. تتالى الجُملُ مِن فيه فارغةً، كأنها لا تعنيني.

ما آلمني فعلاً، طيلة أيام السجن، أنّني تابعتُ محاكمتي كما لو كانت منعقدةً لغيري. نعم، اعترفتُ بأحداثِها وتابعت فصولَها، ولكنني لم أعِشْها كطرفٍ. تضاربَت شهادات الشهود وتحقيقاتُ الشرطة. وكانت خُلاصة الـمُحلّفين تُدينني بوضوحٍ، أو هذا ما خُيِّل إليَّ من خلال حَركات الوجوه وتقاسيمها العابِسة. كنتُ أتابع المرافعات عبر تغيّرات الملامح وأشتات المعنى. أحيانًا يهرول المترجمُ الجزائري وراءَه ليُمسك بتَلابيبه. وغالبًا ما يتراخَى فيَقتَضبُ كلامًا طويلاً في جُملٍ قصيرة. يُربكني صاحبي في السجن بصمته الثقيل. نظراتٌ شاردة وهَمهماتٌ تَقطع الفراغ. محكومٌ عليه في قضيّة "إرهاب"، مع أنه لا لحيَةَ له !

العادة في السجون الفرنسية، حَسبَما شاهدتُ في ذلك الفِيلم، وحسب ما قيل لي قبْل هجرتي لفرنسا، أنَّ إدارة السجن تلبي الرغبة الأخيرة للمحكوم عليه بالإعدام. ما كنت أتصوّر البتة أنني سأصل باريس، بعد رحلة شاقّة، وأنني سأشتغل فيها سنواتٍ قبل أن أقبع هنا بتُهمتَيْ القتل والسّطو. ما عساها تكون رغبتي الأخيرة؟ "التنفيذُ بعد ثلاث ساعاتٍ. هل لديكَ ما تضيفُه؟"، خاطبني أحد السُّجَّان، دون أن يسألني عن "رغبتي الأخيرة". هل هي أكذوبة سينمائية؟ لم ينبس رفيقي ببنتِ شفةٍ. ظلَّ واجمًا. استعدتُ مرّاتٍ كلمة: exécution. أدركتُ أنَّ ساعتي قد حانَت. تردّدتُ بين طلب سندويش شاورما، تُركي شَهيّ، وبين دفتر وأقلام. قرَّ قراري على الثاني.

أردتُ أن أكتبَ شيئًا قبلَ "التنفيذ". لا تكفي المدة لتحرير قصيدة مَلحونة كما كنت أفعل في الحُقول، ولا لإنشاء رسالة وجدانية، كتلك التي كنتُ أرسلها لأهلي في الأيام الأولى من هجرتي. لم يبق لي سوى كتابة حكايتي: صفحة كلّ ساعة. طلبتُ من رفيق السجن أن أتناوَلَ قلم الرصاص وحِزمةَ الأوراق التي كانت على طاولته. لم يمانع. اكتفى بإيماءةٍ من رأسِه. بعد الفراغ من الكتابة، سَأطلب من مدير السجن نَشرها في أيّة جريدة. لا شكَّ أنه سيوافق على هذه الرغبة. كتبتُ:

"ضحيّتي رجلٌ يَعشق السّاعات الفاخِرة. هِوايتُهُ جمعُها من كلّ الأشكال والألوان والحِقَب، وعَرْضُها على طاولةٍ كبيرة في صالونه، ثم إخفاؤها في صندوقٍ فخمٍ، من أثاث فرنسا القرون الوسطى. يقوم بهذه الحركات بنسقٍ شعائريٍّ ألمحهُ من خَلف النافذة البلوريّة. كنت أعملُ بُستانيًّا عنده. نادرًا ما كان يَسمح لي بدخول صالونه ذاكَ. في مناسبة وحيدة، دعاني إلى ولوج بَيته حتى أوقِّع وثيقةً إداريَّة. كنت أشْتَغل ببطاقة "عامل أجنبي"، تُجددها لي "البرفكتور" مرَّة في السنة. في عملي بحديقته الغنّاء، استخدمتُ كلَّ خبراتي الفلاحية التي اكتسبتها من زراعة الأرض بِالساحل التونسي، قبل وصولي إلى ضواحي باريس بأبراجها العالية وحيطانها الـمُخَربَشَة بالغرافتي.

كان مديري، الذي أقنعوني أنّه صار ضحيّتي، راضيًا عن القران الذي عقدتُهُ بين أرضه ويديَّ. لم يكن زواجًا أبيضَ. في حديقته، غرستُ خِبرةَ القرون وصبرَ الأجداد. أخصبتُ تُربَتَها طِبقًا لأبْراج النجوم ومَنازل القمر. في أيام البرد القاسية، كنت أشجُبُ الأشجار حتى تتجمد مني الأصابع، ولا تدفئني سوى ذِكرى الأوائل، يَروون الأرض بعَرَقهم.

لا أدري لماذا تَلكَّأ في تقديم مُستندات تجديد بطاقة إقامتي لهذه السنة الثالثة. كان عصبيًا، على غير عادته. صار يتوجس خيفةً كلما أهملتُ حلقَ لحيتي ولو لِيَوميْن أو ثلاثَة. "البستانيّون غيركَ كثير. لن أعجز عن إيجاد مَن يشتغل مثلكَ". واستغلَّ بعض الذرائع الواهية حتى يفصلني عن الشغل. بلهجة مُهينةٍ، عاب عليَّ استراحةَ الشاي "التي أطيلها عمدًا"، حسب رأيه. وانتقد مكالماتي الهاتفيّة خلال العمل واستضافتي قريبًا، اضطررتُ للقائه في الحديقة لتسلم وثائقَ من أهلي. في الحقيقة، لا أفهم جيدًا كلَّ الكلام الذي يُرسله، ولكنني أجمعُ عناصر معناه وأرتِقها من خلال قَسمات وجهه وتغيّر نبراته. أدركت بغريزتي أنه صار متخوّفًا منّي.

رغم إلحاحي، فَصلني من الشغل ورفضَ تجديدَ بطاقتي. غادرتُ حديقتَهُ حزينًا على المشاتل التي زَرعتها ولم تورِق، والأشجار التي انتظرتُ أثمارَها ولم تَيْنَع. دون عَقد شغلٍ، يصعبُ تجديد البطاقة. خَذلتني ورقة تافهة قُبَيل أيام قليلة من انقضاء الأجل. عِشت رُعبَ التجديد، ذاك الذي يعرفه ذوو الوثائق المؤقتة. سيفٌ مسلطٌ على أعناقهم. يكادُ احتقار "البريفكتور" يصير هوسًا. لا نظيرَ لهذه الكلمة في بُلداننا. من مهامها إدارة أوضاع المهاجرين والغرباء واللاجئين. هي كابوسهم وعَذابهم.

بيني وبَينكم، خَطرَ لي بالفعل أن أقتُلَ مديري أو أن أسرقَ صندوقَ ساعاته. هو أعزّ ما لَديْه. مجرّد خاطرٍ. لكنْ مَنعني الحياء من تُربة الحديقة. أخجلني طُهرها الذي ألامسه بيَدَيَّ هاتيْن. الأرضُ، في عُرْفنا، لا تُخان ولا تهانُ. ظللتُ شهورًا بلا بطاقة. مع ذلك، سامحتُه إكرامًا للأرض. غير أنني ما تمالكت من زيارة الحديقة خلسةً بعد التأكد من غيابه. شوهِدتُ "وأنا أسقي المشاتلَ والأشجار كأمّ حنونٍ، تَنحني على صغارِها"، طبقًا لأقوال الجيران الشهود.

حسب ما علمتُ من مُجريات المحاكمَة ورواية المترجم، وُجد البيتُ مهجورًا بعد شهريْن من فَصلي. اختفى مديري السابق وطارَ معه صندوقُ الساعات الثمينة. طبعًا وُجِّهت إليَّ التهمتان: القتل والسَّطو. في منطق العدالة الفرنسية، أنا أقربُ الناس إلى ارتكاب هذه الجريمة. سمعتُ أنَّ رجلاً اسمه عمر الرّدّاد اتُّهِم بنفس التهمة. أقنعني المحامي أنَّ اعترافي قد يهوِّن العقوبة. لكن دون ضمان. كان المترجم ينقل جُمله بلا اكتراثٍ. فلا أفهم منها إلا نُتَفًا. تعود باستمرار كلمة exécution فأرتَعد. وتعود معها مشاهد شريط "المحاكمة". لكنْ ما قَتَلْتُه ولا سَرقتُ صندوقَه، وفاءً للحديقة.

وبما أنني أتَهيّب مظاهر السلطة في فرنسا ورطانَة القضاة وهم يصرّحون بأحكامهم، فَضَّلتُ الاعتراف بالجريمة رهبةً. ها أنا في هذه الزنزانة منذ سنة تقريبًا أنتظر "التنفيذ". الآنَ، بعد أقلّ من ساعة".

ما إن وصلتُ إلى هذه الكلمات حتى انفتَح الباب. دخل مدير السجن ومعه مُساعدان. أخرجوني بلطفٍ. ظننت أنَّ ساعة الوداع قد أزِفَت. أظلمت الدنيا وفكّرت في جدّي الفلاح، ويَدَيْه المشققتين. لَم يقودوني إلى المقصلة ولا إلى غيرها، بل إلى مكتبٍ مُرتّبٍ حيث ينتظرني المحامي. لمحتُ مِزهريّةً يملأها الوردُ والآسُ. غابَ المترجم هذه المرة. "بنجور مسيو ! قرَّرت المحكمة إخلاءَ سبيلكَ، وسلّمت لك "البريفكتور" بطاقة مؤقتة لثلاثة أشهر. يمكنك العمل والسفر بها في كلّ دول الاتحاد الأوروبي. كَشفتْ تحريات النيابة الجزائية أنّ مديرَك السابق سافر بصندوقه إلى دولة مجاورة. لم يُقتل ولم تُخْفَ جُثّتُه. وهذه مائة يورو كتعويض مبدئي، في انتظار رفع قضيّة "ريابِليتَسيون". لم أفهم الكلمة الأخيرة ! تعودّتُ.

غادرتُ السجن نحوَ أحياء Melun، إحدى الضواحي الجنوبية لباريس. ها أنا أستنشق نَسمةَ الحرية الباردة ولا أصدِّق. لم أفهم ما قاله المحامي عن "حَيثيّات الحُكم". أخذتُ قِطار الخط "D" وتوَجّهت مباشرة إلى حديقة البيت الذي كنت أعمل فيه. كانت الباب مُوصدًا. تسورّتُ السياج ورُحت أتفقد أزهاري. بَعدها، سرتُ نحو المطعم التركي المجاور، حيثُ تعوّدت على تناول سندويش شوارما. على شاشة التلفزيون، جون ماري-لوبان، زعيم الجبهة الشعبيّة، كأنه يدعو إلى إعادة تطبيق حكم الإعدام في فرنسا، ولاسيما ضد الإرهابيين. تلاحقني كلمةexécution . "وفي الشأن العالمي، تُضيف الـمُذيعة، قامت مجموعة متطرِّفة بإعدام شابٍّ، من أصل فرنسي، بتهمة التخابر مع العدو وتهريب صندوق ساعاتٍ فاخِرة". كأنني ألمح صورة قَريبي الذي زارني في الحديقة.

الكلمات الدالة

حمل الآن تطبيق النهار الجديد

للإطلاع على أخر الأخبار والأحداث اليومية في لبنان والعالم